البحث عن بطل عربي لرواية 1984/ علي أنوزلا
تداول مرتادو مواقع التواصل الاجتماعي في مصر اسم الكاتب البريطاني، جورج أورويل، بعد انتشار أنباء تفيد باعتقال طالب جامعي، يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان يحمل روايته الشهيرة “1984”، والتي تصنف من بين أشهر مائة عمل روائي في العالم. وحسب الأنباء نفسها، كان اعتقال الطالب بسبب حيازته نسخة من الرواية التي تتحدث عن حكم ديكتاتوري، شبيه بما يحدث اليوم في مصر.
وعلى الرغم من صدور توضيح عن الأمن المصري يدعي أن سبب اعتقال الطالب تصويره قوات الأمن في محيط جامعة القاهرة، وليس بسبب حيازته رواية أورويل، إلا أن السيف سبق العزل، كما يقال، فقد انتشر الخبر مثلما تنتشر النار في الهشيم، وأشعل تعليقات رواد المواقع الاجتماعية، وجعل كثيرين منهم يبحثون عن الرواية وصاحبها، وعاد النقاد إلى تحليلها وتقديمها من جديد، وأفردت لها برامج تلفزيونية، للحديث عن قيمتها الأدبية، وعادت المكتبات في أكثر من عاصمة عربية إلى طرحها على رفوفها، بعد أن ازداد الطلب عليها، والاهتمام بباقي مؤلفات كاتبها.
فلماذا كل هذا الاهتمام العربي برواية كتبت عام 1948؟ فهذه الرواية التي كتبها صاحبها نوعاً من العمل الأدبي التخيلي، اكتسبت قوتها وراهنيتها، في أكثر من زمان، لقدرتها على التنبؤ. فهي تتخيل مجتمعاً شمولياً، يخضع لسلطة مطلقة لحاكم مستبد، هو “الأخ الكبير” الذي يمثل الحزب الحاكم، تقوم سلطته على الخوف والترهيب وتزوير الوقائع والتاريخ، باسم الدفاع عن الوطن. ومن أجل فرض سيطرته المطلقة على الجميع، تقوم آلة الحزب الحاكم بإحصاء أنفاس الناس، وتترصد علاقاتهم الإنسانية من حب وزواج، وتراقب أفكارهم وهواجسهم.
ولعل أهمية هذا العمل الإبداعي تكمن في أن قارئه العربي، اليوم، أي بعد 66 عاما على كتابته، سيفاجأ بأن ما يتحدث عنه الكاتب خيالاً كان يتوقع حدوثه، أو لعله فعل ذلك للتحذير من حدوثه، سيجده ماثلاً أمامه ومتجسدا في الواقع الذي يعيشه المواطن في أكثر من بلد عربي.
فما كان يَنظر إليه جورج أورويل، كسيناريو مستقبلي مخيف، أصبح واقعاً قائماً في أكثر من بلد عربي. فأحداث الرواية تدور في دولة متخيلة، هي “أوشيانيا” أو “أوقيانيا”، حسب الترجمة، تقع تحت السيطرة الكاملة للحزب الحاكم الذي يجسده الحاكم المستبد “الأخ الأكبر”، شعار نظامها يقول: “الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة”.
ويقوم أسلوب الحكم داخل جمهورية الخوف هذه على إحصاء أنفاس الناس، من خلال زرع شاشات المراقبة، وبث الميكروفونات في كل مكان، لرصد حركات الناس وإصدار التعليمات لهم في كل زمان ومكان. وباسم وزارة “الحب”، يتدخل “الأخ الأكبر”، حتى في العلاقات الحميمية، مثل الزواج والحب، لتحطيمها حتى يبقى الولاء له وحده من دون غيره. بل وينتقل حتى إلى درجة التلصص على الأفكار، ليصل إلى مرحلة الاستبداد العقلي، فيصبح التفكير في حد ذاته جريمة. إذ لا داعي للتفكير، والمطلوب هو الإيمان بالمسلمات التي يقرها “الأخ الأكبر”، حتى لو طلب منه أن يسلم بأن اثنين واثنين يساويان خمسة، وليس أربعة، سلم بذلك بدون اعتراض أو تفكير. وتنتقل هيمنة “الأخ الأكبر” لتطال التاريخ، من خلال وزارة “الحقيقة” (وزارة الإعلام)، التي تسهر على تزوير الوقائع وتحريف الأحداث وتقلب الحقائق.
تبدأ أحداث الرواية عندما يقرر بطلها أنه لم يعد لديه شيء يخسره، ويشرع في تدوين أفكاره، فيتعرض لكل أشكال القمع والتعذيب، حتى يتم تحطيمه وتحويله إلى مجرد آلة مستلبة. إنه نموذج السلطة التي تقوم على زرع الخوف والرعب والقلق في نفوس الناس، للسيطرة عليهم وسلبهم من إنسانيتهم، وتحويلهم إلى مجرد آلات للعمل بلا مشاعر، ولا عواطف، ولا طموحات، أو آمال ولا قيم.
هذا النموذج من جمهورية الخوف، الذي تخيله جورج أورويل، سيتحقق على أرض الواقع في أكثر من زمان، وعلى أكثر من بقعة أرضية، وسيظهر على أرض العرب في أكثر من دولة عربية، في عهد جمال عبد الناصر في مصر، وتحت حكم صدام حسين في العراق، وفي عهد الأسد الأب والابن في سورية، وفي زمن حكم زين العابدين بن علي في تونس، وفي مملكة الحسن الثاني في المغرب، وتحت حكم هواري بومدين في الجزائر. ويتكرر اليوم في صيغة جديدة في عهد عبد الفتاح السيسي في مصر، وفي أكثر من جمهورية ومملكة أو إمارة عربية.
لذلك، عندما أذيع خبر اعتقال الطالب المصري بتهمة حمله رواية جورج أورويل، كتبت جريدة “الغارديان”، وهي من بين أرفع الصحف الرصينة في بريطانيا، أن النظام المصري، بقيادة السيسي، يدّعي أنه استولى على السلطة، لإنقاذ الديمقراطية، ويبرر ممارسته التسلط والاستبداد، من أجل بناء مستقبل أكثر حرية لشعبه. وذَكَّرت الصحيفة أن مثل هذا الادعاء هو ما تدحضه رواية جورج أورويل التي تكشف زيف ادعاء الأنظمة الاستبدادية التي تبرر قمع شعوبها باسم البحث عن سعادتهم، لكنها، في حقيقة الأمر، لا تعمل سوى على إخضاعهم، وسلبهم كل مقومات وجودهم. فما أشبه واقعنا العربي اليوم، في أكثر من دولة عربية، بما كتبه أورويل، في رائعته تلك، عندما سطر: “من يمسك بزمام السلطة، لا ينوي التخلي عنها. إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكماً استبدادياً لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة، لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة”.
لكن، في عتمة الظلام هذه، يظهر بطل الرواية، وندسون سميث، وهو موظف في وزارة “الحقيقة”، أي أنه صحفي، وهي مهنة جورج أورويل نفسه، ليبدأ التمرد على الخوف القابع بداخله، ومتحديا جلاديه، عندما قرر ارتكاب “جريمة التفكير”، منتقلاً من التفكير إلى التدوين إلى الفعل، عندما قرر الحب، غير آبه بمصيره الذي كان يتوقعه: “سيرمونني بالرصاص، بيد أنّي لا أبالي. سيطلقون النّار عليّ من الخلف، غير أنّي لا أبالي. وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائما يطلقون النّار عليك من الخلف، لكنّني لا أبالي. ليسقط الأخ الكبير. ليسقط الأخ الكبير..”.
كان بطل الرواية يدرك مصير تمرده على “الأخ الأكبر”، لكنه كان يدرك، أيضاً، أنه إذا ما استطاع أن يشعر بأن بقاءه إنساناً أمر يستحق التضحية من أجله، حتى لو لم يؤد ذلك إلى نتيجة، فإنه يكون قد ألحق بهم الهزيمة. فالبطل كان يؤمن بفرضية تقول: “لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا”، فالثورة تتطلب الوعي، والوعي لا يمكن تحقيقه إلّا بثورة العقول. لذلك، يخلص إلى إقناع نفسه بأنه “إذا كان هنالك من أمل، فهو يكمن في عامة الشعب، وعليك الإيمان بذلك…”. فما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا البطل في عالمنا العربي.
العربي الجديد