رشا عمرانصفحات الثقافة

البرية التي لا يذهب إليها أحد/ رشا عمران

 

 

 

-1-

أفكر أن الحب عصفور مكسور الجناح

وأنني أفعى أتسلّل بهدوء كي أقترب منه وآخذه في فمي

لكنه وهو يحاول التملّص مني

يعلق جناحه المكسور بين شدقي

ونعلق معًا في هذا الوضع الغريب

هو، يظن أنني سأبلعه

إذ لا يعرف عني غير الأساطير

وغير ما يوحيه له جسدي المتسلل بهدوء،

وأنا، أفكر أنني سأحميه في دفء فمي

لهذا لم أنتبه للألم الذي سبّبه لي طرف جناحه المكسور

ولم ينتبه هو للجروح التي يخلّفها تململه في فمي

هكذا، سأقضي بقية حياتي أنسلّ وحيدة في البراري

بفم مجروح يقبض على عصفور مكسور الجناح

وبخيط رفيع من الدم يسيل من فمي

ويلحق جسدي المتسلل

كشاهد دائم

يدل عليّ.

-2-

أفتح كفيّ وأنتظر تساقط النجوم

أنا أعرف أن للنجوم مزاجها

مثلًا:

هي لا تحب الأكفّ المبسوطة تمامًا

ولا تحب الأكفّ شبه المضمومة

ولا تحب الأكفّ الملساء،

لهذا،

أستخدم قلم الكحل وأحدد خطوط كفيّ

ثم أكورها كي تصبح بحجم قلب مجوّف،

حين تبدأ النجوم بالتساقط

ستظن أنها عادت إلى بيتها

وتلتصق بجلدي

ليس الأمر أنني أتلاعب بها

الحقيقة هي:

أنا أجمّل حياتي

وألعب مع الوحدة

لعبة الاستغماية

….

الحب يشبه نجمة تسقط في كف امرأة خمسينية

سيزول عنها أثر الكحل

حين تنسى وتغسل يديها.

-3-

كنت أقول لك إنك رجل ما تبقّى من حياتي، وأن حياتي لم تكن سوى وليمة مفتوحة، حطّم المدعوون كل أطباقها، ولم يبق غير طبق أبيض وحيد بطرف جانبي مكسور، وأنني، وأنا أمسك بيدك لأدلّك على الطرف المكسور، كنت أنبّهك إلى عماي، عماي الذي طالما أخفيتُه عن الآخرين. الآخرون الذين يظنون أنني أرى حتى النثرات الصغيرة من أطباقي المكسورة. لم تنتبه أنت أيضًا، كنت مأخوذًا بالشكل المدهش للكسر الجانبي، حين أفلت يدي، وقعت أنا على الأرض وتهشّمت ببساطة شديدة، بينما بقيت أنت واقفًا ممسكًا بطبقي الأخير، مأخوذًا بالشكل المدهش لكسره الجانبي.

-4-

أريد أن أكتب قصيدة عن الحب

مع أن يديك اللتين أكتب بهما، بعيدتان

وعينيك اللتين أرى بهما الأحرف، غائبتان

ولا أستطيع سماع نبضك في هذا الضجيج

ومع ذلك أريد أن أكتب قصيدة عن الحب

أو ظلّ قصيدة

أعلّقها كلوحة على الجدار.

بعد أيام ستكون عندي

وستسألني متى سيزورني الوحي

وسنضحك معًا من فكرة الوحي السخيفة

وستغادر

من دون أن تنتبه أن ثمة قصيدة حبّ على الجدار

وأن عينيك مرتا عليها

كوحيِ الشعر

الذي لا يصدّق وجوده

أحد.

-5-

الساعات التي أمضيها معك

الساعات القليلة التي أمضيها معك

الساعات النادرة

تكفي تمامًا كي تبقى غريبًا عني

ولا أعرف شيئا عنك

هكذا

إذا ما التقيتك في مرة قادمة

سأكون كامرأة تعرّفت إلى رجل للتو

وهي تحسب أنها ستنسى معه الرجل السابق

والألم الذي يخلّفه

غيابه المتكرر عنها

الحب أحيانًا

حالة فريدة

من حالات الزهايمر.

-6-

أحدق جيدًا بي. أراني في النساء اللواتي يجلسن خلف النوافذ المغلقة، يراقبن العابرات في الشارع، وبجانبهن فناجين قهوة منكّهة بالحسد. أراني في الحبيبات المهجورات اللواتي يدعين الابتسام كي يخفين دموع الاكتئاب المالحة. أراني في العشيقات السريات اللواتي يشترين ملابس فاضحة في انتظار عشاقهن الفاشلين. أراني في الزوجات المطمئنات اللواتي يميّزن رائحة نساء أخريات على أجساد أزواجهن، فيصمتن احترامًا لدورهن في سيرة الخديعة. أراني في النساء الوحيدات اللواتي لا يطرق بابهن أحد، ومع ذلك يضعن عينّا ساحرة أعلى الباب كما لو كن يكملن حكايا الانتظار. أراني في الشاعرات اللواتي يقررن الانتحار حين يدركن أن لا شيء في الحياة بات مهمًا للكتابة عنه. أراني في الراقصات اللواتي يراقبن ترهّل أعمارهن ويقسن الزيادات حول خصورهن بعدد عشاقهن الغائبين. أحدق جيدًا بي، وأراني في كل تلك النسوة، أنا التي لا يراني أحد، وإذا ما مررت يتجاهلني الجميع كما لو كنت عواءً حادًا في برية لا يذهب إليها أحد.

-7-

لا أملك الكثير من الأشياء:

ورد أبيض أضعه في الآنية وأراقب كيف تسقط أوراقه يومًا بعد يوم

قطة بيضاء تنتظرني وراء الباب حين أعود بخطوات مترنحة

غطاء سرير أبيض مبقّع برائحة الرجل الأخير الذي أحببته

قلب أبيض ثقبته أظافر الخذلانات المتكررة

وكحل أسود أتركه داخل عينيّ وأذهب إلى النوم

وكمثل كل النساء الوحيدات

أحلم بالملاك الأبيض الذي يزورني في منتصف الليل:

يمسح الكحل عن عينيّ

يعيد قلبي إلى هيئته الطبيعية

يلفّني بثوب أبيض لا تشوبه شائبة

ويضع بين يديّ وروده الغضّة

ثم يسلمني للفراغ

ويختفي.

وحين أستيقظ صباح اليوم التالي

أنظر في المرآة

فأرى شفاهًا جافة لم يقبّلها أحد حتى قبلة الوداع

وأرى عينين غائبتين

كعيني قطة مرّغت وجهها بالرماد

وعلى السرير

ثمة قلب ملفوف بأوراق ورود ذابلة

بينما تنتشر في الغرفة رائحة الرجل الأخير الذي أحببته

كما لو كانت الدليل الوحيد على الفراغ

الفراغ

الذي سأسلم نفسي له

في الليلة القادمة.

 

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى