البنية الهرمية لداعش تنمي أطيافه الغامضة وصناديقه السوداء/ علي العائد
ضرورة الحذر من أشباح داعش
يموت واحد من داعش، وعشرة منه، وألف، ولا تنتهي الفكرة. ويجف مصدر تمويله، فيتدفق منهل آخر لا نعرف منبعه إلا بدلالة ارتفاع نسبة الناس الواقعين تحت خط الفقر في مناطق استزراع التنظيم في العراق وسوريا، وفي جغرافيات أخرى مضافة من مناطق قوة الجذب السلفية وفي مناطق إنتاج بذور الفكرة في أكثر من جغرافيا في العالم الإسلامي.
الارتباط أكيد بين الفقر والفكرة الداعشية مهما تحولت في الاسم والمضمون، لكن ذلك لا يتم بميكانيكية بسيطة، بمعنى أنه ليس كل الفقراء يدخلون في “دين داعش”، فالنسبة الأعظم من فقراء داعش يدخلون اضطرارا، كمصدر رزق، أو كطموح إلى مكانة، أو بدماغ مغسول نتيجة طول فترة التعرض لإشعاع الفكرة.
لكن المؤكد أن الفقر بيئة خصبة للتحول من “داعش البعثي”، إلى “داعش السلفي”، ثم “داعش الكردي”، أو ما يمكن أن تجود به قرائح صانعي الفقر وممهدي الأرض أمام عنف التطرف.
حدث هذا في الموصل والرقة ومنبج، كما سيحدث في أي منطقة يستقر فيها التنظيم لمدة عام، أو أكثر، دون أن يضايقه الأعداء بحرب هنا، أو معركة هناك في معاقله المؤقتة.
في فترة سلام داعش المؤقت، لجأ قادة فكر التنظيم إلى الهجوم، طمعا في ضم أرض جديدة، وتوسيع حدود “الخلافة”، ونجحوا في ذلك لاعتبارات أتقن صانعو داعش التمهيد لها. ففي العراق، نشأت المظلومية السنية من حكم بغداد المركزي الهجين بين الفساد والطائفية.
الحكم على الدواعش الأوروبيين بالمؤبد لن يشكل خسارة للتنظيم، ما دام صانعو فكرة داعش يعتقدون أن الفكرة حية
وفي سوريا، أغرق المال الثورة، فتناسلت الكتائب الإسلامية مدفوعة بولائها لدافعي الدولارات البخلاء بالسلاح اللازم للتصدي لداعش، أو للنظام، على اعتبار أنه كان الذريعة الأساس للتسلح والقتال. وحده داعش، لم يجد صعوبة في الحصول على المال والسلاح، ولذلك سيطر في مرحلة ما من عام 2014 على نصف مساحة سوريا، وثلث مساحة العراق.
ولأن التنظيم سري التكوين والتراتبية، ولا يظهر لنا منه سوى القادة العسكريين الظاهرين، والجنود، والشرعيين، والمحتسبين، ولأنه سلفي الفكرة ومؤمن بفكرة “القبور الدوارس”، بدلالاتها التقشفية والزاهدة في “الحياة الدنيا”، فإنه يسير على مبدأ “مات الملك عاش الملك”، مهما بلغت مكانة الفرد، وصولا إلى مستوى منصب “الخليفة”، فيما سيمثل كل داعشي على قيد الحياة ما يشبه “المهدي” الذي يختفي ولا يموت، أو المسيح الذي يُبعث في آخر الزمان، حتى لو تكتمل علامات الساعة.
وفيما تشترط الرواية غير التاريخية ألا يعود “المهدي” التقليدي، عند السنة أو الشيعة، إلا في نهايات الزمان عند تمام علامات الساعة، لـ“يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا”، لا يتطلب مهدي داعش إلا أن يرفع السيف لقتال المرتدين قبل الكفار لـ“تحكيم شرع الله” بـ“تمكين في الأرض”، أو دون تمكين.
مانيفستو داعش ليس له دليل متفق عليه، لكنه يشبه نسخا أقل تشددا بقليل لدى جماعات معاصرة من الإسلام السياسي. وحتى لو حاجج منظرو التنظيم وأتباعه بآيات من القرآن، وأحاديث صحيحة، ستجد من يختلف معهم في تفسير الآيات، وإسناد الأحاديث، كما تجد من يؤيدها.
في كل الأحوال، هنالك شبه اتفاق يتمثل في أن لا علاقة بفقه الدين على أن داعش ظاهرة فوق دينية، وفوق سياسية، علاماتها محفوظة في صناديق سوداء لن يتأخر فك شيفراتها من قبل جحافل مخابرات إقليمية وعالمية تستوطن في سوريا والدول المحيطة بها.
وسيكون وقع الكشف عنها ليس أقل مما فعله إدوارد سنودن في برنامج التجسس الأميركي “بريسم” على دول عالمية، وعلى زعماء تلك الدول، ومن قبل ما فعله جوليان أسانج، بنشر فصول من وثائق “ويكيليكس”، أو ما فعلته مجموعة وثائق بناما بنشر فضائح التهرب الضريبي وغسيل الأموال لشخصيات سياسية متنفذة.
وعلى عكس المتوقع، وهو أن يحصل أصحاب تلك الكشوف على نوع من الحصانة من المجتمع الدولي، فإنهم ملاحقون، أو معتقلون، بل إن الصحافية المالطية المساهمة في تحرير وكشف وثائق بناما، دافني كاروانا غاليزيا، قد اغتيلت يوم 18 أكتوبر الجاري، بعبوة ناسفة في سيارتها مما تستخدمه المنظمات الإرهابية.
في ما يخص داعش، لن يصادف التنظيم مشكلة بسبب خسارته لشرعييه، قتلا أو سجنا، فالمانيفستو موجود وجاهز للتطبيق متى سمحت تضاريس مصالح الدول بتمهيد الأرض أمامه.
من يدفع الثمن هو المجتمع الذي زرعت فيه الجماعات، لتبقى اللعبة سرية، سواء أثناء أداء الدور الوظيفي أو بعد انتهاء الدور
كما أن الحكم على الدواعش الأوروبيين بالسجن المؤبد لن يشكل خسارة كبيرة للتنظيم، ما دام صانعو فكرة داعش يعتقدون أن الفكرة حية، ومن الممكن إيقاظها في أي وقت كدم صارخ في البرية يطلب الثأر من لا أحد، ومن كل من يصادفه أي داعشي في طريقه.
وحتى اليوم، حقق صانعو داعش ومحركوه، عبر واجهة “الخليفة البغدادي”، وأعوانه، كل أهدافهم، بتدمير مدن على رؤوس أهلها، وتشريد من استطاع الهروب بحياته قبل التدمير، بل وبتوسيع الشرخ الطائفي المؤسس على الفقر الذي يزداد عموديا وأفقيا في معظم المجتمعات العربية.
الآن، في الرقة، وفي الموصل، ينتظر بسطاء الناس، وعقلاؤهم، وسياسيوهم، أن يأتي الحل من أميركا، في عجز يائس من دول الإقليم التي لا تقول ولا تفعل، بل تنفذ، وفي شك من عودة قيام الثورة السورية، وإحباط من تركيبة المحاصصة الطائفية لحكومة بغداد، وفي ما يشبه حالة فصامية متمايزة تطلب الحل من صانع المشكلة، أو المحرض عليها.
فأمر “مهدي داعش”، على عمومه، لا يحتاج إلى دليل، بل إلى قياس، فمن صنع أصل الإسلام السياسي، هو من صنع “القاعدة”، ومن صنعهما هو من دعم الدكتاتوريات، ليس بفهم عبقري لما ستقود إليه الصدفة، لكن بـ“تشريك” خيوط تبدو متباعدة لأول وهلة، لكنها لا تلبث أن تتقارب حتى تصبح “شركا” وفخا يضيق على الحاكم الدكتاتور وعلى الجماعات المتطرفة، لكن من يدفع الثمن دائما هو المجتمع الذي زُرعت فيه الجماعات المتطرفة برعاية الدكتاتور، لتبقى اللعبة سرية، سواء أثناء أداء الدور الوظيفي، أو بعد انتهاء أداء هذا الدور.
وحتى بعد إعلان طرد داعش من الرقة، لا يزال “المحررون” يعيشون رعبهم الحذر على الرغم من خطابات ودبكات التحرير، ففي يوم الأربعاء الماضي قتلت عائلتان قنصا أثناء الاقتراب من المدينة، ظنا من القناص أن هؤلاء مندسون من داعش جاؤوا في وضح النهار. وهذا مؤشر على إمكانية وجود دواعش في أطراف المدينة، أو حتى داخلها، خاصة أن “قسد” لم تكمل بعد تمشيط المدينة الخالية من المدنيين الأحياء اليوم. ومن الممكن أن تنهض ذئاب منفردة “مهدوية” من بين الأنقاض التي يظنها “المحررون” مجرد جمادات لا تقوى على النهوض، خاصة أن “قسد” وأتباعها منهمكون أثناء التمشيط بـ“التعفيش” وفق ما يرد من أخبار.
العرب