صفحات سورية

التدخل التركي أو الحكم بالفشل على الثورة السورية

طارق حمو
تسابق الحكومة التركية الزمن لكي تجمع اكبر قدر ممكن من المعارضين السوريين والجهات الداعمة لهم في مؤتمر “اصدقاء سوريا” القادم والمزمع عقده في مدينة اسطنبول مطلع شهر نيسان المقبل. ويتناغم هذا اللهاث التركي مع “تصعيد” جديد ادلى به رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان حول نيّة بلاده تشكيل “منطقة عازلة لحماية الشعب السوري”.كان هناك قبل هذه الاشارة حديث عن مخاطر تدفق مليون سوري للأراضي التركية. اذن تركيا تريد ان تكون اللاعب الاكبر في الملف السوري. تريد خطف اوراق اللعبة من يد العرب والخليجيين منهم على وجه الخصوص. تريد ان تكون المنظم والآمر الناهي على أرض الواقع و”الخزندار” للملايين النازلة على رأس حليفها “المجلس الوطني السوري”، تقرر كيف واين تٌصرف.
تركيا تراقب النظام السوري وهو يتخبط بسفكه المزيد من الدماء، فتزداد “تشددا” وتستعد لترجمة التصريحات المهددة( التي اطلقها عبدالله غول ورجب طيب أردوغان حول رفضهم لتكرار النظام مجاز حمص وحماة!) على أرض الواقع، ولو بعد عام كامل سال فيه نهر من الدماء.
الخطاب التركي اعتمد في البداية على “مناصحة” نظام بشار الأسد. حاول حزب العدالة والتنمية تمرير تنظيم الاخوان المسلمين للحكم واشراكه في الحكومة الجديدة، لكن الاسد رفض. قدّمت تركيا “باكيت اصلاحات” لدمشق، فصّلتها على مقاسها هي، ولغمتها بقوانين تمنع الشعب الكردي من الحصول على الاعتراف الدستوري وتحقيق الادارة الذاتية، لكن نظام الاسد رفض ايضا، مكتفيا بالوعود و..متابعا القتل!. ومن ثم تحرّك حزب العدالة والتنمية باستراتيجية واضحة وهي دعم تنظيم الاخوان المسلمين وتدريب كوادره ودعم قياداته على فنون الدبلوماسية و”التدبير”، مسلما اياهم مهمة تنظيم مؤتمرات المعارضة( منذ مؤتمر اسطبول الأول 16/07/2011)، تلك المؤتمرات التي تمخض عنها “المجلس الوطني السوري”، والذي هو عبارة عن نوّاة اخوانية ملفوفة بطبقة مٌشكلة من قوى وشخصيات وطنية ليس لها أي تأثير حقيقي على توجيّه المجلس( وان كان هذا المجلس قد تلقى مؤخرا ضربة قوية بانسحاب شخصيات معارضة كثيرة: هيثم المالح وكمال اللبواني ووليد البني…الخ).
المطلوب الآن، وبعد كل هذا الدعم التركي السخي للمعارضة واحتضان المنشقين وتأمين الملاذ لهم، هو تسليم “المجلس الوطني السوري” قيّاده لحكومة حزب العدالة والتنمية. ويتم التلاعب هنا على الورقة الطائفية في سوريا. حيث ان حزب العدالة والتنمية( ذو القاعدة الاسلامية السنيّة) قدم نفسه منذ البداية كحامي للأغلبية العددية في سوريا، مسربا خطابا طائفيا موجهّا له اهداف وغايات محددة، حيث ان “أخطر ما حاوله قادة حزب العدالة والتنمية، ومنذ وقت مبكر من الأحداث، هو تصوير الصراع في سورية على انه صراع مذهبي بين علويين حاكمين ومتسلطين وسنّة مضطهدين. وتصريحات رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان ووزير الاقتصاد علي باباجان، فضلا عن التصريحات المتكررة لداود اوغلو، كانت واضحة جداً في اعتبار “الثورة” معارضة فئة ضد نظام فئة أخرى”( أنظر: محمد نورالدين: هكذا خسرت تركيا حربها مع سوريا. صحيفة “السفير” اللبنانية 17/03/2012).
ولم تكتف حكومة حزب العدالة والتنمية بدعم الاخوان المسلمين وتقويتهم على حساب قوى اخرى من المعارضة السورية، بل اشترطت على بقية قوى المعارضة تضبيط خطابها والرجوع عن تأييد حقوق الاقليات الدينية والعرقية، ودعت، مثلا، هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي الى اقصاء حزب الاتحاد الديمقراطي( وهو حزب كردي سوري يتبنى أفكار الزعيم الكردي عبدالله أوجلان) والتخلي عن المطالب المعلنة بحقوق الاقليات( أنظر: صحيفة “السفير” اللبنانية 22/03/2012، وكذلك تصريح القيادي الكردي السوري آلدار خليل لفضائية “روناهي” 24/12/2012 عن اتصال السفير التركي مع حسن عبدالعظيم رئيس هيئة التنسيق يطلب منه ابعاد حزب الاتحاد الديمقراطي عن الهيئة! ).
والحال بان الهاجس الكردي يلعب دورا محوريا في تخطيط السياسة التركية تجاه سوريا( أخطر رجب طيب أردوغان بشار الأسد بان هناك “مؤامرة تهدد سوريا” عند سماعه بعقد الاحزاب الكردية مؤتمرا توحيديا في القامشلي في 14/04/2011). فتركيا التي لاتعترف بملايين الكرد في اقليم كردستان الشمالية وتخوض ضدهم حرب أرض محروقة منذ ثلاثين عاما، كلفت عشرات آلاف الضحايا، لن ترضى ابدا بان يوافق النظام الحالي أو اي نظام قادم على تضمين الهوية الكردية في دستور الدولة أو ضمان الادارة الذاتية للمناطق الكردية في شمال البلاد. وكان لمثل هذا “الخط الأحمر” الأثر الكبير في سياسات “المجلس الوطني السوري” والتصريحات التي خرجت منه ومن بعض رموزه المعادية للكرد ولحقوقهم: مثل “بيان الغدر” الذي اصدره المجلس في 02/10/2011 في ادانة عملية الرد العسكري لحزب العمال الكردستاني ضد الجيش التركي والتي اسفرت عن مقتل عدد من الجنود الأتراك، وهو البيان الذي تبرأت منه “الكتلة الكردية” في المجلس، كما رفضته العديد من القوى العلمانية الوطنية الاخرى. اضافة الى تصريحات المراقب الاسبق للاخوان المسلمين علي صدر الدين البيانوني لمحطة “العربية” السعودية (14/10/2011)، والتي وصف فيها حزب العمال الكردستاني بالارهابي، وتصريحات رئيس المجلس برهان غليون لمحطة “دويتشه فيله” الالمانية (29/10/2011) حول الكرد في سوريا، والتي شبههم فيها ب”المهاجرين المغاربة في فرنسا”!.
ومؤخرا وبعد تزايد نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق الكردية والالتفاف الجماهيري الكبير حوله وتنظيمه للحياة هناك وتشكيله وحدات للحراسة والمراقبة ساهمت بشكل كبير في ارساء الأمن والامان، واصداره قرارا برفض توجه الشباب الكردي لاداء الخدمة الالزامية في الجيش السوري، اوعزت الحكومة التركية للمنشقين المنضوين فيما يسمى ب”الجيش السوري الحر” بالتحرك ضد هذا الحزب، وتجلى ذلك في:
1ـ التصريح الذي ادلى به النقيب عمار الواوي لصحيفة الشرق الأوسط (عدد 11/03/2012) والذي اتهم فيه حزب العمال الكردستاني بالتعاون مع النظام السوري في قمع التظاهرات والحراك الثوري.
2ـ الاتهامات التي ساقها العميد حسام العوّاك في حديث له لصحيفة “المصري اليوم” المصرية ( 16/03/2012) والتي اتهم فيها حزب العمال الكردستاني بالتعاون من النظام السوري وجيشه وشبيحته ضد الجيش الحر!.
2ـ البيان الختامي الذي اصدره كل من العميد مصطفى الشيخ والعقيد رياض الأسعد من تركيا حول توحيد كل من “المجلس العسكري الأعلى” و”الجيش السوري الحر” ( محطة “العربية” 23/03/2012)، والاشارة الى ان “الجيش السوري الحر” لن يتسامح مع أي فئة تحمل السلاح في عموم مناطق البلاد. وتأتي هذه التصريحات و”الجيش السوري الحر” متٌهم بالضلوع في أعمال تصفية طائفية، وقد انتقدته منظمة “هيومن رايتس ووتش” في بيان لها واتهمته بارتكاب انتهاكات( انظر: بيان منظمة “هيومن رايتس ووتش” على موقع المنظمة. تاريخ النشر 20/03/2012).
وكانت للتحركات التركية تلك والتهديد المباشر للشعب الكردي والرفض المبطن للحقوق الكردية في الاعتراف الدستوري والادارة الذاتية، ابلغ الاثر في دفع قائد حزب العمال الكردستاني مراد قره يلان في اصدار تصريح صريح يهدد فيه تركيا بالرد عليها بشكل موجع اذما هي فكرت في التدخل عسكريا في المناطق الكردية وحالت دون حصول الشعب الكردي في سوريا على حقوقه بشكل ديمقراطي سلمي وبالتعاون مع القوى السورية التقدمية الأخرى( وكالة “فرات” للأنباء 23/03/2012). وكان الكردستاني قد اعلن منذ اشهر هدنة، اوقف بموجبها عملياته العسكرية الهجومية، الا ان الجيش التركي يتابع هجماته ويوعز لاذرعه الاعلامية بتصوير الأمر وكأن الكردستاني هو من يهاجم و”يدافع عن النظام السوري”!.
والحال بان الدولة التركية تريد استخدام المنشقين عن الجيش النظامي السوري في منع الشعب الكردي في سوريا من تحقيق أي صيغة ديمقراطية جديدة متفق عليها بينهم وبين الدولة السورية في مرحلة مابعد النظام. وهي من اجل ذلك تعتمد سياسة واضحة في تقويّة تنظيم الاخوان المسلمين( والذي اصدر مؤخرا “وثيقة عهد” يٌشدد فيها على اعترافه بالدولة المدنية وبحقوق المواطنة، دون الاقرار بالاعتراف الدستوري بالشعب الكردي وضمان حقوقه في الادارة اللامركزية) وتغذية المسلحين المنشقين ومساعدتهم في السيطرة على المناطق الكردية والدفع هناك لحدوث مواجهات. وتقدم “طاولة الازمة السورية” التابعة لحزب العدالة والتنمية وعبر عيونها في المناطق الكردية تقاريرا على مدار الساعة، وجلها يتعلق بحزب الاتحاد الديمقراطي، مع بعض المساحة للقوى الكردية الاخرى، وبشكل خاص تلك التي ترتبط بعلاقة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني. وتعمل وسائل الاعلام التركية ( والعربية والكردية المرتبطة بها) على ضخ اكبر قدر ممكن من التقارير الكاذبة وحملات تشويه السمعة التي تستهدف حزب الاتحاد الديمقراطي، وتتمحور تلك الحملات على الربط بين هذا الحزب وبين النظام السوري، وتصويره وكأنه “مخلب قط” للنظام في وجه الثوار، وهو الذي “يٌعيق انخراط الاكراد في العمل المسلح ضد نظام بشار الأسد”!. وتأتي هذه الاتهامات على الرغم من ان هذا الحزب في حالة عداء