صفحات سوريةفاطمة ياسين

التراشق الدمشقي والحل السلمي/ فاطمة ياسين

 

 

 

يختار زهران علوش إحدى نوافذ الميديا الاجتماعية، ليعلن عن استمرار التجول، أو حظره، في مدينة دمشق، ويترك الخيارَ لقذائف الهاون التي تسقط في الساحات العامة للتأكد من تنفيذ الأوامر، فيما تفتح كبريات الأقنية الفضائية العالمية نشرات أخبارها لبشار الأسد ليجلس مبتسماً، كما يليق برئيس منكر وجود البراميل بسهولة إنكارَ وجود الكائنات الفضائية، ويسخر من الأمر خالطاً بين البراميل وأجهزة المطبخ، في مشهد يشبه الوقوف على المسرح بوضعية قراكوز.

يستحضر هذا التراشق الإعلامي الصراع بين “الريف” و”المدينة “، بمعناه المتطرف، كما يليق بالواقع، الريف بسخائه الفطري المعتمد على بداهة وسذاجة الهاون الذي يرحل على شكل قطع مكافئ، وينزل بنسبة خطأ في التصويب، مقداره مائة في المائة، والمدينة المتشحة ببورجوازية البراميل التي تسقط بشكل حر، تتحكم في حركتها سرعة الريح وسرعة الطائرة ومزاج الجندي الذي يلقيها من فوق.

تصر القوى العالمية، في معظمها، على أن الحل في سورية يجب أن يكون سلميّاً، وهو قول قد يوحي بنية حسنة، لكنه يستند إلى قلة الحيلة، وهذه لا تعني العجز التام، فكل الأطراف المصرة على الحل السلمي تستخدم ما تملك من وسائل، لمنع فريقها من الهزيمة، والإبقاء على حالة التعادل السائد، وتمهد حالة التعادل، بما تحتويه من ركود، لقيام اقتصاد حربي يحول كل الإنتاج المحلي إلى ما يشبه قذائف الهاون، أو البراميل التي تستخدم من بعيد لإيقاع أكبر قدر من الإصابات والذعر، إن أمكن، من دون أن تُخدش حالة التعادل القائمة بموجب المعادلة الإقليمية التي تنادي بالحل السلمي..

التراشق الذي تشهده دمشق وريفها يخدم على المدى الطويل “الحل السلمي”، لأنه غير كاف لأحداث خلل في التوازن المطلوب. لا يؤمن أي من المتقاتلين بإمكانية الحل السلمي، فجميعهم يجلسون على قارعة أشلاء المدن في وضعية القرفصاء، في انتظار شيء غير معروف، يشبه الجائزة الكبرى في اليانصيب، تجبر الطرف الآخر على التسليم، والأيديولوجيا حاضرة يمكن توظيفها بسهولة في الصراع. بشار الأسد ببذلته الأنيقة ومسحته العلمانية المزيفة وخطابه الإعلامي الذي يلوك بقايا شعارات الحرب الباردة، مع استخدام مجحف وممل لمفردات المقاومة والمؤامرة، بينما يفصح مؤيدوه عن جوهر هذا النظام، بتبني مجسم لحذاء عسكري ضخم، يلخص الواقع “الفكري” الذي يتبناه النظام! فيما يتسربل الطرف الآخر ببردة دينية دافئة، ولحية تقي غوائل الشرك، وهي الأيديولوجية الوحيدة المتاحة، فقد عجزت الأمة عن إنتاج أي صيغة فكرية، يمكن اعتناقها منهجاً اجتماعياً، يكون الدين أحد مكوناته، وليس مكونَه الوحيد.

تعتمد الحلول السلمية على قبول الآخر، وهي فكرة مريرة على كل الأطراف، لا يمكن ابتلاعها في ظروف توفر السلاح، فقتل الآخر قد يكون أكثر سهولة من الحوار معه، وربما أكثر متعة، ولا يكلف الأمر سوى إلقاء برميل، والمسارعة إلى قنوات يوتيوب، لمشاهدة مكان سقوطه، ومتابعة الدراما الواقعية عبر شاشة الحاسوب، وتتضاءل الفرص في توسع الميدان، وازدياد العمق الإقليمي للمعركة، فيمكن أن تحرك معركة صغيرة على تخوم جوبر غرف عمليات في موسكو وطهران وعواصم أخرى قريبة، وهي العواصم التي تتحدث عن الحل السلمي، بوصفه الخيار الوحيد.

تعرف كل الأطراف أن التراشق الدمشقي لا يحسم المعركة، وتعرف أن مقررات جنيف واحد واثنين وموسكو تخدم خزائن تكديس الأرشيف، والإصرار على حل سلمي موقف أخلاقي أكثر منه موقف عملي، لأن الراهن عصبي ونزق، ومتطرف، يجد في التراشق حالة تنفيس مادي، ويجد في مراقبة مؤتمرات الحوار مناسبة للسخرية وإطلاق النكات، فيما تذهب خطوط التماس عميقاً في الجسد السوري، لا تعبرها إلا القذائف وسيلة الحوار المتفجرة التي تفرض حظر التجول، والبراميل التي تلخص نظرية النظام في أدوات الطهو.

وفي انتظار الحل السلمي، على الطالب أن ينتظر النجاح، حاملاً ما بقي من دفاتره، وعلى الحامل أن تؤجل موعد مخاضها، وعلى الفصول أن لا تلتفت إلى حركة الشمس، بل أن تعصى أوامر الطبيعة، وتقف حتى تفرغ جعب المقاتلين، وتنضب جيوب الممولين، فالحل السلمي يعتمد فقط على مخازن السلاح الفارغة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى