التراجيديا الكردية من كوباني إلى كركوك وعفرين/ عيسى الشعيبي
كان الإنجاز الباهر في معركة عين العرب (كوباني) ضد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014 نصراً، عقد الأميركيون رايته لصالح حليفهم الكردي الجديد في سورية، وشكل نقلة نوعية على طريق تحقيق الحلم الذي ظل يراود القوم، في انتزاع إقليم حكم ذاتي على أقل تقدير، يضاف إلى إقليم آخر مماثل في كردستان العراق، كان قد تحقق من قبل، بفضل عامل تدخل خارجي مشابه، عماده قوة أميركية طاغية، فرضت نفسها على جميع الأطراف في أهم بلدين عربيين مشرقيين، متكئة على الأكراد، ومتماهية مع تطلعات هذه الأقلية العرقية الوازنة، من دون أن ترقى إلى تبني النزعة الاستقلالية العميقة لديها في المدى المنظور.
وفيما مثلت معركة “كوباني” أول هزيمة عسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قد ظهر في حينه قوة لا تقهر، مثلت أيضا تلك المعركة التي سخر لها التحالف الدولي ضد الإرهاب نحو 85 في المائة من قوته الجوية على مدى نحو ثلاثة أشهر رافعة كبيرة لمشروع كردي ذي نفس انفصالي في سورية، راح يتقدم مع مرور الوقت، واضعاً الحركة القومية الممزقة بين أربعة بلدان على أعتاب مرحلة استقلالية قد لا تطول، ومانحاً هذا العرق المضطهد شعوراً قوياً بالجدارة والاستحقاق، وهو يرى الدولة العظمى الوحيدة تقف في ظهره، وتشد من أزره.
وأحسب أن معركة “كوباني” هي التي دشّنت العصر الذهبي للأكراد في المنطقة، وفتحت أمامهم أوسع الأبواب الممكنة للعب دور مركزي في تشكيل مستقبل سورية السياسي، تماماً على نحو ما كان عليه حال أقرانهم في بلاد الرافدين، أولئك الذين شكلوا بيضة القبان في عراق ما بعد الاجتياح الأميركي، وباتت لهم اليد العليا في المعادلة الداخلية التي بدت فيها أربيل في وضع مكافئ لبغداد، وهو ما مثل إلهاماً لأكراد الشمال السوري، وقدوةً راحوا يقتدون بها، ويغذّون الخطى على الطريق نفسه، الموصل حتماً، وبعد لأي، إلى عتبة الاستقلال.
غير أن الفترة التي علا فيها الأكراد علوّاً لم يبلغوه من قبل، لم تطل كثيراً في واقع الأمر، إن لم نقل إنها تحولت إلى كابوس سياسي، ليس فقط بفعل المتغيرات الإقليمية والدولية المتناسلة من بعضها بعضا في هذه المنطقة، وإنما أيضاً بفعل سوء التقدير الملازم للقادة الأكراد على مدى العقود الطويلة الماضية، وأخطائهم القاتلة في الرهان على حلفاء من الخارج الذي لا يحفل إلا بمصالحه المتقلبة بين حين وآخر، ناهيك عن مبالغاتهم بقوتهم الذاتية، واستعجالهم في حرق المراحل، واستعدائهم جيرانهم العرب والأتراك من دون مبرر.
كانت نقطة التراجع في مسار الحركة القومية الكردية، الصاعد منذ نحو ربع قرن، قد تمثلت في معركة كركوك أواخر العام الماضي، حين تلقى إقليم كردستان هزيمة منكرة في معركةٍ لم تقع، وخسر بضربة واحدة جل ما كان قد راكمه من مكاسب، وضعته حقاً على مشارف الاستقلال، نتيجة اختياره أسوأ لحظةٍ لإجراء استفتاء حذّر من إجرائه أوثق الحلفاء، بمن فيهم الحليف الأميركي، وعارضته بشدة كل من تركيا وإيران، فضلاً عن المعارضة الشرسة من حكومة العراق التي كانت قد أنجزت لتوها معركة حاسمة مع تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل، وبدت في حالة انتصار تام.
وفي ما يشبه مساراً تراجيدياً كردياً لا يكف عن التبدل إلا لبعض الوقت، مضى أكراد سورية على المسار نفسه خطوة بخطوة، وتنقبوا بعناد شديد الأخطاء الكارثية لنظرائهم في العراق، حيث أسرفوا في الاعتداد بأنفسهم أكثر مما ينبغي، وتسرّعوا في حرق المراحل، وتسببوا في إثارة المخاوف من شركائهم في الوطن، وجلب العداوة من جانب أكبر وأهم جار لهم على الإطلاق، ونعني به الجار التركي الذي وجد نفسه أمام تحدٍّ لا قبل له على تجاهله، أو التعايش معه، لا سيما أن ما بات يعرف باسم إقليم “روج آفا” المجاور يخاطب مشاعر نحو 15 مليون مواطن في تركيا ذاتها.
