صفحات الثقافة

«البوكر» تطارد الرواية العربية


مودي بيطار

 تجربتي فيها العام الماضي أن الوقت من أهم ما فيها. يتوالى وصول الروايات، دفعة إثر الأخرى، ويتساءل أعضاء اللجنة كيف سيستطيعون قراءتها في نحو أربعة أشهر. ما الذي يحدّد مصير الكتاب هنا قبل أن يقرّر المحكّم متابعة قراءته أو وضعه في الكومة المرفوضة؟ يعرف الناقد إذا كانت الرواية جيدة أو سيّئة من الصفحات الأولى، ويكون محظوظاً إذا سمح له ضميره بالوصول عندها إلى قول «نعم» أو «لا». ماذا يفعل إذاً ليقول إنه عدل مع الكاتب؟ يقرأ خمسين صفحة، مئة، نصف الكتاب السيئ؟ قد يحدّد رئيس اللجنة الحكَم عدد الصفحات الكافية لإقناع المحكّم بوضع الكتاب جانباً أو متابعة القراءة، لكن رأيه غير ملزم لتحكّم عادات القراءة بصاحبها سواء كان ناقداً أو قارئاً عادياً. قد تغيب رواية جيدة أو أكثر عن القائمة الطويلة، وحتى القصيرة، إذا منع ضيق الوقت لجنة التحكيم من القراءة ما يكفي قبل وضع كل محكّم لائحته. أعتقد أنني أضجرت زملائي، رئيس لجنة التحكيم الكاتب السوري جورج طرابيشي و هدى النعيمي (قطر) وهدى الصدة (مصر) بتكرار الإشارة إلى غياب رواية عن اللائحة القصيرة كانت جديرة بها. لكنهم هم أيضاً أعجبوا بروايات أخرى وتنازلوا عما رأوه حقها في الترشّح للجائزة خلال النقاش والمفاضلة والتصويت. توفيراً للوقت صنّفت الروايات «نعم» «ربما» و «لا»، وعند انتهائي من قراءة الروايات الـ103 قارنت بين ما نال «نعم» و «ربما».

تتيح سلطة رئيس اللجنة له اتخاذ قرارات، منها موعد تسليم القائمتين الطويلة والقصيرة، تؤثّر في اختيار اللائحتين والفائز بالجائزة. برز خلال عملنا هاجس الصدقية الفردية الذي ينعكس على سمعة الجائزة سلباً وإيجاباً. توقفنا عند الأخطاء اللغوية المخزية من نوع «أنتي» للمخاطب الأنثى، «هل تمزحي»، «رحلة حريمي»، «دفع حساب الاثنين قهوة وانصرف»، «ليشربوا علبة السجائر التي اشتروها شركة»، «حتى يتكلمون» و «مستواك المادي كان أفضل مني». من أمثلة التكلّف غير المفهوم: «كان طيّباً كأم فقدت ابنها الوحيد في الحرب»، «كان شارع البحر (…) كرجل عجوز على حافة الموت»، «ابتسامة ليلية تشبه رائحة الفواكه»، «لا أحد يفرّق بين زغاريد النساء وزقزقة العصافير»، و «حنيناً ميتاً مثل هيكل سفينة عتيق تآكل مع الزمن». كتب البعض بلغة مشغولة، زائدة، ولهجة عامية عصت على الفهم، وكرّرت كاتبة على لسان راويتها كلمة «مفاتني» ثلاث مرات في ستة أسطر. في رواية لفتت البعض، يرى طبيب نفسي أجنبي فُرض عليه علاج فتاة عربية أنها ضحية حرب ضرورية للديموقراطية، وأن الاغتصاب جانب إيجابي للحرب لكسره حدة التوتّر العدواني: «نعمة لا ينبغي التقليل من شأنها»! كيف نصدّق أن طبيباً يجرؤ على التفوه بمثل هذه الدرر حتى إذا سلّمنا بأنه يؤمن حقاً بها؟

تحتاج دور النشر العربية إلى محرّر يصحّح اللغة ويضبطها، يراقب المضمون، وينصح بإعادة الكتابة أو رفض النشر. طريقة عمل بعضها الحالية تحتقر القارئ الذي لا تبرّر قلّته تجاهلها تقديم أفضل الممكن له. وفق الصيغة الحالية، التي قد تكون لجنة الجائزة أجرت تعديلات عليها، تُعامل دور النشر الكبيرة والصغيرة بالتساوي. يحق لكل منها ترشيح ثلاث روايات للجائزة، ويمكن كلاً من أعضاء لجنة التحكيم أيضاً اقتراح رواية واحدة. هل تتحسّن النوعية إذا قدّمت دور النشر الكبيرة أكثر من ثلاثة أعمال؟ لجنة الجائزة تسأل العاملين معها كل عام عن طرق تحسين تمثيل الأدب، والناشرون والكتّاب أول المعنيين بذلك. تجاهلت دور نشر شروط التقدّم للجائزة، ورشّحت مجموعة قصص قصيرة، أو رواية سبقت الفترة الزمنية المحدّدة. زوّرت دار تاريخ الطبع لترشّح رواية جيدة كتبت على غلافها أنها حوّلت مسلسلاً تلفزيونياً فأثارت الشك، ودفعت مديرة الجائزة فلور مونتارو والمحكمين إلى التأكد من تاريخ نشر طبعتـها الأولـى. شـكّلت الـكاتبــات أقـل مـن سـدس المرشحين لعام 2012، في حين كـوّنت النـساء غـالبـية في لـجـنة التـحـكيم. لامتنـا كاتبات على إدراج كاتبة واحدة في القائمة الأولية (الكاتبة العراقية حوراء الندّاوي عن «تحت سماء كوبنهاغن») وكان الجواب دائماً أننا لم نختر على أساس الـجنـس. قُـدمّت الدكتـورة الـصـدة كنسوية في كلمات التعريف بـلجـنة التحكيم، ولئن حرصت مع جميع أعضائها على حقوق الكاتبات، والنساء، لم يعنِ ذلك، لها ولهم، التحيّز باسم النسوية. غابت الندّاوي عن القائمة القصيرة لأنها لم تحصل على عدد كافٍ من الأصوات، ولم تحتج النساء الثلاث في اللجنة إلى تأكيد موضوعيتهن بالتخلي عنها.

نفر أعضاء اللجنة الحكم من اختيار فائزَين منذ اللحظة الأولى. حتى حين تمسّك بعضنا بخياره الأول وبدا الاتفاق صعباً، لم يخطر لأحد حل النقاش باختيار فائزَين. يبدو الخيار الأول الأكمل والأفضل، ويشعر المحكّم بظلم التسوية حين يتخلّى عنه. ينسحب ذلك على الجميع الذين يدركون أن الاختلاف طبيعي في الوقت الذي يرون أنهم يحتكمون إلى المعايير نفسها. لا شيء يضمن اختيار الأفضل حتى مع توافر أطيب النوايا، ويبقى فوز كاتب مستحق عن رواية غير مستحقة أفضل من ربح كاتب لا يستأهل عن كتاب لا يستأهل. هل يغرينا التصويت لروائي من بلادنا إذا استُبعِد العمل الأفضل لسبب ما، وتساوى عمل هذا الروائي مع غيره؟ بالطبع، لكن كيف نستطيع الدفاع عن خيارنا إذا كافأنا عملاً متوسطاً بجائزة ما وتجاهلنا الروايات الأفضل؟

من أهداف الجوائز الأدبية توسيع السوق في بلادها وخارجها، لكننا لا نعرف مدى نجاحها في الحض على القراءة. كان مثيراً للاهتمام مقارنة نقاشنا في اللجنة بتساؤلات نحو مئتي عضو في نوادٍ نسائية عدة للكتاب في لقاء بات تقليدياً تدعو إليه الشيخة شمّة بنت محمد بن خالد آل نهيان. يحضر اللقاء الكتّاب على القائمة القصيرة وأعضاء لجنة التحكيم بعد اختيارهم الفائز، ويشكّل أحد مؤشرات ارتباط سيدات من الأسرة الحاكمة والطبقة الميسورة بالتغيير. كانت الحاضرات قرأن الروايات الست المرشّحة للجائزة، وتساءلن عن غموض الهوية الدينية، وربط بعض الكتّاب الدين (والحجاب) بالتخلف والفشل. لفتت الشيخة شمّة إلى طغيان المأساة على الأعمال في القائمة القصيرة، وتساءلت ما إذا كانت علاقتها عضوية بالأدب الرفيع. إلى جانب ملاحظات بسيطة حول غياب الاخضرار والعطر من «نساء البساتين» للتونسي حبيب السالمي، رأت حاضرات أن تشابه هذه الأعمال (هجرة، حرب، صراع الحضارات والأديان) قد يدل على مرور الأدب العربي في حال اجترار.

هل تكتشف الجائزة الرواية العربية الكبيرة؟ قد تكون مرّت وكوفئت، وقد تكون مضت وكوفئ غيرها. هذه حال الجوائز كلها، والرجاء أن تعدل، وتحسّن وتوقع المزيد من العرب في غرام الكتب والقراءة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى