التخوينُ العلمانيُّ والتكفيرُ الإسلاميُّ/ ربيع الشريطي
ثقافة التخوين هي المعادل الموضوعيُّ لثقافة التكفير، وكلاهما إفرازٌ للعقل المكوَّن ذاته الذي يقوم على قداسةٍ زائفةٍ؛ إمّا لنصٍّ سماويٍّ أو لنصٍّ دنيويٍّ أو زعيمٍ مرحليّ، وكلا الثقافتين تؤصّلان وتدعمان بعضهما بعضاً؛ فالتخوين ينجب التكفير بالضرورة والعكس صحيح، كلاهما أسُّه رفض الآخر المختلف ومصادرة حريته في التفكير والعيش.
وتبدو هذه الثقافة جليّةً في ظل الاستبداد القائم على إلغاء الآخر وصهر الجميع بالإكراه في المنظومة الاستبداديّة، وهذه الثقافة لا تنشأ وتترعرع فقط في ظلِّ الاستبداد، بل يستخدمها المستبدُّ في تكريس مشروعه الإقصائيّ والتذريريّ تجاه النخب والشعب على العموم. وخير من استفاد من ثقافة التخوين والتكفير هو النظام السوريُّ ( آخر معاقل العلمانيّة كما وصف نفسه) على مدى عقود حكمه للبلد، إذ إنه قام برسم حدود الوطن والوطنية على مقياس حدود الطاعة؛ فمن والاه بقي تحت سقف الوطن وطنيّاً مخلصاً، ومن عارضه فهو خارجيٌّ خائن لا صلاح فيه. واستخدم هذه الثقافة على مدى عقودٍ لتجميد الحياة السياسيّة وضرب نخبها، ولكن بقي عليه أن يجمّد الحياة الاجتماعيّة والفكريّة كي لا تفرز رأساً سياسياً، فشرع في تأصيل ثقافة التكفير وهذه ليست لضرب النخب، بل لضرب الحركة المجتمعيّة، وربطها بعجلة هذه الثقافة. فالنظام السوريُّ ضرب الإسلام سياسياً عبر القانون 49 الذي ينص على إعدام المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين وهو الحزب التقليديُّ للإسلام السياسيِّ في سوريا، و شرع في تأصيله أيديولوجياً من خلال بناء الجوامع ومراكز تحفيظ القرآن والمناهج الدراسية وحلقات الذكر وغير ذلك الكثير. وكان المتوقع من نظام علمانيٍّ التخفيف من المظاهر الدينية لصالح المظاهر الثقافيّة الدنيويّة كالمسارح ودور السينما و المراكز الثقافيّة، ولكن ما حدث هو العكس تماماً فبعد استلام الأسد الأب للسلطة في سوريا تراجعت الحركة الثقافية بكلِّ أشكالها، مقابل انتشار الثقافة الدينية. وهذا يدلنا على أن النظام كان يقصد بضربه للإسلام سياسياً وتعميقه أيديولوجياً هو إشاعة الثقافة التكفيريّة لأن أيَّ أيديولوجيا من دون رأس سياسيٍّ معلن ستنحرف حتماً إلى التطرف ورفض الآخر. وبهذا يكون النظام قد أحكم حصار الشعب ونخبه السياسيّة بفكّي كماشة التخوين والتكفير، وهذا من شأنه أيضاً أن يمنع حركة التطور والاجتهاد لأن أيَّ تطورٍ هو خيانة للسائد؛ فأيُّ خروجٍ على الحاكم أو على النص أو على الشيخ أو على القطب سيُواجَه حتماً بالعنف حسب عرف هذه الثقافة، وللعنف فيها وجهان: وجهٌ معنويٌّ يكون بالإقصاء والاستبعاد والإلغاء، ووجهٌ ماديٌّ يكون بالاستئصال أو القتل، وهذه الضريبة الباهظة للمعارضة ولحركة الاجتهاد والتطور جعلت من سوريا جثةً هامدةً لا حياة فيها على مدى عقود حكم آل الأسد. ومن خلال هاتين الثقافتين (أي التخوين والتكفير) استطاع النظام تجميد النخب السياسيّة والحاضنة المجتمعيّة لها، واستقطاب هذه الحاضنة المفترضة للنخب السياسية بما يطرحه النظام شكلياً من حماية للأقليات ومحاربة للطائفية وإلى ما هنالك من شعارات خلبية.
وما زاد الطين بلة أن الضحية، وهي النخب السياسيّة، أخذت تتماهى مع الجلاد، ونجح الجلاد في استدراجها إلى مستنقع ثقافة التخوين والتكفير؛ فالعلمانيُّ يُخوِّن الإسلاميَّ على أساس أن ارتباطاته ما دون وطنية بل دينية، والإسلاميُّ يُكفّرُ العلمانيَّ على أساس أن العلمانيّة هي ضربٌ من بدع أهل الكفر والضلال، وهكذا حصل للنظام ما أراده في جعلهم يدخلون ممراته الإجبارية التي شقّها لهم، فبدلاً من أن تفكك هذه القوى الخطاب التكفيريَّ والتخوينيَّ وتنحو بخطابها وسلوكها منحىً يناسب مشروعها الوطنيَّ الديمقراطيّ، أخذت تتكلم بلسان النظام ومصطلحاته وتمارس التفتيت و التذرير، فكلٌّ يتمترس خلف مقدساته وأيديولوجيته ليلغي الآخر المختلف، ولا فرق في هذا بين ماركسيٍّ يقول حجتي في كتاب رأس المال، وإسلاميٍّ يقول حجتي في الذكر الحكيم وناصريٍّ يقول حجتي عند عبد الناصر …… إلخ. فلا يُظَنُّ أن التخوينيَّ متقدّمٌ على التكفيريِّ فكلّهم عبدة نصوصٍ وأزلام، كما أن هذه المقدسات المغيِّبة لهذه النخب فصلتهم عن الواقع، فالواقع في وادٍ وهم في وادٍ آخر، حيث أخذوا على عاتقهم التصدي للمشاريع الكبرى مع علمهم أن موازين القوى ليست في صالحهم ولم ينتبهوا أن البلد بحاجة إلى أحزابٍ تحمل برامجَ تنمويّةً على الصعيد السياسيِّ و الاقتصاديِّ والاجتماعيّ والثقافيّ والتربويّ. فبقيت أحزابهم كريشةٍ في الهواء لا تعدو كونها شعاراتٍ خلبيّةً عدائيةً وموتورة؛ فاليساريون يعادون الإمبريالية والإسلاميون يعادون ثقافة الغرب والقوميون يعادون العالم بأسره، فلا مشروع لهذه الأحزاب على شكلها الحاليِّ غير تكريس ثقافة التخوين والتكفير والتفتيت والتذرير، ولا تقوم إلا على أنقاض بعضها، وهذه خدمةٌ مجانيّة للنظام كان ينتظرها من أحزابٍ لطالما حرفها قمعه وعسفه إلى ممراته الإجبارية. كل هذا أدى إلى الاستعصاء السياسيِّ في ظلِّ الثورة السوريّة الشعبيّة، وهي الثورة الاستثنائيّة والجذريّة التي تهدف إلى القطع مع الاستبداد.
إن النظام، من جهته، لا رهان له في قمع الثورة إلا إطفاؤها بدماء السوريين، والمعارضة من جهتها غارقةٌ في التذرير والتفتيت ضمن غياب المشروع والإستراتيجية، لأنها أصلاً تعاني من تبعات ثقافة التخوين والتكفير المتأصلة بعقليتها ومسيرتها السياسيّة؛ فهي لا تثق ببعضها تماماً كعدم ثقتها بالنظام، وهذا الجو من عدم الثقة بين المعارضة نفسها كفيلٌ بتفتيت الجهد وعدم قدرته على النماء والإنتاج، ويبقى المستفيد من كل هذا النظام الذي يوصل رسالةً للداخل والخارج في آنٍ، مفادها أن البديل عني هو معارضةٌ مفككةٌ لا يمكن أن تجعل من سوريا مركزاً للأمن والسلم في المنطقة، بل على العكس سوريا من دوني ستفجّرُ المنطقة ولا بديل عني غير الفوضى ومجموعات الإرهاب والتكفير، وهذا ما أسس له النظام على مدى سنوات حكمه ليخدمه في هذه اللحظة المصيرية التي تمسُّ وجوده.
المستقبل