التشليح والتشبيح/ أمجد ناصر
لم أقرأ مذكرات فاروق الشرع “الرواية المفقودة” التي أصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. فلم أتوفر على الكتاب بعد. ولن أنتظر حتى أحصل عليه لأبدي ملاحظات على ما قرأته من فصول حرفية، نشرتها “العربي الجديد”. لا علاقة لملاحظاتي بأسلوب الكتابة، صدقية المحتوى، ضعف البعد النقدي، موقع كاتبها في النظام الأسدي. هذه نقاط تصدر من قراءة الكتاب كاملاً، ومن باحث متخصص في مفاوضات “السلام” العربية الإسرائيلية التي كُتِبَ عنها الكثير، إلا من الجانب الأكثر غموضاً وإثارة فيها: سورية.
تعليقي، هنا، يتعلق بنقطةٍ، أثارت انتباهي، وتكشف، برأيي، عن جذر التشبيح في الحياة السياسية السورية. لا بدَّ بالطبع من اعتبار صدور هذه المذكرات حدثاً سياسياً وبحثياً، على الرغم من أننا لم نعد في زمن الرواية المفقودة، بل في زمن الصراع على مصائر سورية، بل على وجود سورية من عدمه. وهذا كله قد يكون موضع مذكرات أخرى للشرع، فمن يدري؟
قد لا تكون مصادفة أن تحمل مذكراته عنوان “رواية”، فالنزعة والإشارات الأدبية في ما قرأته واضحة. فهو يتحدث عن الرواية الحديثة، ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقصة القصيرة والرواية القصيرة (نوفيلا)، ويرى أن سبب تراجع الرواية الطويلة في مئات الصفحات أنه لم يعد لدى إنسان العصر الترف مع الوقت، لكنه يشير إلى أن القصة القصيرة التي تقع في بضع صفحات لا تشفي الغليل.. لا بدّ، إذن، من ظهور رواية تناسب العصر والأوان وانشغالات أناسهما، هكذا ظهرت الرواية القصيرة. هذا الكلام عن الرواية والقراءة والتطعيم الأدبي لمذكرات سياسية، ومن سياسي معروف بتحفظه في الكلام، يعكس ربما حلم الكاتب الثاوي في أعماق الشرع. فعنوان المذكرات، حتى لو وضعه قلم التحرير في المركز العربي، ليس بعيداً عمّا قرأته منها، والأهم ليس بعيداً عما أشرت إليه عن مسرح السياسة وشخصياته. الأسد الأب (حافظ) هو الشخصية المركزية. وبجانبه شخصيات فرعية، أبرزها، على صعيد المفاوضات مع إسرائيل، فاروق الشرع. لكن، ثمة في مسرح المذكرات، الممتد على زمن سابق أطول، آخرون يتقدمون على الشرع في النظام الأسدي، مثل عبد الحليم خدام، مصطفى طلاس. حافظ الأسد مصدر الحركة في مذكرات الشرع، وموزع الأدوار، ومنه وإليه يعود القرار. لكنَّ الشرع لا يستطيع أن يطمس لاعباً مهماً آخر، مثل عبد الحليم خدام، حتى وإن كان هو مؤلف النص. فكيف يظهر لنا خدام في ما قرأت، ولا أظن أن نبرة الكتابة ستتغير في ما لم أقرأ؟ إنه سيد التشليح والتشبيح. شخص فظ. أحمق أحياناً. لا يتورع عن زج النظام في سياسات صدامية مع العالم، ويضعه في مواقف محرجة، ويجر عليه لعنات عربية. يعرف حافظ الأسد ذلك كله، لكنه يبقيه على رأس أهم ملفين في السياسة السورية يومها: فلسطين ولبنان. لا تغير تعليقات حافظ الأسد التي يسجلها على “سلوك” خدام من واقع أن الأخير كان، كما يشير الشرع، وراء طرد ياسر عرفات المهين من دمشق، الاقتتال بين أمل وحزب الله، وأمل والفلسطينيين، لكنه، مع ذلك، يبقى، فترة طويلة، ممسكاً بهذين الملفين اللذين برز فيهما تشبيح النظام السوري على أصوله.
ومما له دلالة على تشبيح، قل تشليح، خدام، يورد الشرع حكاية لافتة: يستغل خدام سهو علي عبدالله صالح، وهو يودع حافظ الأسد في المطار، ويخطف منه، على مرأى من الأسد والوفد المرافق، بمن فيه الشرع، مسبحة ثمينة. تخيّلوا هذا المشهد الكاريكاتيري: خدام يقتنص المسبحة، ثم يفرُّ في اتجاه الطائرة الرئاسية السورية، وصالح يركض وراءه طالباً إعادة المسبحة التي تقدر بآلاف الدولارات، بيد أن خدام يسارع إلى ارتقاء سلم الطائرة التي ستقلع إلى دمشق!
العربي الجديد