البحر المتوسّط.. مقبرة!/ سمير العيطة
في عرض البحر المتوسط بجنوب تونس العاصمة توجد جزيرة لامبيدوزا. إنها جزيرة إيطاليّة صغيرة بعدد قاطنيها البالغ خمسة آلاف نسمة مع ألف عنصر وعسكريّ وأمني. قوارب الموت رمت ثلاثة آلاف جثة على شواطئها. وآلاف ممن بقوا أحياءً تمّ ترحيلهم إلى معسكرات في مناطق أخرى بعد أن أغلق معسكرها حفاظاً على صورتها السياحيّة.
«ليس لدينا ما نخجل منه» تقول رئيسة بلديّتها في ذكرى الدفعة الأكبر من الغرقى، وتضيف: «لقد أنقذ صيادونا ما استطاعوا. لكنّنا ما زلنا إلى اليوم نشمّ رائحة الموت. والموتى أضحوا موتانا، إذ بقوا أرقاماً ولم يتعرّف أهلهم عليهم». وقالت لهم: (…) «المشكلة فيكم، في قوانين أوروبا، نحن أبناء هذا البحر، ولكنّنا في أقصى جنوب القارّة فأضحينا بالتالي حدوداً مغلقة مع أشقائنا». والصيّاد الذي أنقذ العدد الأكبر وأصبح مشهوراً، قيل له: «أنت بطل»، فأجاب ببساطة: «لا أنا فقط بشر وإنسان. أمّا أنتم السياسيون فلا أدري». كل هذا الكلام قيل أمام المسؤولين الأوروبيين.
لكنّ هذه الكلمات المؤثرة لا تنفع أمام القادة الأوروبيين، ذلك أن أكثرهم انفتاحاً وإنسانيّة باتوا متخوّفين، على خلفية حسابات انتخابيّة، ويردّدون: «نحن لا نستطيع تغيير سياسات الهجرة، ولا وقف نشر البوارج على حدود المياه الإقليميّة لدول الجنوب. ولا حتّى إيقاف عمليّات إرغام القوارب على العودة مع المخاطرة بغرقها». ويعلن النوّاب اليمينيوّن في البرلمان الأوروبي: «نحن لسنا سيارات أجرة ـ تكسي ـ للمهاجرين». ويجيبهم نوّاب اليسار المتطرّف صارخين: «أنتم وحروبكم التي قمتم بها، هي سبب الهجرة والموت، دعمكم للاستبداد هو سبب أيضاً، إذهبوا وقولوا لأصدقائكم الخليجيّين: «بعد أن موّلتم الحروب والإرهاب، تعالوا وموّلوا اليوم السلام والتنمية وتوطين المهاجرين». بالتالي «كفى نفاقاً إذ هناك من يموت أو يختفي حتّى بعد أن يصل الشواطئ الأوروبيّة سالماً».
هكذا هو مناخ إحياء ذكرى الغرقى. ذلك قبل أن يرمي مندوبون عن مجتمعات مدنيّة زهوراً على الشاطئ، ويتباحثوا حول حقوق الإنسان في حريّة التنقّل واللجوء. لكن من دون أن يتمكّن أحد من زيارة من لفظتهم القوارب الليلة الماضية، فقد تمّ ترحيلهم في الصباح الباكر إلى المعسكرات المؤقتة شمالاً إلى أرض أوروبا الواسعة.
سوريوّن، فلسطينيّون، عراقيوّن، إريتريوّن، ماليوّن وأفريقيّون باتوا يسلكون هذا المنحى نحو جزيرة لامبيدوزا وسواحل أوروبيّة أخرى انطلاقاً من أزمير ومرسين وغزّة ودمياط ورشيد… ومن شواطئ المغرب العربي الكبير… وشبكات مافيويّة بعضها شبه رسميّة، هي التي تقوم بعمليّات التهريب، وهي التي تأخذ الحصّة الكبرى من حفنة الدولارات التي يدفعها هؤلاء المخاطرين بالموت…
كيف سينتهي هذا الأمر؟
سيستمرّ الفلسطينيّون بالهروب من سجن غزّة، والعراقيوّن من الميليشيات الطائفيّة، والليبيّون والسوريّون من الحروب القائمة التي لا سبيل إلى إيقافها. وربّما سيضاف إليهم غداً غيرهم. إنّ عدد سكّان البلدان العربيّة سيتخطّى عدد سكّان أوروبا خلال العقود القادمة، وها هي تلك البلدان بعد أن فقدت التنمية خلال سنين ستفقد الاستقرار لأمدٍ طويل.
وأوروبا في أزمة اقتصاديّة خانقة، كلّ دولة فيها ترمي على الأخرى عبء اللاجئين. ويتصاعد نفوذ اليمين واليمين المتطرّف، خاصّة من جرّاء الأزمة، ويصب نيران سخطه على اللاجئين، تحديداً. كلّ ذلك بسبب بضعة آلافٍ من هؤلاء اللاجئين في حين تتحمّل الدول العربيّة المتوسطيّة، التي ما زالت نوعاً ما مستقرّة، عبئاً أكبر بعشرات بل بمئات الآلاف منهم.
مهما قيل، ومهما قدّمت منظّمات الإغاثة من مساعدات، تبقى أرض الإنسانيّة في الجنوب. ومن المجتمعات أكثر مما هو من الحكومات… في تونس وفي لبنان، في مصر والجزائر… وأيضاً في لامبيدوزا التي هي في النهاية مدينة من الجنوب. أقصى نقطة من أوروبا إلى الجنوب.
السفير