التاريخ سيدور دورته ونظام الأسد إلى متحف العاديات!
د. نقولا زيدان
تتواصل الحرب الداخلية التدميرية التي يقودها حزب الله ضد اللبنانيين بعناد وإصرار لا مثيل له. وتنصبّ كل جهود الحزب، وعلى كافة الصعد والميادين والمستويات لإخضاع اللبنانيين بشتى الطرق والأساليب المعلنة منها والمستورة والمبطنة للأمر الواقع. والأمر الواقع هذا قد شهد بدايته في نموه وصعوده وتطوره الحثيث للقرن الماضي عندما أوكل نظام الوصاية السوري الأسدي ونظامه الأمني القسري لحزب الله أمراً في غاية الخطورة ألا وهو مقاومة إسرائيل، إسرائيل نفسها التي يهادنها النظام الأسدي منذ حرب تشرين 1973.
فلا طلقة واحدة على الجولان ولا قذيفة، بل أدوات الحرب تمركزت على البطن الرخو للنظام الأسدي وهو لبنان. فبالتصفية الجسدية والاحتواء والتهميش والإلغاء اختصر حزب الله المقاومة فعلاً وشعاراً وثقافة لفظية. ذلك أن النظام الإيراني المذهبي كان قبل عام 1982 ببضع سنوات قد بدأ يعبّر عن طموحاته المحمومة وجموحه نحو المتوسط.
ففي لبنان اضطلع حزب الله بأعباء هذه المهمة، وفي فلسطين جرى العمل على قصم ظهر منظمة التحرير وإنشاء مقاومة فلسطينية رديفة بل بديلة.
دخل حزب الله البرلمان ثم راح يشارك في الحكومات ويبني بصبر وعناية وأناة ترسانة سلاح موازية للجيش الوطني الذي كانت الطغمة الحاكمة في دمشق تعمل شكلياً على تزويده ببعض فائض السلاح السوري في الوقت الذي كانت سلطة الوصاية السورية تربط الوطن الصغير بالاتفاقات والمعاهدات المذلة، فانكفأ المسيحيون عن المشاركة في الحياة السياسية في ظل موجة هائلة من الهجرة المسيحية إلى الخارج القريب والنهائي.
ليس هذا مهماً فحسب، بل هو كان يخفي ما وصلنا إليه الآن. وما وصلنا إليه الآن ما كان بالإمكان الوصول إليه حتى مقاربته إلا عبر دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ذلك أن سياسة البناء والإعمار وإعادة استنهاض لبنان من تحت ركام الحرب الأهلية المدمّرة التي تفانى الشهيد الكبير في تحقيقها من دون كلل أو مساومة بدت عملياً وبالملموس على أرض الواقع النقيض الكلي لسياسة التبعية والخضوع والامتثال التي برعت فيها حكومة عنجر آنذاك. فالرجل ومشروعه الاستقلالي، ورشة العمل التي كانت تعمل بكل طاقتها، ابتداء بالبنى التحتية ومروراً بوسط مدينة بيروت وانتهاء بالمؤسسات والجامعات والمدارس، ما عدا عودة الرساميل والتوظيفات شكّلت بحق مشروع إعادة الحياة لهذا الجسم البض الجميل الذي هو لبنان.
إلا أن التحالف الإيراني الأسدي وأدواته اللبنانية المتمثلة بحزب الله كانت تراقب بقلق بالغ دفين كل ما كان يمثل الرئيس الشهيد، خاصة مع ما كان قد بلغه من شأوٍ لبناني وعربي ودولي. احتضن المقاومة رغماً عن احتكار حزب الله لها وفي آن معاً راح يسعى من دون صخب إعلامي ولا زعاق مبتذل لطالما عودنا عليه سياسيو الصناعة السورية، لاستخلاص لبنان من قبضة الانتداب الأسدي المذل. إننا لا نعلم الكثير عن متى ولا عن ملابسات صدور قرار الاغتيال جريمة العصر، إلا أننا نشهد الآن نتائجه الكارثية المدمرة.
إن المراقبين المدققين والخبراء الحصينين المدركين لتركيبة النظامين الإيراني والأسدي، والمطلعين على المناخ العام والموقف الداخلي لحزب الله لم تصبهم كما أصبنا نحن كلبنانيين وعرب بتلك الصدمة الهائلة من جراء اغتياله المخيف، إنهم يقولون لنا إن ذلك الزلزال كان محتسباً ومتوقعاً. فالرجل الكبير بأدائه وممارسته وكل المناخ النقيض المحيط به للمشروع الاستحواذي وكل طاقم عمله كان الأب الفعلي لقرنة شهوان ولقاء البريستول وبيان بيروت بل الأخ الحقيقي لضمير بكركي المعاند. وقد قيل ذلك غداة استشهاده: هل كنتم تتوقعون غير الذي جرى وأن يمر ساطور الجلاد على رقبة عنفوانه الاستقلالي، فقد أصبح رفيق الحريري بلبنان الذي استيقظ بعد سبات أمراً لا يطاق، منذ كبرتم وإياه وبه ومعه أكثر مما هو مسموح لكم، لذا صدر القرار بإعادتكم إلى نقطة الصفر: بالاغتيال.
أصبنا جميعاً بالهلع والذعر، لا سيما ان الضربات الدموية توالت علينا فراحت تمطرنا أدوات القتل جحيماً متواصلاً من الحديد والنار والاغتيال. إنهم يجرون حساباتهم بدقة متناهية في الوقت الذي كنا نوري شهداءنا في الثرى إنهم يحصوننا جيداً كمال يقال لكن النتائج فاجأتهم.
حسناً لقد حصدتم أكثرية البرلمان، فتربصوا وانتظروا لأنكم ستتناقصون واحداً واحداً. فبحرب مشؤومة كان بالإمكان تجنبها، وباحتلال وسط بيروت، وبالتخوين وكيل التهم الوقحة، وباستمرار آلة القتل، وبحوار عقيم تجنباً لكارثة حرب أهلية جديدة، وباحتلال بيروت وإرهاب أهلها، وفرض الإرادة الجبروتية المدججة بالصواريخ والسلاح، وبفرض الانصياع لقرارات المحكمة الدولية، بل بالانقلاب الموقع المدروس على حكومة سعد الحريري الوفاقية، وتدفق المال الإلهي الحلال لشراء الضمائر والأقلام والصحف والتلفزة ووسائل الإعلام ورجال الدين من شتى المذاهب جرى فرض حكومة الصناعة السورية الأسدية على رقابنا.
لقد تعطل المنطق عندهم وتحول الخطاب السياسي إلى شتائم واتهامات أقرب للمهزلة التي تلامس الدرك الأسفل للاستخفاف الكيدي بعقول الناس. فأي لبنان هو هذا، قولوا لنا ماذا صنعتم من لبنان ولأي حال من الفقر والأدقاع والتعاسة والعتمة والبطالة والتسيب وإغلاق المصانع والمدارس وإفلاس المؤسسات وحروب الرساميل وأي كذب موصوف في الخطاب السياسي أغرقتم فيه الوطن الصغير، إن كل ما صنعه رفيق الحريري للبنان مستهدف الآن.
في أية متاهة ودوامة وحلقة مفرغة أغرقتم فيها اللبنانيين في جدال ونقاش وتداول وأخذ ورد حول قانون الانتخاب، فاستنفرتم الطوائف والأديان والمذاهب والمجموعات والأطياف الإثنية التي لا تخطر على بال بقصد تعطيل الاستحقاق الدستوري وإبقاء لبنان هكذا محمية إيرانية بنكهة أسدية لن يطول عمرها. أوتعتقدون حقاً أن حالاً كهذه ستستمر إلى ما لا نهاية؟
وبأي موقف مخزٍ ومشين ووصمة عار في جبين اللبنانيين لطختم ذاكرة التاريخ عندما تهاجمون بل تطلقون النار على الثورة السورية من الخلف في تحايل مضحك مبكٍ على الجغرافيا، فنقلتم ويا للأسى، إلى القرى والدساكر الشامية الأمراض إياها التي زرعتم عندنا في لبنان: الاقتتال المذهبي. لعلكم تودون الاشتراك بالحوار المستحيل بين حاكم دمشق والمعارضة الثورية السورية، ما دمتم قد تحولتم إلى طرف مسلح فاعل في القتال. لكن علينا الآن مصارحتكم:
إن التاريخ سيدور دورته والحتم التاريخي سيرسل نظام الأسد إلى متحف العاديات.
المستقبل