التذكير بجيوش الاحتلال
طيب تيزيني
نزعم أن الانتفاضات الشبابية العربية تقدم -في شخصها- نماذج جديدة وفائقة الأهمية في الإنتاج السياسي، تحتاج البحث الأكاديمي المركز، ومن ضمنه حدّ معين من الممارسة السياسية. ولعل أهم ظاهرة الآن على هذا الصعيد تستحق البحث المعمق، هي دور “الشباب” في التغيير الاجتماعي ببعْد تاريخي حاسم، أو الشباب بوصفهم “حاملاً اجتماعياً” لعملية تغييرية بمثل ذلك البعد، كما هو الحال الآن في إطار “ثورة” أو “انتفاضة”. وبتعبير آخر، ما يحدث الآن ضمن الحركة الشبابية أمر جديد، في التاريخ العالمي.
وإذا كان الأمر المعني على هذا النحو من الأهمية، فإننا نضع يدنا على أحد مسوِّغات الانتفاضة الشبابية في سوريا، وهو أن أربعة عقود من هيمنة قانون الاستبداد الرباعي (الاستئثار بالسلطة وبالثروة والإعلام وبالمرجعية العامة)، ظهرت أكثر من كافية لإنتاج حوافز كبرى للشباب لخروجهم إلى الشارع ومطالبتهم بالحرية والكرامة والعدل. وبالمثل، بقدْر ما اتضح الأمر المذكور مهماً وخطيراً وذا دلالات كبرى في السياسة والاقتصاد والوعي الاجتماعي النقدي، فقد كانت مواجهة النظام الأمني للشباب ومطالبهم التاريخية المحقة شرسة ضخمة، إلى درجة استخدام الحل الأمني العسكري المسلح لمعالجة الوضعية المتفاقمة. وصار الناس يموتون بفعل السلاح الناري، سواء كان هؤلاء أطفالاً أم نساءً أو عَجَزة، إضافة إلى الفتيان والشباب، وذلك بالرغم من إعلان انتفاضة الشباب إنها سلمية، لا ترفض استخدام العنف فحسب، بل تدينه كذلك.
وشيئاً فشيئاً، يتسع استخدام العنف المسلح من قٍبل أجهزة الأمن خصوصاً، بحيث بتنا أمام مشهد رهيب، يذكّر بما تفعله جيوش الاحتلال، لقد دخلت إلى المعركة دبابات ورشاشات إلى أسلحة جوية. في هذا وذاك، تحاصر الدباباتُ المدن والأحياء، وتُقطّع أوصال المدن وتقتحم البيوت. وفي هذا كله، يستخدم النظام الأمني منظومة من المصطلحات والأفكار، التي يُراد منها القول إن سوريا تواجه “مؤامرة خارجية”، من حيث البدء والأساس، تسعى إلى تدمير البلد، يداً بيد مع “مجموعات من الشباب السوريين المخرِّبين” والذين يتلقى محرّضوهم ومنظموهم معونات مناسبة من الخارج “الأميركي خصوصاً”. ومن ثم، فإن ما يحدث الآن في المسرح السوري الداخلي إن هو إلا “مؤامرة أميركية”، على حدّ اعتبار النظام المذكور وحزب الله اللبناني. وبالتالي، فإن الجيش السوري يقوم بواجبه الوطني، حين ضرب وحاصر درعا وحمص وحماة…إلخ، وحين وجّه رصاصه إلى صدور شباب سوريا.
الإشكالية في موقف النظام الأمني السوري تكمن، بالضبط، في رفض هذا الأخير أن تكون هنالك “حاجات وطنية قصوى للإصلاح” في بلد غاب الإصلاح عنه أربعين عاماً. ولنفترض أن قوماً تركوا منازلهم وأحياءهم ومدنهم شهراً واحداً دون تنظيف وترميم وعناية، فكيف سيتحول هذا كله، بعدئذ؟! النظام الأمني، الذي رفض دائماً البدء بمشروع إصلاحي وطني ديمقراطي “حقيقي وليس ملفقاً”، قام بخطأ تحول إلى رذيلة عظمى، هي تدمير سوريا عبْر جيش الفاسدين والمُفْسدين، الذين سلطهم على البلد برقابة هائلة من “دولته الأمنية” التي أنتجها. هذا النظام ليس عيباً أو خطأ أن يعيش الآن “دورة التاريخ”، كما يرى ابن خلدون”، فيذهب، ليحل مكانه نظام وطني ديمقراطي، يعيش الناس فيه كلهم، في عدل وحرية وكرامة، وفي حماية جهاز أمن وجيش يُنتجهما الشعب.
الاتحاد