بكر صدقيصفحات سورية

التاريخ النضالي” ومجتمع الثورة السورية

بكر صدقي

بعدما تعرض قادة في “هيئة التنسيق الوطنية” لاعتداء، أمام مقر الجامعة العربية في القاهرة، خريف العام 2011، عاد تعبير “التاريخ النضالي” إلى الظهور في سياق مختلف. تم استحضار “تاريخهم النضالي” في معرض استنكار هذا الاعتداء، والدفاع عنهم في وجه انتقادات تعرضوا لها بسبب موقفهم من النظام السوري ومن الثورة.

بدا المشهد السسياسي السوري، وكأننا أمام تصنيف حاد بين ما سمي بـ”معارضة الداخل” ممثلة بهيئة التنسيق الوطنية بصورة رئيسية، وما سمي بـ”معارضة الخارج” ممثلاً بالمجلس الوطني الوليد.

الواقع أن هيئة التنسيق استثمرت هذا الانطباع الخاطئ لاكتساب فضيلة مفترضة لا تستحقها. فلا تيار المجلس الوطني كله في الخارج ولا يفتقد أفراده إلى تاريخ نضالي. بالمقابل ليس كل تيار هيئة التنسيق موجوداً في الداخل، ولا يمتلك كل قادته تاريخاً نضالياً. يحسن، والحال هذه، إخراج مفهومي الخارج \ الداخل والتاريخ النضالي خارج القوسين، والبحث عن “المساهمة” في العمل الراهن بما يخدم أهداف ثورة الشعب.

من جهة أخرى، ينتقد نشطاء الداخل من المعارضة الجديدة، زملاءهم الذين فروا، في لحظة من اللحظات، خارج البلاد، إما بسبب خطر على حياتهم أو بفعل الإنهاك من العمل الثوري أو لتحقيق طموح سياسي في أطر المعارضة الناشطة خارج البلاد. وفي هذا “الخارج” يتعرض القادم من “الداخل” لامتحان فوري ممن سبقوه: “ما هي مساهمتك في فعاليات الثورة؟”

على جوابك قد يتوقف كل “مستقبلك السياسي”. تحت هذا الضغط يضطر كثير من النشطاء لاختلاق “تاريخ نضالي” طازج سيكون بمثابة CV يحدد مصيرهم الشخصي والسياسي. وهكذا حين تلتقي بناشط شاب في الخارج، سيذهلك بسرد “تاريخه النضالي”.

كل واحد منهم أشعل شرارة الثورة في مدينته. ولولا عمله البطولي لما قامت الثورة أصلاً.

يختلط في هذه الروايات الحقيقي والموهوم. ويتساوى الجميع في “تاريخ نضالي”. قد تكون مساهماتهم فيه متفاوتة. لن تجد أحداً يجرؤ على القول إنه لم يشارك في أية مظاهرة، أو لم يعتقل.

نحن أمام طبقة جديدة من أصحاب التاريخ النضالي، يملك قسم منهم الطموح السياسي، ويعبرون عنه بالهجوم الحاد على كل المعارضة بلا تمييز، مقابل قسم آخر أقل طموحاً يهتم بشؤون تأمين عيشه في المنفى، لكنه لا يفصح عن ذلك. صحيح أن الإطار الرئيسي للمعارضة التي تنطحت لتمثيل الثورة سياسياً (المجلس ثم الائتلاف) يستحق كل النقد على أدائه الركيك وفشله في المهمة التي قام من أجلها، لكن الكثير من “النقد الشاب” ينطلق من الطموح السياسي أو الشخصي أكثر مما من الانحياز إلى مصلحة الثورة، ويتسم بالسطحية والشخصنة، فيفوته انتقاد كثير مما يجب انتقاده حقاً.

تتكون الطبقة الجديدة من أصحاب “التاريخ النضالي”، من شبان كونوا ثقافتهم وخبرتهم السياسيتين في السنتين الأخيرتين، ولا سبيل لتحقيق طموحاتهم الكبيرة إلا بمحاولة الحط من شأن المعارضين التقليديين الأكبر سناً. الواقع أن المدة الطويلة التي استغرقتها الثورة كشفت عن الامكانيات السياسية المتواضعة للتيارات التقليدية في المعارضة. هذا ما يدفع إلى ترجيح تقوض المستقبل السياسي لكثير منهم. الأمر الذي سيدفع بطبقة سياسية “شابّة” إلى الواجهة بعد سقوط النظام.

بمقدار ما يشكل هذا الاستبدال ضرورة ونتيجة معاً، بقدر ما يثير أيضاً مخاوف مبررة من تغطية فساد كثيرين، بستار “التاريخ النضالي” الخاص بهم. فإذا كان هذا ينطبق على المدنيين، فما بالك بالمسلحين الذين من المرجح، أن يكون صوتهم أعلى في مطلع المرحلة الانتقالية.

لا يتوقف تصنيف الناس وفقاً ل”تاريخهم النضالي” على الأفراد، بل يتعداه إلى الجماعات والمناطق. فالقرية التي كانت سباقة في المشاركة في الثورة، تبدو اليوم أكثر أهمية من مدينة كبيرة استكانت للنظام أو تأخرت في الالتحاق بالثورة.

ينطوي هذا النزوع إلى التقييم المتفاضل على مخاطر كبيرة في المستقبل. فمن شأنه أن يقيم وطناً لبعض السوريين على حساب بعضهم الآخر. وهذا بيئة مناسبة للفساد والاستبداد والمشاعر الثأرية، وليس للحرية والكرامة والروح الوطنية الجامعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى