البيت بوصفه فندقاً/ هنادي زرقه
قُيِّض لي كعازبة تعيش مع أمًّ مريضة أن أبقى في بيت العائلة الذي لم يُشيّده أبي وأمي، بل آل إلى أمي بعد وفاة جدي وزوجتيه.
بُني هذا البيت في أواخر خمسينيات القرن المنصرم فوق أنقاض البيت الطيني الذي كان يقطنه جدي وزوجتاه وأبناؤه وحيواناته. وقد شيّده على شكل غرف متلاصقة تشبه عربات القطار، كلُّ غرفة تخصُّ عمّاً من أعمامي، مع غرفة لأبي ولنا بالطبع. وقد دُعيت كل غرفة باسم بيت صاحبها، حتى إنَّ أمي، بعد زمن طويل من إقامتنا في البيت، كانت لا تزال تسألني قبل النوم: «هل أقفلت البيوت؟» مشيرةً إلى الغرف الكثيرة.
كان جدي رجلاً نبيلاً وكريماً، كما تناهى إليّ. وكان بيته محطة للعابرين نظراً إلى موقعه في منتصف الطريق الواصل بين مدينة جبلة والقرى الجبلية النائية. وقد استقبل كثيراً ممّن تقطعت بهم السبل أو تأخروا في المدينة ولم يسعفهم الحظ بسيارة تقلّهم إلى قراهم، أو لم يعد بوسعهم إكمال الطريق سيراً على الأقدام بعد هبوط الليل، فكانوا يطرقون باب جدي ويبيتون عنده. وأذكر من طفولتي أنَّ غرفة جدتي كانت فيها طاولة كبيرة اصطفت عليها الفرش والوسائد والأغطية التي تخص هؤلاء العابرين.
لم يكن ثمة مرحاض أو حمام أو مطبخ. كان الطعام مشتركاً بين الجميع، يطهونه على النار في قدور نحاسية كبيرة لازلنا نحتــفظ ببعض منها إلى الآن. أما المرحاض فكان في أرض مجــاورة للمنزل ولكن بعيداً عنه. وهو عبارة عن حفرة محاطة بألواح معدنية مصطفة إلى جانب بعضها ولا سقف لها، وكان مكان الحفرة يتغيّر من عام لآخر. كان علينا ألا نفكر في الذهاب إلى المرحاض بعد مغيب الشمس في طفــولتنا، ناهيك عن أيام الشتاء، حين كانت فكرة الذهاب إليه أشبه عقوبة، إذ تصل مبللاً وساقيك ملطختين بالوحل حتى الركب.
كانت غرفتنا، شأنها شأن غرف الأعمام، هي بيتنا كله: غرفة نوم واستقبال ومطبخ وحمام في آن واحد. كانت أمي تسخّن الماء على موقد كاز، ونتناوب على الحمام، وعلى من يستحم أن ينتظر خارجاً حتى ينتهي الجميع.
مات جدي قبل أن أولد بأشهر، ولحق به أبي بعد ما يقارب سنوات ستّ. وانتقل كل عمّ من أعمامي إلى بيت جديد حديث في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، في حين بقينا في المنزل، نظراً إلى سوء أحوالنا المادية بعد وفاة أبي. وورثت أمي المنزل ومعه زوجتيّ جدي اللتين أصيبتا بالشلل. وكان الاعتناء بهما من واجب أمي، ونلت معها النصيب الأكبر في الاعتناء بزوجة جدّي الثانية. أضافت أمي في هذه الفترة غرفتين وحماماً إلى المنزل ليغدو على شكل زاوية قائمة.
لم تطرأ تغيّرات كبيرة على المنزل وعاداته، حتى بعد توفّر وسائل النقل. فلطالما بقي البيت محطة للمسافرين من العائلة الكبيرة ومن العابرين، وإن كان عددهم قد تضاءل نسبياً. كان ذلك بالنسبة إليّ، طفلةً ومراهقةً، محطّ استهجان، فما الذي يفرض علينا أن نستقبل غرباء في بيتنا؟ لكن أمي أفهمتني: «هذا بيت جدك، كان مفتوحاً على الدوام وسيبقى مفتوحاً لكل عابر سبيل مادمتُ على قيد الحياة».
كبرنا في المنزل بذاكرة مشتركة تخصّ جميع قاطنيه ومن نزلوا فيه، إذ يندر أن يكون من بين الأقرباء من لم ينم فيه ولو ليلة. لم يكن لأحد منا خصوصية كأفراد أو كأسرة. تزوج إخوتي وغادروا المنزل، وبقيت مع أمي وجدتي المشلولة التي أودعتني ذاكرتها من أيام سفربرلك قبل أن ترحل. غير أنَّ أخي الأكبر ما لبث أن عاد ومعه وزوجته وأولاده كي يقيم معنا، ريثما تحسنت أوضاعه المادية وشيّد منزلاً جميلاً وانتقل إليه. هكذا، عدتُ للعيش وحيدة مع أمي، لكن البيت بقي على حاله في استقبال الزائــرين، وقلما تناولنا وجبة واحدة بمفردنا.
لم يتغير أثاث البيت كثيراً. أضفنا بعض الأرائك والكراسي، لكن الأسرّة الحديدية بقيت على حالها، ومنها سرير جدتي الذي آل إليّ من أمي. غالباً ما تراودني أفكار غريبة عن هذا السرير، جــدّي وزوجتاه، أمي وأبي، كم شهد من لحظات حب وانكســارات وخيبات، خمسة أرواح تحلق فوق رأسي ما إن أضعه على الوسادة.
حين اقتسم إخوتي الإرث، بات البيت من نصيبي بما فيه من انكسارات وتصدعات وشقوق. حاولت تحسينه ما أمكن، أدخلت الأجهزة الكهربائية الحديثة، غيّرت بعض ما فيه من أثاث. لكن الأمر كان مثيراً للسخرية إلى حدٍّ كبير، كما لو أنَّ سيدة عجوز لا تكفّ عن إجراء عمليات التجميل لتخفي آثار تقدم السنّ. لم تجد التحسينات نفعاً، وعاودت التصدعات الظهور في الجدران. وعلى الرغم من ذلك كله، بقي البيت يجمع أفراد العائلة الكبيرة في الأعياد والمآتم، حتى بعد أن مرضت أمي وعجزت عن استقبال الضيوف. لم يسعني حتى أن أهمس بيني وبين نفسي: «إنه بيتي». فهو «بيت أمي»، لا يزال.
بيد أنّ الفكرة بحدّ ذاتها تبقى متعبة: كأن تستيقظ في الصباح لتجد إخوتك ومعهم بعض أصدقائهم أو أولاد عمومتهم، وقد جلسوا على الشرفة يحتسون القهوة ويدخنون النارجيلة ويخوضون الأحاديث بصوت مرتفع غير آبهين بوجودك، الأمر الذي قد يتكرر حين عودتك من العمل. فالبيت مفتوح غالباً، والجميع يعرف مكان مفتاح المنزل إن كان مغلقاً، بمن فيهم الجيران. وبالنظر إلى مزاجي السيئ عموماً، فقد تأففتُ كثيراً من هذه العادات في البداية، ثم ما لبثتُ أن اعتدتها، بل الأسوأ أنني أصبحت أشكو الوحدة.
شهدت الأعوام الخمسة الأخيرة تدهوراً سريعاً في صحة أمي الجسدية والذهنية تزامن مع تدهور المنزل. تكاثرت صدوع الجدران. اهترأ خشب الأبواب وانتزعت مقابضها. راح الماء ينسرب من السقف جداول. بعبارة أخرى، لم يعد المنزل صالحاً للعيش بل آيل للسقوط في كل لحظة، غير أنني مضطرة أن أبقى فيه طالما بقيت أمي على قيد الحياة وإن غدت أشبه بدمية خشبية.
كم تشبه سوريا بيت أمي وهو يتداعى: منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن، كانت سوريا محطة للمهجَّرين، فلسطينيين وعراقيين وكل فارٍّ من بلده. لم تكن ذلك البيت الرائع الذي تتوافر فيه مقومات الحياة كلها، ولم تحاول السياسات المتعاقبة أن تحسِّن من ظروف العيش، بل كان كل شيء مهترئاً ينخره السوس من الداخل، وما إن اندلعت الأحداث الأخيرة حتى تبيّنت لنا هشاشة البيت السوري، دولة وبشراً.
كأن احدهم أطلق صافرة الرحيل فغادر الناس على عجل، حتى من لم يطله أيّ ضيم وكان إلى عهد قريب من أرباب السلطة ذاتها. لا أتحدّث هنا، بالطبع، عن أولئك الذين نالتهم يد العسف والظلم والاعتقال، ودمِّرَت مدنهم وهجّرتهم وقتلت أحبابهم، بل عن أناس اعتبروا أنفسهم نخبة الشعب السوري. دع عنك من بين هؤلاء من لا يفرّقون، في فسادهم وتنصّلهم من البلد وتحريضهم على القتل، عن الذين ثاروا عليهم.
لعلّه ليس من حقّ أحد أن ينحو باللائمة على أيّ أحد آخر في اختياره الهجرة، خصوصاً إذا كان المهاجرون لا يبخلون بالقصائد والمهرجانات وإيقاد الشموع والخطب الكلامية الفذّة وحتى حملات الشتائم على وسائل التواصل الاجتماعي، ناعتين من بقوا بالخنوع أو بالخيانة. فلمَ لم نغادر؟!
في الواقع، لا أعلم لِمَ لم أغادر، وما سبب بقائي هنا. ما أعلمه أنَّ هذا البيت بيتي. وهؤلاء الناس أهلي. وهذا البلد المطعون وطني. وأنني أكون حيث يكونون، بلا أيّ تساؤلات إضافية. لعلّي من النوع الذي لا يقوى على حرق أوراقه والمضيّ، لكن هذا المكان الذي شهد ضحكاتنا وإخفاقاتنا وقصص عشقنا الأولى يستحق أن نكون معه في محنته أيضاً. ولعلّ من حظّ السوريين الذين بقوا أنهم سيُعيدون بناء هذه الأرض الخراب وزراعتها كما يرغبون، وبالطريقة التي تلائمهم. هؤلاء، هنا وهناك، هم الذين دفعوا الدم وعانوا، ولم تكن سوريا بالنسبة إليهم محطة عبور، بل المهد واللحد وما بينهما. ولا شكّ في أنهم سيشيدون بيوتاً لأحلامهم لا أحقاد فيها ولا ضغائن على الرغم من جميع الهول الذي نشهده الآن.
السفير