وقطيعة تامة مع النظام منذ تأسيسه عام 2003( حيث قتل النظام عددا من قياداته واعتقل المئات من انصاره، ودأب على الحكم على اعضائه بفترات سجن مضاعفة، قياسا بمعتقلي الاحزاب الكردية الاخرى، وكان آخر تلك الاحكام ما اصدرته المحكمة العسكرية في حلب بالسجن لسبعة اعوام بحق 3 من اعضاء الحزب وذلك في 27/02/2012)، وعلى الرغم من انه اصطدم عسكريا مع قوات النظام وشبيحته مرتين حتى الآن. الأولى في مدينة كوباني”عين العرب” في 21/02/2012، حينما جرت مواجهات مسلحة بين انصار الحزب ومفرزة من “الامن الجوي” اسفرت عن مقتل رئيس المفرزة وجرح عسكرييّن، كما اسفرت عن مقتل مدني كردي. وحوادث حي الشيخ مقصود في مدينة حلب ( 10/03/2012)، وهو حي ذو اغلبية كردية وموال للاتحاد الديمقراطي، حينما قتل شبيحة النظام امراءة كردية، مما دفع الحزب للرد باحراق دور ومحلات الشبيحة وطردهم من المنطقة.
والسمة الأبرز لسياسة حزب الاتحاد الديمقراطي هو رفض التدخل الخارجي، والتمسك بسلمية الثورة، ورفض الخطاب الطائفي والفتنة، الى جانب ايجاد حل للقضية الكردية في سوريا بالتوافق بين جميع القوى السياسية والمكونات. وهو خطاب معلن في هيئة التنسيق الوطنية والتي يٌشكل الحزب فيها حاليا الطرف الكردي الوحيد. ويتعرض الحزب، مع الهيئة، الى حصار اعلامي عربي والى عزل متقصّد لحساب “المجلس الوطني السوري” والذي يتبنى، بضغط من بعض الأجنحة فيه، خطاب التدخل العسكري الخارجي والارتهان لتركيا، ويشوب خطابه وخطاب جناحه العسكري”الجيش السوري الحر” نزعة طائفية وذرائعية واضحة من جهة اقامة اتصالات سرية مع اسرائيل والجهات الاميركية المرتبطة بها.
وكانت صحيفة “يني شفق” التركية القريبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم قد نشرت في عددها الصادر في 24/03/2012 تقريرا مطولا عن نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق الكردية، مشيرة الى نوايا الحكومة التركية في التدخل العسكري في عمق 20 كيلومترا للسيطرة على المناطق الكردية والنيل من الحزب المذكور. وقالت الصحيفة ان المقصود ب”المنطقة العازلة” لدى تركيا هو المناطق الكردية والهدف هو كبح جماح حزب الاتحاد الديمقراطي الاوجلاني.
التدخل التركي في الشأن السوري سوف يٌساهم في خلق مشاكل كبيرة للثورة السورية التي انطلقت سلميا، وحققت بسلميتها الكثير من اهدافها. وليس خافيا بان التصريحات التركية المتشددة كانت وراء رهان جزء كبير من الشعب السوري على التدخل الدولي بمعية الحكومة التركية، وهو مالم يحصل. وتركيا ليست محايدة وهي معادية لجزء من الشعب السوري هم الكرد. تركيا لديها اجندتها الخاصة وهي تحاول استخدام اطراف سورية لاقصاء اطراف اخرى. كما ترفع خطابا طائفيا موال لطائفة على حساب اخرى، وهو مايٌعمق الانقسامات في الساحة الداخلية السورية ويٌزيد من عمر الأزمة الدموية الحالية. باختصار أي يد تركية في الثورة السورية يعني افساد هذه الثورة. يعني الحكم عليها بالفشل التام!.
ايلاف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى