التعليمات بالداخل/ ديمة الشكر
لطالما فتنتني حكايا الجنيّات، أو الـLes Contes des Fées، بسبب قدرتها اللامحدودة على استيلاد المعاني، وتنويع درجات المجاز ومراتب الاستعارة. وازدادت الحكايا إشعاعًا بعدما حلّل الطبيب النفسي النمساوي برونو بيتيلهايم في كتابه “التحليل النفسي لحكايا الجنيّات”، المعاني الكامنة فيها ورسائلها المشفّرة، وتلك الأمثولة التي تنقلها إلى لاوعي الأطفال، فتعينهم على مواجهة حقائق الحياة. سبر بيتيلهايم الطريق المعقّد للإشارات اللغوية المبثوثة في ثنايا تلك العوالم الساحرة للحكايا. اللغة وتلاوينها المتّضحة من قِران المفردات ببعضها، وتلك التي توقظ الحواس وتشحذ الخيال، ليست تمامًا من “مملكة الأطفال” وحدهم، ولعلّها أدنى إلى مملكة الشعر.
من بين كل الحكايا، تبزغ حكاية “الأميرة وحبّة الفول” كمجاز ولا أجمل، يمكن سرقته من عالم الجنيّات إلى عالم وادي عبقر؛ مقابل الجملة التي كررتها الأميرة: أنا أميرة حقيقية، يمكننا كتابة: أنا شاعر حقيقي. ومقابل امتحان طبقات الفراش المتكاثرة وتحتها حبّة فول صغيرة، يمكننا اصطياد أي جملة شعرية أو بيت شعري من ركام الكتابات الكثيرة كي نتملّى في هذا “الإحساس الرقيق الذي لا تملكه إلا أميرة حقيقية”، أو شاعر حقيقي.
لو تأمّلنا كيف تنبثق القصائد من حيوات أصحابها، أي من التجربة المعيشة، لما صعب حقًا التقاط نبضات القلوب، وخلجات الارتباك، والمزاوجة بين القوّة والضعف، وذاك التردّد المعجون بالاندفاع، وذاك الجموح الواثق كالسهم، لكن المنطلق من رمال لا تكفّ عن التحرك، ثم الاحتماء بـ المفردات، لئلا تنسكب الروح كلّها على الورق.
ووفقًا للثعالبي، فإن للحبّ اثنتي عشر مرتبة، تتوسطها مرتبة الشغف، مرتبة هي الأقرب إلى عالم الشعراء، أو “عجائب المخلوقات”، لو جاز الوصف والتشبيه. ويشرح الثعالبي معناها قائلًا: الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهي جلدة دونه.
فما الذي يفعله الشعراء؟ يقوم الشعراء الحقيقيون بنزع الشغاف عن قلوبهم، وتركها عارية مشرّعة في القصيدة. وفي الأمر مخاطرة، إذ إن الشاعر لا يكتب إلا داخله، وهو يخاطر من حيث يشرّعه على كل الجهات أمام الملأ. من هنا تبدو القصائد في أحايين كثيرة، كوسيلة لقراءة روح الشاعر، أو بصورة أدّق كدليل إلى داخله الشفيف.
لذا ما كان ممكنًا أن يكون عنوان “التعليمات بالداخل” إلا عنوان ديوان شعري، فليس أكثر مباشرة ومواربة في آن واحد من هذا التعبير الشعري الدال على “آلية” ولادة الشعر من قِران حفنة كلمات قليلة ببعضها، ضمن قطعة صغيرة مسبوكة، لكنها تنفتح على اللانهائي والكلي الاتّساع.
غدا العنوان الآن كما لا يخفى، شهيرًا ملتصقًا باسم مبدعه: الشاعر والتشكيلي الفلسطيني، أشرف فياض، الذي طبقت شهرة حكم الإعدام فيه الآفاق، وأردت والده قتيلًا لفرط الأسى والألم.
لعل أشرف طفلًا صغيرًا، بهر والده ووالدته من خلال تعليقاته الذكية وكلامه الخاصّ اللماح. فمملكة الأطفال لا تكفّ عن التوّهج والإيحاء والإبهار، عدّتها شغف ونزق ونزوات وكلام لاذع، واندفاع محسوب بخبث تارة، وانكفاءٍ جفولٍ تارة أخرى، إلا أن البراءة غلالتها الأولى والأخيرة.
تقول الواقعة إن شجارًا نشب بين أشرف وأحدهم في مباراة كرة قدم، وهذا الـ أحدهم كان من الشرّ إلى درجة التقوّل على الشاعر والوشاية به إلى شرطة دينية هي “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ولم يجد الواشي الشرير دليلًا ضدّ أشرف إلا الشعر في “التعليمات بالداخل”، ولم تجد الهيئة “ضيرًا” من الحكم على أشرف فياض بعقوبة الإعدام، هكذا من دون أن يرفّ لها جفن.
سيكون من الوضاعة البحث عن “دليل” في ديوان شعر لاتهام شاعر، وسيكون من السخف البحث عن دليل مضاد لتبرئته. فالأمرُ أبعد بما لا يُقاس من تدرّجات المجاز، هذا ما تشير إليه واقعة جديدة تقول إنه لا يبدو مطلقًا أن العرائض التي وقّعت وحملات التضامن مع أشرف فياض، قد أثّرت ولو قيد أنملة في زحزحة قرار جائر، سيدخل التاريخ، مثالًا على الجريمة المعلنة. وهي أيضًا جريمة مزدوجة؛ قتلت أب الشاعر، وتتهيأ لـ قتل الشاعر عن سبق إصرار وترصّد.
شيء لا يصدّق، خرافي، وانفلات من كلّ عقال، ولا شيء يكبحه على ما يبدو، لا شيء. انحياز مطلقٌ للقتل، وتوقٌ لا رادَّ له للجريمة. شيء غير مسبوق: القرار بإعدام شاعر.
العربي الجديد