وهكذا بدت معركة عفرين التي لم تنته فصولها بعد حتمية من جانب دولة قوية، عمل أكراد سورية على استثارة كل مخاوفها التاريخية، واستماتوا في وضعها أمام خيارٍ واحدٍ لا يقبل التأجيل، وهو اقتلاع جيب حصين يحاذي حدودها الجنوبية الغربية، ويهدّد بالامتداد على طول نحو 900 كيلو متر، وهو ما نجحت فيه نجاحاً فاق كل التوقعات، أدخل الحلم الكردي في طور التبدّد من جديد، وفرض أنقرة فرضاً لاعبا إقليميا مهما في إعادة تكوين الجغرافيا السياسية السورية، بما في ذلك أخذ رأيها كاملاً غير منقوص في مستقبل الحالة الكردية في سورية أولاً، وفي العراق لاحقاً.
وليس من شك في أن أكراد الشمال السوري قد ذهبوا مرة أخرى، شأنهم شأن أكراد كردستان، ضحية سوء قراءة الموقف، الإقليمي والدولي الذي بدا مواتيا لهم بعض الشيء، ووقعوا في خطأ الرهان المبالغ به على متانة التحالف مع الأميركيين الذين لا حليف لهم سوى المصالح التي يرجّح فيها الوزن التركي بشدة على كفة ميزان العلاقة الوظيفية المؤقتة مع الأكراد، وفوق ذلك ذهابهم إلى آخر الشوط في التوسع الجغرافي على حساب العرب في حلب ومنبج وفي الرقة ودير الزور، في مشهدٍ كان ينم عن رغبة أقليةٍ عرقيةٍ جامحةٍ في الاستيلاء والتمدّد، تخالطها نزعةٌ عنصريةٌ عمياء، وهو ما أوغر صدر الأكثرية الكاثرة، وفق ما تجلى عليه الحال في انضمام الجيش السوري الحر، بحماسة، إلى الحملة التركية على عفرين.
من المرجح أن التراجيديا الكردية المتفاقمة لن تتوقف عند حدود منطقة عفرين، ولن تكون هذه الهزيمة المدوية، وما رافقها من انسحاباتٍ مذلةٍ من دون قتال حقيقي (وحتى النفس الأخير)
“القيادات الكردية لم تُحسن تقدير الموقف ذات يوم، ولم تتحيّن الفرص السانحة ذات ظرف مواتٍ”
بحسب ما كان يعد به قادة الأكراد السوريين، نهاية القول الفصل في مسار الانحدار المتواصل من هزيمة كركوك المهينة إلى هزيمة عفرين القاسية، حيث تلوح في الأفق القريب نذر معركةٍ من نوع ما حول منبج وعموم غربي الفرات، مع استمرار ضغط أنقرة الشديد على الأميركيين للوفاء بوعدٍ سبق أن قطعه نائب الرئيس الأميركي السابق، جون بايدن، وتهديدهم الصريح باستكمال ما شرعوا به ضد الأكراد في كل من سورية والعراق.
خلاصة القول، إن ما نسميها “التراجيديا الكردية” التي لازمت مصائر هذه القومية التي وقعت أقدارها في شرك ثلاث قوميات مفترسة (العرب والترك والفرس) هي في المقام الأول من صناعة الجغرافيا القاسية، وعمل المخططات الاستعمارية اللئيمة، إلا أن تواصلها على طول المدى، من مأساة عميقة إلى مأساة أعمق، مع بعض الاستثناءات النادرة، وتعمقها على النحو الذي لا فرار منه في الأجل المنظور، أمر تقع مسؤوليته الكبرى على عاتق القيادات الكردية التي، كما جاء سابقاً، لم تُحسن تقدير الموقف ذات يوم، ولم تتحيّن الفرص السانحة ذات ظرف مواتٍ، ولم تُهدئ من مخاوف جيرانها وشركائها في أي وقت، حتى لا نقول إنها كانت تُفرِط في حسبة قوتها دائماً، وتغالي في عقد الرهانات على الأميركيين من دون تبصر، وتقع في المحذور نفسه من دون توقف.
العربي الجديد