“التخيل التاريخي ـ السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية”
تحرير التدوين والرواية من حقائق الماضي
آن الأوان لكي يحل مصطلح “التخيل التاريخي” محل مصطلح “الرواية التاريخية، فهذا الاحلال سوف يدفع بالكتابة السردية التاريخية الى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية، وحدودها، ووظائفها، ثم انه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأي منهما، كما انه سوف يحيد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية بمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينتفخ على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، ولا تعرّفها، إنما تبحث في طياتها من العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية فيما بينها، فضلاً عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والإنهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطراً ناظمة لأحداثها ودلالاتها، فكل تلك المسارات الكبرى التي يقترحها التخيل التاريخي تنقل الكتابة السردية من موقع جرى تقييد حدوده النوعية، إلى تخوم رحبة للكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر.
الامبراطورية والتخيل التاريخي
يفيد تعريف الإطار الثقافي والسياسي للأمبراطورية في كشف طبيعة المدونة السردية المعبرة من نزوع الشخصيات الى العيش في عالم تشكل الأمبراطورية احدى ركائزه، مع ان العصر الحديث تلك الكيانات الامبراطورية التقليدية، وبه استبدل الدولة القومية أو الوطنية، وأحياناً الدولة الإستعمارية المناظرة للأمبراطورية، ولكن حسب رأي المؤلف لم يقع استبعاد المفهوم القديم بصورة نهائية، فما زالت بقايا الماضي تتصاعد في التصورات المخيالية المعاصرة، وربما يكون المفهوم القديم قد جرى تكييفه، بتأثير من العولمة والاتصالات العابرة للحدود.
وبقدر تعلق الأمر بالسرد العربي، فلعل البحث عن هوية مرنة وجامعة يقبع وراء الانصراف الى الكتابة التاريخية، التي تمنح حيزاً أوسع في حرية القول والحركة والقصد. وضمن هذا النزوع المسكون بالترحال، “تندرج المدونة السردية لأمين معلوف؛ بما فيها من شمول في الأحداث، وتوسع في حركة الشخصيات، وامتثال للمعايير القيمية التي تحملها الشخصيات الكبرى في الفضاء الأمبراطوري، وهي بمجملها سير شبه تاريخية لشخصيات معروفة جعلت من السرد وسيلة لاستعادة افكارها ومواقفها، دون ان تنقطع كليا عن حقيقتها التاريخية”. ولعل تلك المدونة بمعظمها تندرج في اطار التخيل التاريخي، لتفصح عن موقف الروائي من العالم والقيم الدينية السائدة والظواهر الثقافية والسياسية، فمن وراء شخصيات التاريخ ترتسم رؤية ناقدة للتدهور الأخلاقي والقيمي والسياسي، فكلما تقدم الزمن خيم الفساد، فلا بد من عصر امبراطوري تشع فيه الافعال الكبرى للشخصيات، وتأخذ معناها الإنساني الكامل.
ارتحال تحقيق الفرات ونهاية العالم
ترحل الشخصية في السرد لتتعرف أو ترتقي أو تحقق ذاتها، وكان الإرتحال لتحقيق الذات ومعرفة نهاية العالم، هوالحافز السردي في رواية “رحلة بالداسار” من الصحيح أن بالداسار طاف أجزاء كبيرة من أمبراطوريات القرن السابع عشر بحثاً عن كتاب مفقود، ولكنه يقول المؤلف: “كان مشغولاً طوال رحلته بالعالم، وهو ينجرف إلى شفا هاوية النهاية، ولم يهمل ذاته فقد كان يصقلها بالتجارب الجديدة، ويعيد النظر في تاريخه الشخصي والاسري، ولعل أهم ما يلفت الإنتباه شغفه اليومي بتدوين رحلته باربع كراسات سجلت مسار إرتحاله، بحثاً عن كتاب “الإسم المئة” للمازنوراني”.
تلوح فكرة نهاية العالم بين حقبة وأخرى من حقب التاريخ، ففي ظل الأزمات الأخلاقية والإجتماعية، الكبرى يلوذ الإنسان بالأفكار الخلاصية المبهمة، وهي ظاهرة كثر تكرارها، ونجد لها أثراً واضحاً في الأدبيات الدينية والتاريخية والاسطورية، وهو ارتماء في أحضان الوهم السلبي، والفكر السحري الذي ما زال يخيم هنا وهناك، وفي ظل دائرة تتسع من التنبؤات يخيم الذعر الجماعي، وتزدحم النفوس بتأويلات مفرطة للنصوص الدينية، ويزج العلم في إعطاء شرعية زائفة لبعض التأويلات، فيقع تضخيم ظواهر طبيعية باعتبارها علامات على قيام الساعة. ولم يكن إختيار أمين معلوف لمدينة جبيل حسب اعتقاد المؤلف منطلقاً لأحداث روايته عشوائياً، فالمدينة الواقعة إلى الشمال من بيروت كانت تستمر ببيبلوس أي مدينة الكتاب. وفيها عرفت الابجدية الفينيقية القديمة، فلا غرابة أن تظهر في الرواية بوصفها خزانة للمخطوطات القديمة، وقبله للباحثين عن النادر منها، ومنها بدأ بالداسار رحلته المثيرة لاستعادة كتاب “الإسم المئة” فطاف بلاد الأناضول واسطنبول، ثم جزر البحر المتوسط وجنوى وطنجة وأمستردام ولندن وباريس، “دون أن ينسى جبيل التي استوطنتها اسرته الجنوية منذ قرون، وكان ذكرها يتردد حيثما حل، وكلما اندفع بالداسار في مغامرته وراء المخطوط كان يستعيد حياته في جبيل”.
تلك هي أهم الركائز التي قامت عليها التجربة السردية لأمين معلوف، فهو يمنح شخصياته طاقة للتجوال عبر العالم، والحديث بلغات عدة، وتبني قضايا تاريخية أو إجتماعية لا تختص بثقافة أو جنس، ولا يسمح لها بالانحباس في إطار هوية أو معتقد، وهي لا ترحل في أرجاء العالم بتطواف مجرد عن المقاصد، انما ترحل في الوقت نفسه داخل ذواتها، ولا تقبع أسيرة لفكرة دينية أو عرقية.
الكتابة القديمة وأعرافها
يُعنى “بنسالم حميش” بما يصطلح عليه (شرط البداية)، وهو شرط سردي مأساوي ظهر في سائر رواياته التاريخية، ورسم مصائر الشخصيات الكبرى فيها؛ فثمة انهيار قيمي عام في “دار الاسلام”، وهو المجال العام لوقوع أحداثها، وحركة شخصياتها، إذ جرى تخريب الركائز السوية للقيم الدينية والإجتماعية والسياسية، واتخذ يقول المؤلف: “ذلك التخريب تظاهر كثيرة، كالطغيان الذي مارسه الحاكم الفاطمي في رواية “مجنون الحكم”، أو إخضاع مصر لنزوات المماليك، في رواية.. العلامة”، أو تصدع الوجود العربي وانحساره في الأندلس جراء التنازع حول السلطة بين الأمراء والملوك في رواية “هذا الأندلسي”. وفي جميعها سعى حميش إلى توظيف أعراف الكتابة العربية القديمة، كالشروح والحواشي والذيول، فضلاً عن تبني اسلوب أدبي تطلع فيه على موازاة الاساليب الموروثة في المدونا الموروثة”.
استقى بنسالم حميش مادة روايته “العلامة” من المدونة التاريخية التي كتبها ابن خلدون، ومن سيرته الملحقة بها، لكنه أجرى تعديلاً عليها بما يناسب التخيل التاريخي.
وقد حرصت الرواية على ابتكار مواقف سردية تكشف طبيعة العلاقات التي ربطت ابن خلدون برجالات عصره من المماليك وسواهم، فاضفت تلك المواقف دلالة خاصة على مجمل دوره الديني والتاريخي في عهد المماليك خلال النصف الثاني من القرن الهجري الثامن. “فأحالت وقائع التاريخ إلى مادة سردية مرتبطة بموقف ابن خلدون وأحواله، ففي مفارقة واضحة فضحت التعارض العام بين مبدأ ابن خلدون الداعي الى النزاهة وقول الحق، وضرورة مراعاة المواقف المتقلبة في حكم المماليك، ظهر ما ينقض الاستقامة النظرية، ويجرح القول بها في كل زمان ومكان”، ولم تبخل الرواية في عرض لحظات فاصلة في حياة العلامة، استنبطها السرد، وبين ما فيها من تردد الشخصية بين مواقف آمنت بها، وأخرى فرضها عليها الآخرون. فحينما توفي كاتبه تاركاً زوجة جميلة في الثلاثين من عمرها، سارع ابن خلدون وقد شارف الستين فتزوجها، وأنجب منها طفلة سميت البتول، فكنيت الزوجة باسمها.
وكان العلامة قد زهد بالحياة وحج وكبر، وذاق صنوف المخاطر والأمجاد في الأندلس والمغرب، فبدأ يعد العدة لختم حياته بيسر وسلام، لكن نازع الحياة تجدد بالزواج والابوة.
جنس ينقصه الاكتمال البشري
تصور الأدبيات الاسبانية طوال القرن السادس عشر الهنود على أنهم بشر غير مكتملين، وذلك يناظر صورة المسلمين واليهود، ومن ذلك ما يكتبه احد الآباء الدومنيكان وهو “توماس اورثيت” في تقرير مرفوع الى مجلس جزر الهند الغربية، واصفا الهنود بأنهم لواطيون أكثر من اي شعب آخر، وليس عندهم عدل وكلهم عرايا وهم لا يحترمون لا الحب ولا العذرية. وهم اغبياء سفهاء. وهم لا يحترمون الحقيقة الا عندما تعود عليهم بفائدة، وهم متقلبون لا يعرفون ما هو الاحتياط. وهم ناكرون للجميل جداً ومحبون لكل ما هو طريف مستحدث. وهم شرسون ويجدون مسرة في المبالغة في عيوبهم.
ويرى المؤلف أنه من المفيد الوقوف على تصور العلاقة والفيلسوف “سيبولبيدا” الذي رتب التفاوت بين البشر الى حالة طبيعية للمجتمع البشري، لأن التفاوت يقوم على مبدأ واحد: سيادة الكمال على النقص، والقوة على الضعف، والفضيلة السامية على الرذيلة، واستناداً إلى هذا المبدأ يصدر حكم القيمة الآتي: في التبصر كما في الحنكة، وفي الفضيلة كما في الإنسانية يعتبر هؤلاء البرابرة أدنى مرتبة من الاسبان بالدرجة التي يعتبر بها الصغار أدنى من الكبار، والنساء أدنى من الرجال، فبينهم وبين الاسبان قدر من الاختلاف.
ويقول المؤلف: “استمد هذا الحكم شرعيته الأخلاقية من القديس أوغسطين صاحب المبدأ القائل: إن خسارة روح واحدة تموت دون تعميد لتتجاوز في جسامتها موت عدد لا حصر له من الضحايا، حتى ولو كانوا ابرياء” فالانسان طبقا لهذا التصور خاضع لقيمة مطلقة هي التعميد، اي الدلالة على ان يكون مسيحياً، وهذه القيمة تفوق بكثير أهمية قيمة سامية أخرى هي الحياة نفسها، من أجل أن تأخذ القيمة المطلقة معناها التجريدي. فان “خلاص واحد يسوغ موت الآلاف. وهذه النظرة الى الآخر تقصيه عن انتمائه الإنساني، فتصبح حياته لا معنى لها”. عد الجنس الهندي عالما سديمياً نظر اليه انطلاقا من مرجعية دينية ثقافية محددة، “اسقطت عليه تصورات نمطية مسبقة، فأنتج الهندي طبقا لتلك التصورات التي عبّرت عن نفسها باشكال كثيرة، مدونات تاريخية، أو مذكرات أو وثائق رسمية، وكثير منها يقوم على التجربة المباشرة والمعاينة الواقعية.
التخيل التاريخي ـ الوثائق والتجوال
يقوم التخيل التاريخي في رواية “بيروت مدينة العالم” لربيع جابر على قاعدة التلاعب بالواقع وبالوقائع التاريخية، وإعادة تركيبها وفق مقتضيات السرد، حيث تدمج الشهادات بالمرويات التاريخية في سياق ذلك التخيل، فيؤول إلى تخيل تاريخي ينفي وجوه الشبه بين الأشخاص والأحداث في الرواية، وما يماثلها من أشخاص وأحداث وأماكن حقيقية، وإن كان قد ظهر فهو محض مصادفة ومن الغرائب ومجرد عن أي قصد. ويقول المؤلف: “ولطالما تردد في كثير من نصوص السرد، ففي المماثلة بين الوقائع التاريخية والتخيلات السردية إلى درجة اصبح فيها يوحي بالتماثل أكثر مما ينفيه.
وينبغي عدم أخذ ذلك مأخذ الجد، فالاختباء وراء الشخصيات التاريخية ووصف جوانب من الأحداث الواقعية، والافاضة في وصف الخلفيات المكانية والزمانية لا ينفى بالإنكار” فابعاد الشبهة بأسلوب مكشوف هو تأكيد عليها، إنما يجد كل ذلك له تخريجاً سردياً يقوم على التخيل التاريخي بكامله، وهو التوازي بين العالمين، وابتكار عالم جديد يرتبط بهما وينفصل عنهما في الوقت نفسه.
ويؤكد المؤلف أن رواية “بيروت مدينة العالم” لا تقوم في جزئها الأول وقائع تاريخية جاهزة حدثت في زمن مضى، إنما تهتم بالكيفية التي يتخيل فيها الكاتب تلك الوقائع مرتبطة بحيوات مجموعة من الشخصيات، وطريقته في تحريرها من الإطار التاريخي، وإعادة إنتاجها في سياق سردي، فتمتزج الأحداث والشخصيات باسلوب صوغها في تشكيل متجانس يصرح بهويته النوعية، “فينبثق التخيل التاريخي من التقاطعات بين المادة المستعارة من الماضي، وطرائق العرض السردي التي يقترحها ربيع جابر لتركيبها وعليه، فلا يصح تقسيم ذلك التخيل التاريخي إلى قسمين منفصلين وقع توليفهما بتعسف، إنما هو تشكيل “سردي جديد انبثق من موارد تلازمت وتفاعلت وترابطت، فلا سبيل للبحث في أصوله قبل إندراجه في سياق الخطاب. فذلك السياق هو المانح الشرعي لهويته السردية”.
شمل التخيل التاريخي خليطاً من وصف مستفيض لأحوال الراوي وأحوال الشخصيات التي يكتب عنها، فتراكم كم هائل من الانطباعات والخواطر والوثائق واخبار متفرقة عن مصائر الشخصيات بدون مراعاة السياق الزمني المتدرج، فالسرد يتراجع إلى الماضي، فيسهب في التفاصيل، ويتقدم إلى المستقبل فيطبق في رسم ملامح الشخصيات طبقاً لمزاج الراوي، ورغبته في الإلحاق والإستباق، وقد توزع الإهتمام في السرد بالدرجة نفسها من الأهمية بين تقصي أمر اراوي، والبحث في موضوع روايته.
ويقول المؤلف: “ان ربيع جابر شغل، بوصف حاله مؤلفاً وراوياً عهد إليه تحرير متن روايته بدرجة تناظر إنشغاله بأطول الشخصيات والأحداث التي كتب عنها، فلا غرابة ان تفتتح الرواية بسؤال طرحه الكونت سليمان ده بسترس على المؤلف عن الوقت الذي سينتهي من تأليف الرواية”. “وضع الكونت كوب الماء من يده وسألني متى أنتهي من تأليف الكتاب”. والكونت هو الشخصية المركزية التي تظهر في مطلع الرواية، وهو يساعد الراوي في جميع أخبار سلالته حينما يوفر له الفرصة لاستعادة تاريخها.
[التخيل التاريخي.
[ الدكتور عبد الله إبراهيم
[ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2013.
وفيق غريزي