التطهير/ نديم جرجوره
هذا الخراب كلّه بات متن الحكاية العربية. خراب نابعٌ من تدمير وقتل وانكفاءات إلى داخل الذات، وتطهير المجتمعات من سكّانها الأصليين. التطهير ليس محصوراً بالسياسة. الخطاب الديني متورّط بهذا أيضاً. أو بالأحرى الارتكاز على خطاب ديني ملتحف بادّعاء إنساني مفضوح. الخديعة تنطلي على عميان يُساقون إلى النهايات المأسوية وهم منتشون بما يفعلون. الخديعة تغطّي كمّاً هائلاً من الدم والدمار والأنفاق السوداء. الخديعة تفتح مقابر وتُغلق عقولاً تنتشي بالمقدّس، السياسي والديني والاجتماعي، ولا ترغب في اجتهاد يأخذها إلى الأسئلة الواجب طرحها، وإلى المحاولة الجادة للإجابة عليها.
هذا الخراب كلّه بات الطريق الوحيدة إلى حياة مشلّعة على ضفاف النهايات القذرة. خراب مقبل من جحيم الأرض إلى فضاءات مفتوحة على المعلّق والملتبس والغامض. لكن المعلّق معروفٌ، والملتبس صحيح، والغامض أوضح من عين الشمس، لأن الخراب صنعة محترفين في تحطيم الجغرافيا على ساكنيها، بحجّة قتال غرباء يُروَّج على أنهم جاءوا من كواكب أخرى. ولأن الخراب صفة الراهن، باتت الجغرافيا ضيّقة لكثرة الموت، ولطغيان البشاعة، ولارتفاع جدران من الجثث المتفحّمة على أرصفة الأوهام.
لا يستقيم المشهد العربي في سيره الحثيث باتّجاه الفراغ، إلاّ إذا تبنّى الفراغ ما تبقّى من أحياء وأبنية وأحلام، كي يتسلّى، لاحقاً، في تصفيتها بهدوئه الغريب. هكذا تتحوّل الأرض إلى خصاء، والتاريخ إلى نزيف، والجرح إلى صرخة في برّية المنفيين العاجزين عن استعادة حيويتهم من العتمة. لا يستقيم المشهد العربي في سيره الحثيث باتّجاه الاختلاء النهائي في بؤس الأزمنة المتوقّفة عند أبواب التنانين، لأن التنانين منشغلة في ابتكار أشكال متجدّدة من خراب وقتل، ومشحونة بعنفها التقليدي الذاهب بها إلى أسوأ إبداع ظلاميّ في الاحتكام إلى الجنون أداة حكم وتسلّط وإجرام.
لا يستقيم المشهد العربي إلاّ في خرابه المدوّي. هذه الحالة تعيد صوغ التاريخ بالنار والغبار والأسود، وتعيد رسم الجغرافيا بأنياب قتلة يفترسون ضحاياهم المقيمين في براءاتهم وأهوائهم وأوهامهم الأخيرة، قبل أن يتحوّل الضحايا إلى أرقام ترفع من شأن قاتل، مانحةً إياه مزيداً من أحقاد وانفعالات غاضبة وابتعاد صاخب عن الإنسانيّ والبشريّ. لكن، هل صحيح أن الضحايا أبرياء؟ “جريمة هؤلاء أنهم أبرياء”. ولأنهم أبرياء، فقد بات عليهم أن يجعلوا الخراب مسكناً، والجوع إلى الخلاص مدفناً، والرغبة الموؤودة في الحرية وطناً منسياً لن يبلغوه، ما دامت التنانين تتوالد بخفّة الاستسلام إلى الجحيم. ولأنهم أبرياء، فقد صاروا مُطالبين بتقديم دمائهم وأجسادهم وعقولهم وانفعالاتهم وأحلامهم في خدمة تنانين يستهويها العبث بالآخرين، ويُسحرها التناحر مع أشباهها برغبة الانقضاض على ما تبقى من منطق واجتهاد عقلي سليم.
إنه الخراب. إنه الفراغ. إنها النهاية المأسوية. الضحايا ذاهبون إلى الموت، كما التنانين. لكن أن يأتي الموت، وهو حقٌّ، على أيدي التنانين، فهذه ذروة العبث.
نديم جرجوره
السفير