التانغو الروسي – الأميركي/ نجاتي طيّارة
في رقصة التانغو الكلاسيكية الرومانسية العتيقة، يُمسك الراقص الرجل بكفّ المرأة المشاركة، ويلف يده حولها باليد الأخرى، وتستمر الخطوات جيئةً وذهاباً، تقدماً وتراجعاً، يجذبها إليه تارة، وتنفر منه أخرى، حتى لا تبقى إلا أناملها بين أصابعه، يدفعها إلى الدوران حوله أو حول نفسها وقد يثنيها أمامه سانداً خصرها بيده. وتستمر الموسيقى ضابطةً إيقاع الخطوات، لكن الزوج الراقص يجد نفسه، أخيراً، في المربع أو الدائرة التي انطلق منها، وتنتهي الرقصة مع توقف الموسيقى وتصفيق الحاضرين، وبنعومةٍ حالمة، يخرج المشاركون بالرقص، مستمتعين سعداء، وتُغلق القاعة أبوابها، مستعدةً لحفلٍ راقص آخر.
كان كلام وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في مؤتمره الصحافي، قبل أيام، وهو يجيب على أسئلة بشأن سورية، وما اتفق عليه مع مرافقه الوزير الروسي، سيرغي لافروف، في هذا الشأن، كان يوحي برقصة جديدة على أنغام البراميل والقصف وصراخ الأطفال والعائلات التي تبتلعها أنقاض الدمار. تشابك ممتع آخر بين الطرفين، والحديث دائماً عن الحالات الإنسانية التي يصفق لها الحاضرون، من دون أن يروا من نتائجها إلا اللوحة الشديدة السواد.
بعد شهور، أو سنة، أو ربما أكثر من اندلاع الثورة السورية، استطاع السيد الروسي إقناع نظيره الأميركي، بأنه المرافق الذي لن يستطيع الاستغناء عنه في الرقص، على وقع موسيقا القصف والخراب السوري. وهكذا بدأ تبادل الأدوار، فحيناً ينقض الروسي قراراً أممياً، وحيناً آخر، يمتنع الأميركي عن الدعم الأمني للشعب المقهور. يقول كيري إن اتفاقاً حصل بينهما، لكن وزير دفاعه ينقضه، ويعلق كيري بأن المرحلة الانتقالية تُنهي الأسد ونظامه، لكن لافروف الذي يقود الخطوات الراقصة يداور الكلام ويعلكه، وتتعجل يده فتلف كيري دورة جديدة. ويستمر الرقص، وتستمر اللقاءات والمشاورات، ويقفان بثبات في مؤتمراتهما الصحافية، تارة هاشّين باشين يرويان النكات، وأخرى جادّين مختلفين واعدين بجولة أخرى، ثم ينفض الحفل، والقصف يستمر والكوارث تتتالى….والمربع الأول يعود فيتلقفهما من جديد.
من الصعب إحصاء عدد زيارات السيد الأميركي للكرملين، وعدد المؤتمرات التي حضرها الاثنان، وتناوبا على اللف والدوران، وإشاعة أجواء الأمل مرة واليأس أخرى. ومن الصعب عدّ المرات التي تناقضت فيها التصريحات الأميركية بين الحذر من الروس وعدم الثقة بهم وبين اعتبارهم الشركاء الموثوقين في حل الأمور، ومن الصعب عد المرات التي نصح الأميركي الثوار السوريين بالحوار مع الصديق الروسي، وقبول مندوبيه محاورين، وبين الوقوف الحازم برفض أيً منهم الدخول في هيئة المفاوضات، كما تُصر الهيئة عليه. كان فهم العلاقة الروسية – الأميركية الجديدة صعباً على السوريين، بل ربما على دول أوربية مهمة في هذا الشأن، فهم يرون العداء الأميركي في أوكرانيا والصواريخ البالستية المنتشرة حول الحدود الروسية ورفض أي وجود روسي في العراق، ويرون، في الوقت نفسه، الابتسامات المتبادلة في سورية، وتجاهل نهر الدماء البشري الذي ينبع من كل مكان فيها، تصم آذانهم أحاديث الحالة الإنسانية، وترى عيونهم كيف تتحول، في كل ثانيةٍ، إلى حالة متوحشة تفترس الأخضر واليابس بينهم.
يُطيل السوريون الغارقون بدمائهم التفكير بما يحدث، فلا المقتول عارفٌ لماذا يُقتل، ولا القاتل
“استطاع السيد الروسي إقناع الأميركي بأنه الذي لن يستطيع الاستغناء عنه في الرقص، على وقع موسيقا الخراب السوري” يعرف لماذا يَقتل إلا تنفيذاً للأوامر، فاللغة معدومة بينهما، وآلة القتل وحدها التي تتكلم، وجنيف واحد واثنين وثلاثة وربما أربعة لا يُجيب عن أيٍّ من تساؤلاتهم: متى يتفق الطرفان، وتنتهي القسمة، وتنعم أشلاء الأطفال بالدفن؟ هل هناك وعود بكيان كردي شبه مستقل، أو مستقل، يجري رسمه بالدماء السورية، ولم ينته الرسم بعد؟ هل هناك مطالب مجهولة للنظام العالمي المقترح الذي يعاني من ولادةٍ عسيرة تحتاج عملية قيصرية؟ وهل على الشعب السوري وحده دفع الأثمان الباهظة لإخراجه؟
يصرح السيد الأميركي أن اتفاقاً ما تم بينه وبين السيد الروسي، من أجل التنسيق العسكري والحالات الإنسانية، لكنه لن يُنشر للإعلام أو يعرف أولو الأمر به، إلا بعد تنفيذه، خشية من “بارازيت” الإعلام عليه، وشكاً بمصداقية الروس بتنفيذه. ثم يعلن المبعوث الأممي، دي ميستورا، أن اجتماعاً ما سيعقد الشهر المقبل في جنيف، لتدارس “الأزمة السورية”، لكن السوريين يُدهشون من الوقاحة الروسية، في اتهامهم واتهام حلفائهم، بأنهم أشرار ومنافقون وأوغاد، لأنهم طالبوا بتغيير سلطة الأسد الطاغية الفاسدة، ويُدهشون أكثر لليد الأميركية التي لا تزال تتشبث باليد الروسية في استمرارها لصيقة بيد الوقح الحاقد، لافروف، بعد أن لونته أوصاف السيد الروسي بتلك الصفات! ويستمرون في محاولة فك ألغاز التباعد الروسي في كل مكان من الكرة الأرضية، والتقارب في سوريتهم فقط. أدار السوريون ظهورهم منذ زمن لرقصة التانغو تلك، ولم يعودوا شهوداً لها أو عليها ولم تعد تعنيهم موسيقاها القديمة الهادئة، أو الجديدة الصاخبة. أنزلت كوارثهم، منذ زمن، الستار، وباتوا يرقصون ألماً في مأساتهم …وستارهم دماؤهم فقط، فهل سيشعر الكومبارس والمصفقون والعازفون بأن عليهم أن ينتهوا من كل ما هم فيه، ملَّت الشعوب من رقصهم، ولا تنتظر منهم إلا ما هو أسوأ. وقد بدأت آذانها تستجيب لطبول الأدغال، كي ترقص على وقعها، فلربما ستجد في وحوش الغابة من يملك إنسانيةً أكثر من راقصي “التانغو” المنافقين.
العربي الجديد