التفاوض مع الأسد: عن تصريحات كيري الأخيرة –مجموعة مقالات
عن الوهم والهلوسة.. الموقف الأميركي من سوريا/ سلامة كيلة
التصريحات الأميركية تجاه سوريا تبدو مرتبكة ومتناقضة، لكنها باتت تشير أكثر إلى “علاقة ما” مع نظام بشار الأسد. تصريح جون كيري الأخير كان الأكثر وضوحا ربما، وقد أثار ارتباكا في طرف الرافضين للنظام، وفرحا لدى “الممانعين” الذين يعتقدون أن ذلك هو الدلالة على انتصار النظام، ومن ثم على بقائه.
ربما كانت المنظورات السابقة هي التي حكمت النظر إلى الموقف الأميركي حين بدأت الثورة السورية، حيث اعتبر مؤيدو النظام أن ما يجري هو مؤامرة أميركية، وأن أميركا هي “العدو الرئيسي” الذي يسعى إلى تغيير النظام وتدمير سوريا، وهو الموقف الذي ظل ثابتا طيلة السنوات الأربع من الثورة.
المعارضة التي اعتبرت أنها مع الثورة، واشتغلت على فرض ذاتها قيادة لها، انطلقت من بديهية أن أميركا ضد النظام السوري وتريد تغييره، وبالتالي سوف تستغل ما يحدث من أجل تحقيق ذلك، لإنهاء حزب الله وطرد إيران من المنطقة. وبهذا أسست إستراتيجيتها على أساس أن التدخل الأميركي هو أمر حتمي، وأن عليها أن تعلن ذاتها قيادة لكي تستدعي التدخل.
لكن الموقف الأميركي جاء مختلفا عن كل هذه الأوهام، فقد عمل باراك أوباما منذ أصبح رئيسا على إعادة العلاقة مع النظام السوري، وقد تسارع التحسن في العلاقة في العام 2010، ومن يعد إلى التصريحات والتسريبات حينها يلمس الغزل الذي كان يصدر من الطرفين.
لقد أتى أوباما إلى السلطة بعد أزمة مالية كبيرة كانت تفرض إعادة بناء التموضع الأميركي في العالم، وبالتالي التراجع عن سياسات جورج بوش الابن، وإن ظل يريد الحفاظ على زخم السيطرة الأميركية التي بدأها بوش، على الأقل في السنة الأولى من حكمه، لكن استمرار الأزمة بعد سنتين من انفجارها رغم السياسات التي اتبعها لإصلاح الاقتصاد، جعله يعيد التفكير في كلية الوضع الأميركي، وهو ما أفضى إلى إعلان إستراتيجية جديدة تقلص من الطموح الأميركي للسيطرة على العالم، وتحصر الأولوية الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادي (أي التخلي عن أولوية الشرق الأوسط، فقط مع بقاء الأهمية نفسها لمنطقة الخليج العربي). وهو ما دفع إلى محاولة تطبيع العلاقات مع النظام السوري بعد الوصول إلى نتيجة العجز عن حل الأزمة سنة 2010، والاكتفاء بإدارتها.
في هذه المسافة بين الوصول إلى نتيجة تقول بالعجز عن حل الأزمة وإقرار إستراتيجية جديدة (2010/2012) حدثت الثورات في البلدان العربية، ولذا سارعت الإدارة الأميركية لتحقيق تغيير سريع في تونس ومصر، واعتبرت أن امتصاص الأزمة يفترض مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة، وهي المسألة التي كانت مطروحة قبيل الحرب على الإرهاب، وأعاد أوباما طرحها بعد أن حاول تعديل العلاقة مع “الإسلام” في خطاب القاهرة سنة 2009.
وفي ليبيا ترددت أميركا كثيرا قبل أن تشارك في التدخل العسكري بخجل، لكنها على الصعيد السوري بدت غير مبالية، وبعيدة عن أن تنخرط في الحدث، وكان يبدو أنها لا تمتلك رؤية لما يمكن أن تفعل، خصوصا بعد “تصالحها” مع السلطة قبيل الثورة، وكما تسرب فقد بدأت مفاوضات مع الدولة الصهيونية برعايتها.
وكل التصريحات حول الوضع السوري كانت عائمة، وتشير إلى القلق بشأن ما يجري، وتطالب بالوصول إلى تفاهم بين السلطة والشعب، ولم تنطق بضرورة تنحي بشار الأسد إلا في وقت متأخر، وبخجل كذلك، وهي من خلال ذلك لم تكن متحمسة لسياسة تركيا وقطر وفرنسا التي كانت قد توصلت إلى ضرورة تغيير النظام بعد ضغط على السلطة لمطالبتها بالإصلاح.
ولهذا دعمت هذه الدول تشكيل المجلس الوطني لكي يكون مدخل التدخل الذي طرحته على حلف الناتو، والذي أُفشل نتيجة الرفض الأميركي، وقد فاجأت أميركا حلفاءها بدعم الدور الروسي في سوريا بعد أن طلب أوباما من روسيا بداية سنة 2012 رعاية مرحلة انتقالية في سوريا كما جرى في اليمن، وهو ما تبلور في التوافق على بيان جنيف في 30 يونيو/حزيران 2012، الذي أعطى لروسيا الدور المركزي في الحل.
لقد باعت أميركا سوريا لروسيا كما أشرت مرارا منذئذ، وظهر أن اهتمامها بسوريا ليس أساسيا، بعد أن قررت نقل أولويتها إلى آسيا والمحيط الهادي، وباتت معنية بالتفاهم مع روسيا. وفي كل هذه المرحلة رفضت تسليح المعارضة، وأصرت على تشكيل معارضة توافق على الحل الروسي. لكن روسيا لم تستطع رعاية ناجحة للحوار.
بعد تصاعد العنف الدموي والدمار، كانت الإدارة الأميركية -ولا شك- فرحة أن هناك من يقوم بما قامت به في العراق، وكانت تحلم بأن يتحقق في سوريا، لتدمير كل المنجزات التي تحققت خلال عقود سابقة. ولهذا سهلت كل الأشكال التي تساعد على تصاعد هذا الشكل من الصراع، وعلى محاولة تحويله إلى صراع طائفي، وسهلت دخول تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم الدولة (داعش) في الصراع، لأنها كذلك كانت تريد سحق الثورة بعد أن باتت الثورات تشكل خطرا داهما، وهو ما كان يظهر في خطابها المراوغ والمتقلب، والذي كان يهدف إلى اللعب في الصراع ومده ومنع حسمه. ولقد نجحت في ذلك دون أن يكون لها دور مباشر، وأعتقد أنها ما زالت تعمل على “الخطة” نفسها.
حين قررت الضغط على إيران، عموما وفي العراق خصوصا، وجدت أنه يمكن أن تكون الورقة السورية جزءا من هذا الضغط. لهذا مدت “الحرب ضد داعش” إلى سوريا مع تأكيدها أنها لا تهدف إلى إسقاط النظام، أو حتى الاحتكاك به، كما ظهر في الأشهر الماضية. لكن باتت سوريا أحد أوراق التفاوض والمساومة مع إيران، وإذا كانت تريد تعديل وضع الدولة العراقية بحيث يكون لها تأثير مباشر عليها بعد أن فقدته إثر انسحابها نهاية سنة 2011، فإن سوريا هي ورقة قابلة للتنازل لأنها لا تجد أن لها مصالح تفرض عليها التمسك بها.
بالتالي لا تكمن المشكلة في أن أميركا يمكن أن تحاور الأسد، فهذا لا قيمة له ما دامت لا تريد التحصل على مصالح في سوريا، وباتت ترى أنها غير معنية بها في ظل سياستها العالمية التي تبتعد عن “الشرق الأوسط” (وتبقى في الخليج). بل المشكلة تكمن في أنها تساوم على سوريا مع روسيا والآن مع إيران، ومن ثم تنطلق من أنها ورقة بيدها لا يعنيها مصيرها إلا كونها ورقة.
هذا الأمر هو الذي يفسر الخطاب الأميركي المتردد والمتقلب والغامض إلى حد ما، فأميركا تناور بالورقة السورية، لهذا لا تريد دعم المعارضة، لأنها لا تريد أن تنجح الثورة، على العكس تريد أن تتشوه وتتطرف، وتتحول إلى مجزرة، ولا تريد إسقاط النظام، لأنها لا تريد أن تسيطر في سوريا بعد أن أخذت في الانسحاب من المنطقة.
لا شك أن أميركا حققت ما أرادته أصلا، أي التدمير والقتل، لكن ليس بيدها بل بيد السلطة نفسها. وهي الآن تُدخل الورقة السورية ضمن الأوراق التي تلعبها مع إيران، في سياق التوافق على دور إيراني إقليمي، لكنها أيضا تبقي الورقة السورية للمساومة مع روسيا رغم تصاعد الصراع بينهما الآن، لهذا ما زالت تؤكد على العودة إلى مبادئ جنيف1.
إن ملخص الموقف الأميركي يتمثل في التأكيد على أن الحل سياسي، وأنه من الضروري استمرار بنية الدولة، علما بأن جنيف1 أقرت تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية بالتوافق بين النظام والمعارضة، دون إشارة لمصير بشار الأسد.
وربما يعود ذلك الغموض في جنيف1 بشأن مصير الأسد إلى حالة الشد والجذب بين أميركا وروسيا التي ظلت تتمسك ببقاء بشار الأسد، وهو الأمر الذي تفعله إيران الآن. لهذا يظل بشار الأسد هو المعني بإرسال وفد التفاوض، ولا يجري البحث عن بديل من داخل السلطة، وأميركا ليست معنية بهذا البديل، على أمل أن تقوم روسيا أو إيران بذلك. حينها يمكن أن يتحقق الحل.
لا شك أن أميركا تريد أن تصل روسيا وإيران إلى قناعة باستحالة بقاء بشار الأسد في حال كانت هناك نية للوصول إلى حل، لكن دون أن تكون هي المبادرة، فهي لا تبدو متعجلة، لهذا تظل هذه المسألة هي “العقدة” التي تمنع الوصول إلى حل على أساس مبادئ جنيف1.
ما تلتزم به أميركا هو ألا تساعد في اختلال ميزان القوى العسكري، وهذا ما تقوم به بكل جد، وما تقوم به الآن من تدريب لقوات من المعارضة يتحدد دوره في الحرب ضد داعش وليس ضد النظام، أي أنها تحرف الصراع إلى سياق آخر بعيدا عن النظام تحت حجة “الحرب ضد داعش” التي أعلنت أنها أولويتها.
خلاصة الأمر أن الوضع يراوح بين التخثر بمساعدة أميركية، والتوافق مع روسيا وإيران ليجري فرض حل يقوم -بالتأكيد- على إبعاد الأسد.
الجزيرة نت
الجديد والقديم في تصريحات كيري/ زيـاد مـاجد
أثارت تصريحات وزير الخارجية الأميركية جون كيري حول ضرورة التفاوض مع بشار الأسد للوصول الى حلّ سياسي في سوريا الكثير من التعليقات والتكهّنات.
وفي وقت رحّبت بها عواصم وقوى “ممانعة”، تخوّفت عواصم وقوى أُخرى من مدلولاتها ومن مؤدّياتها إقليمياً، وموضعياً في سوريا.
وإذا كان يصعب اليوم تقدير ما ستُفضي إليه هكذا تصريحات وإعلانات أميركية من نتائج سياسية ومن تداعيات ميدانية، فإنه يمكن الحديث عن مستويات ثلاثة تُتيح قراءتها.
المستوى الأول يرتبط بالجديد فيها. والجديد يتمثّل بمفردات وعبارات تطبيعية مع الأسد تتخطّى ما كان يتُرك ملتبساً سابقاً، لا سيما بعد حزيران 2012، حين انعقد اجتماع جنيف الأول. فمنذ ذلك الوقت، واظبت واشنطن على الدعوة رسمياً لحلّ يؤمّن انتقال السلطة في دمشق، واعتبرت الأسد جزءاً من المشكلة وليس “من مستقبل سوريا”، من دون إيضاحات حول المقصود بالأمر وحول شروط رحيل “الرئيس” السوري وتوقيت الرحيل والمستقبل “الشخصي” للراحل.
أما هذه المرة، فيبدو الأمر أقلّ التباساً، إذ يشير كيري الى ضرورة التفاوض مع الأسد للوصول الى حلّ سياسي من دون أي اشتراط أو تلميح لما بعد ذلك، أي لموقع الأسد في “المستقبل السوري”.
المستوى الثاني يقوم على ما هو قديم في الموضوع. فتصريح كيري لا يغدو كونه ترجمة كلامية من وزير الخارجية لسياسات تعتمدها إدارة أوباما منذ ثلاثة أعوام. ذلك أن واشنطن تمنّعت على نحو مقصود عن إظهار الحزم ضد النظام في دمشق، ووضعت فيتو – ما زال قائماً – على تسليح المعارضة بالصواريخ المضادة للطائرات وللدروع التي كان يمكن أن تعدّل الكثير في موازين القوى العسكرية.
والأهم والأخطر أيضاً، أنها تمنّعت عن القيام بأي إجراء ضد النظام الأسدي بعد تخطيه الخط الأحمر الوحيد الذي سبق أن وضعته لآلة قتله، أي لجوء الأخيرة الى السلاح الكيماوي. فكان لهذه السياسات أن طمأنت الأسد وحلفاءه الى إمكانية تعامل واشنطن معه إن نجح في البقاء في دمشق، وأتى كلام كيري ليترجم ذلك مشافهةً رسميةً الأحد الفائت.
المستوى الثالث لقراءة تصريح وزير الخارجية الأميركية هو المرتبط بمخاطبة واشنطن لطهران عشية جولة هامة من المفاوضات بين كيري ونظيره الإيراني ظريف. فالمفاوضات هذه لا تقتصر على الجوانب النووية التقنية، ولَو أن الملفّ النووي هو الأهمّ فيها، بل تتخطّاها الى البحث في ما يمكن أن يشجّع الإيرانيين على قبول العروض الأميركية، أي الإقرار بأدوار إقليمية لهم وبنفوذ واسع في المنطقة، وبرفع للعقوبات وتطوير للعلاقات الاقتصادية الغربية الإيرانية. بهذا المعنى، يأتي التصريح الأميركي ليقول لإيران “إننا بعد تعاوننا في العراق ضد داعش، جاهزون للتعاون أيضاً في ما خصّ سوريا، شرط القبول بحلّ سياسي هناك”. أما ماهية الحلّ وشروطه فمتروكة للحوار والمشاركين فيه، بمن فيهم من حمته وتحميه إيران من السقوط، أي الأسد.
قد تكون هذه مستويات قراءة ما قاله كيري. وقد تكون هناك مستويات أُخرى للقراءة. لكن الأهمّ منها ربّما، هو أوّلاً جدواها وما الذي سيبقى منها إذا فشلت المفاوضات الأميركية الإيرانية في الوصول الى اتفاق، وهو ثانياً ما ستكونه ردود فعل دول حليفة لواشنطن عليها (وتحديداً فرنسا وتركيا والسعودية وقطر والى حدّ ما بريطانيا) متحفّظة على الأدوار الإيرانية إقليمياً (أو رافضة لها) وواضحة الرفض لبقاء الأسد أو لتحوّله جزءاً من “الحلّ”…
وسط كلّ ذلك، تدخل الثورة السورية عامها الخامس، وتستمر الحرب الضارية ضدها، وتستمرّ معاناة الشعب السوري داخل سوريا وفي مخيّمات اللجوء والمنافي. والسوريّون الذين خرجوا الى الشارع ذات آذار 2011 لا يبدو أنهم قرّروا الانسحاب منه، رغم المآسي التي أطالتها وتطيلها سياسات وتصريحات قاصرة كالتي اعتمدها وتفوّه بها كيري وأضرابه.
موقع لبنان ناو
كيري وبرينان يدشنان العام الخامس من المأساة السورية/ بكر صدقي
ربط كثير من السوريين على صفحاتهم الفيسبوكية، بحق، بين تصريح وزير الخارجية الأمريكية جون كيري بصدد «التفاوض مع بشار الأسد» وضرب سرمين وبلدات أخرى في ريف إدلب، بعد أقل من يومين من التصريح المذكور، بمواد كيماوية. فهذه هي الاستجابة البديهية لهذا النظام لتصريح مماثل من الدولة التي تشكل بوصلته الوحيدة في كل مسالكه. صحيح أن صاحب القرار في دمشق اليوم هو إيران، لكن «تفاصيل» كقتل المدنيين بغاز الكلور تبقى من «أخلاقياته» وحده التي لا يشاركه فيها إلا نظام صدام حسين البائد أو القذافي الساقط أو نظام كوريا الشمالية الوراثي الصامد. من المستبعد ألا يعرف كيري ما الذي جلبه على مدنيي تلك البلدات، وأطفالها بخاصة، من إعدامٍ كيماوي بتصريحه المشؤوم.
ولكن ما الجديد في إعلان وزير الخارجية الأمريكي عن أنه «لا مفر، في نهاية المطاف، من التحدث إلى الأسد لوضع حد للحرب في سوريا»؟ ألم يجلب كيري الائتلاف المعارض، رغم أنف الأخير، إلى مونترو لتتحدث المعارضة إلى بشار الجعفري ورهطه من بذاءات النظام الكيماوي ومسوخه من أمثال بثينة شعبان ولونا الشبل؟ ألم يُصغِ كيري نفسه، صاغراً، إلى وليد المعلم وهو يتهم الولايات المتحدة، ودولاً أخرى، بدعم الإرهاب، في حين كان بان كي مون «القلق» يفشل في إخراسه، المرة تلو الأخرى، على رغم تجاوزه للوقت المخصص له ولكل لياقات الكلام الدبلوماسي؟
فقد أجمعت كل دول ما يسمى بأصدقاء الشعب السوري على أن لا حل للأزمة السورية إلا الحل السياسي. وهذا يعني التفاوض مع نظام الأسد للوصول إلى «نقل السلطة إلى هيئة حكم انتقالية» وفقاً لنص بيان جنيف1. وتراوحت التفسيرات بين طرفي النزاع الدوليين (أمريكا وروسيا) بين انتقال بدون الأسد أو مع بقائه، وإن كان التفسير الروسي هذا غير مفهوم إلا بكونه لغماً ينسف جوهر فكرة هيئة الحكم الانتقالية.
أما ما يقال عن أن تصريح كيري حول التفاوض «الاضطراري» مع الأسد، يشير إلى تراجع أمريكي عن سحب الشرعية منه، فهذا ما تم سابقاً حين جعلت منه الإدارة الأمريكية طرفاً في عملية نزع سلاحه الكيماوي، بعد تراجعها عن توجيه ضربة عقابية له على استخدامه هذا السلاح في ضرب الغوطتين حول دمشق. قد يعني التحول الجديد، إن كان ثمة تحول في الموقف الأمريكي، إدراج بطل البراميل المتفجرة شريكاً غير معلن في محاربة داعش. هذا ما نفهمه بوضوح أكبر من كلام مدير وكالة المخابرات المركزية جون برينان أمام الكونغرس بصدد «عدم إرادة واشنطن في انهيار النظام السوري».
أثار تصريح جون كيري ردود فعل سريعة من فرنسا وبريطانيا أكدت على أن «الأسد لن يكون جزءاً من الحل، ولا مكان له في مستقبل سوريا»، الأمر الذي أكدته أيضاً الخارجية الأمريكية في «توضيحها» لسوء الفهم الناجم عن تصريح الوزير كيري. لكن الرد الأكثر بلاغة إنما جاء من سفاح دمشق نفسه الذي رد على كيري بالنبرة الأمريكية المألوفة: «نريد أفعالاً لا أقوالاً!»، ليطالب محاوره الأمريكي بوقف دعم الإرهابيين أولاً! وليضرب، في اليوم نفسه، سرمين وقميناس بغاز الكلور تعزيزاً لموقفه. ولسان حاله يقول لكيري ولقائده «من الخلف» باراك أوباما: فاوضوني وطائراتي تقتل المدنيين. عليكم بقبولي كما أنا شريكاً في محاربة الإرهاب الذي أحدده أنا، فنتقاسم العمل: طائراتكم تضرب داعش وطائراتي تضرب المدنيين الإرهابيين. لا خيار أمامكم إلا القبول بي، تماماً كما أكد مدير استخباراتكم جون برينان.
ترتسم سياسة أوباما تجاه المشكلة السورية بهذا الوضوح: الأولوية للقضاء على داعش، وهذا ما يتطلب ما بين خمس إلى عشر سنوات، يبقى فيها نظام الأسد شريكاً في هذه الحرب، في الوقت الذي يتم فيه تدريب «المعارضة المعتدلة» خلال ثلاث سنوات، ليس بهدف إسقاط النظام الكيماوي، بل للمساعدة على محاربة داعش و… الوصول إلى حل سياسي!
غير أن هذه «السياسة» السورية لأوباما ليست سوى تمرير للوقت بانتظار الجائزة الكبرى التي يحلم بها سيد البيت الأبيض من ولي الفقيه، وتتمثل في إبرام أي اتفاق حول المشروع النووي الإيراني يتوج به عهده الممتد على ثماني سنوات، حتى لو كان ثمن ذلك تسليم المشرق العربي بكامله للطموحات الامبراطورية الإيرانية التي عبر عنها بصراحة مستشار الرئيس روحاني نسيمي. والبداية من العراق حيث تشرف إيران مباشرة على «تحرير» القسم الشرقي المتاخم لحدودها من دولة البغدادي، مع إفلات ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية على معاقل المظلومية السنية لتعيث فيها تنكيلاً بالسكان وتطهيراً مذهبياً، بما يؤدي إلى تقوية المناخ الداعشي بدلاً من إضعافه.
وإذا كان المكون العربي السني في العراق واجهة المظلومية السنية التي تزداد عمقاً، فهذه لا تقتصر عليهم بل تمتد إلى مجمل «العالم السني العربي» دولاً وسكاناً، وبخاصة دول الخليج العربية التي يزداد قلقها من السياسة الأمريكية المحابية لإيران، ولا تملك إزاءها أي سياسة متماسكة. فهي لم تجد التوازن المطلوب بين مخاوفها من الخطرين الإيراني والإسلامي الجهادي. وحتى لو حصلت على هذا التوازن، فهي تبقى سياسة قائمة على المخاوف وردات الفعل، أكثر من كونها سياسة فاعلة مبادرة تقدم بدائل وتنتج حلولاً للمشكلات الكبرى التي تعصف بالعالم العربي.
لنعد الآن إلى تصريح كيري المشؤوم ونحاول قراءته بطريقة أخرى: لو كان أوباما جاداً حين طلب من بشار التنحي، بقدر جديته في الطلب نفسه من حسني مبارك، لكان وفر على سوريا كل هذا الخراب والدم. هذه هي الطريقة الوحيدة في الكلام التي يفهمها نظام من نوع نظام الأسد. بهذا المعنى الإيجابي «للتفاوض مع الأسد» يمكن القول إن تصريح كيري تأخر نحو أربع سنوات وفقد كل معنى.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
واشنطن.. الوصول إلى مفاوضة الأسد/ حمزة المصطفى
تزامناَ مع الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة السوريّة (15 مارس/آذار 2015)، صرح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن بلاده “ستضطر للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد في نهاية المطاف، لتحقيق انتقال سياسي في سوريّة”. وقد أثارت هذه التصريحات جدلاً واسعاً عن معناها ومغزاها، لاسيما وأنها أسقطت الديباجة المعروفة في الخطاب الأميركي تجاه سورية أن “الأسد فاقد للشرعية”، وأنه “لا يمكن أن يلعب دوراً في مستقبل سوريّة”. والسؤال الذي يطرح نفسه، هنا، هل ثمة تغير في الموقف الأميركيّ من الثورة السورية.
انطلقت الثورة السوريّة في ظل واقع جيوستراتيجي معقد، وخارج الحسابات الاستراتيجية لإدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والتي كانت تضع التقارب مع النظام السوري ضمن أولوياتها، باعتباره خياراً أفضل وأضمن من تغيير النظام. وجاءت في مرحلة بالغة التعقيد، لاسيما وأن أوباما تبنى، ومنذ انتخابه في نوفمبر/تشرين ثاني 2008، سياسة الانكفاء نحو الداخل، في قطيعة مع سياسة سلفه المرتكزة على التدخل العسكري المباشر، مع الاعتماد على حلفاء إقليميين في مناطق مختلفة حول العالم، للتعامل مع قضايا يمكن أن تشكل تهديداً للمصالح الأميركية، أو لحلفائها. ونتيجة ذلك، تحفظت الإدارة الأميركية عن اتخاذ موقف حازم من النظام السوريّ في الأشهر الأولى من الثورة، ولم يخرج موقفها عن الإدانات اللفظية لاستخدام العنف، مع التعويل على الرئيس بشار الأسد، لإطلاق إصلاحات سياسية، تنهي الأزمة، وفرض عقوبات اقتصاديّة للضعط عليه.
اضطر أوباما إلى مطالبة الأسد بالتنحي (18 أغسطس/آب 2011) نتيجة تصاعد المواقف الإقليمية ضد النظام، خصوصاً السعودية وتركيا (أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بعد اقتحام الجيش السوري مدينة حماه مطلع أغسطس/آب 2014، ورفض النظام التجاوب مع
“ظل الخطاب الأميركي يردد أن لا حسم عسكريّ للصراع، وكأنه يرفض ترجيح كفة المعارضة السوريّة، وقتها، لإنجاز حسم عسكريّ، أو تحقيق إنجازات عسكريّة نوعية، تجبر النظام على الدخول في عملية سياسية انتقاليّة”
الرسالة المشتركة (وزيرا الخارجية التركي داود أوغلو والأميركية هيلاري كلينتون)، والتي طالبت بإعادة الجيش إلى ثكناته، والبدء بعملية سياسية.
تصاعدت النبرة الدبلوماسيّة الأميركية، خلال عام 2012، تجاه النظام وبشار الأسد، لكن حراك الإدارة الأميركيّة في الملف السوريّ اقتصر على الجانب الدبلوماسي، من خلال التوافق مع روسيا، ودول إقليمية وعربية فاعلة، على بيان جنيف 30 يونيو/حزيران 2012، والذي نص على “تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات”، من دون أن يتطرق إلى مصير بشار الأسد وموقعه، وكأن الطرفين الروسي والأميركي كانا يعلمان أنهما يوقّعان على نقاط عامّة، لا اتفاق على أيّ تفسير لها.
ومع تحول الثورة إلى مسلحة، ونجاح فصائل المعارضة، آنذاك، في تحقيق إنجازات عسكريّة مهمة، لاسيما في حواف دمشق، وتهديدها النظام، فإن البيت الأبيض، وفي سابقة من نوعها، رفض البيت الأبيض توصيات وزاراتي الخارجية والدفاع، وكذلك الاستخبارات، بتسليح مقاتلي المعارضة السوريّة وتدريبهم، وظل الخطاب الأميركي يردد أن لا حسم عسكريّ للصراع، وكأنه يرفض ترجيح كفة المعارضة السوريّة، وقتها، لإنجاز حسم عسكريّ، أو تحقيق إنجازات عسكريّة نوعية، تجبر النظام على الدخول في عملية سياسية انتقاليّة.
تغيير الحسابات بدلاً عن التنحي الفوري
إثر تعيين السيناتور جون كيري وزيراً للخارجيّة، خلفاً لهيلاري كلينتون، أواخر يناير/كانون ثاني 2013، طرأ تغيير على الخطاب الأميركيّ تجاه سوريّة، بالتزامن مع تبني مقاربة محدثة. تجاهل كيري الموافقة الأميركية السابقة الداعيّة إلى رحيل الأسد شرطاً رئيساً لبدء عملية التسويّة السياسيّة، ودعا إلى الضغط عليه من “أجل تغيير حساباته”، مع استمراره في تحذير النظام من استخدام السلاح الكيماويّ، باعتباره “خطاً أحمر” لا يمكن تجاوزه.
حاول كيريّ بزيارته المتعددة إلى الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، مطلع عام 2013، إعطاء انطباع بأن لدى إدارة أوباما مقاربة جديدة لحلّ الأزمة في سوريّة، وأنها تسعى إلى الضغط على روسيا، لتغيير موقفها الداعم للنظام، والمساهمة في حل سياسيّ يفضي إلى هيئة حكم انتقاليّة بدون الأسد. لكن متغيرات عدة، أهمها استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية، ودخول إيران وحزب الله بشكل مباشر في الصراع، والإعلان عن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام (9 أبريل/نيسان 2014)، وازدياد الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسة أوباما في سورية والمنطقة، دفعت كيري لزيارة موسكو، وتوقيع اتفاق مع نظيره، سيرغي لافروف، لعقد مؤتمر جنيف 2، وإهمال رحيل الأسد شرطاً لبدء لتفاوض. وبمعنى أوضح، كان اتفاق موسكو إقراراً أميركياً ضمنياً بالتفسير الروسي لبيان جنيف.
رحب النظام السوري باتفاق موسكو، وسعى مع حلفائه لقلب الموازين العسكريّة، وعزل المعارضة المسلحة وتحجيم نفوذها قبل انقعاد المؤتمر، واعتمد على المليشيات اللبنانية والعراقية والإيرانيّة، وكثف استخدام الكيماويّ، ما سبَّب حرجاً كبيراً لإدارة أوباما التي حاولت التملّص من التزاماتها بسبب خرق النظام “خطها الأحمر”، وشككت بداية في صحة التقارير التي تحدثت عن استخدامه السلاح الكيماوي، لكن الأمر غدا بالغ الصعوبة مع تزايد الأدلة، ما جعلها تؤكّد الجريمة في 13 يونيو/حزيران 2013، وتتعهد بتسليح المعارضة السوريّة. جاء الإعلان عن تسليح المعارضة السورية خطوة رمزية، لاحتواء الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة، والمنادية بانخراط عسكري مباشر للولايات المتحدة في الصراع السوريّ. في المقابل، لم تر الولايات المتحدة في الأزمة السوريّة تهديداً للأمن القومي، أو لمصالحها في المنطقة، ما دامت تستطيع، مع حلفائها، حصر الصراع ضمن الجغرافيا السورية، كما أنها، وبحسب شهادة رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارتن ديمبسي، أمام الكونغرس 19 أغسطس/آب 2013، وصفت الصراع بأنه حرب أهلية قد تستمر فترة زمنية طويلة، وأن عليها الابتعاد ما أمكن، ولاسيما وأن المعارضة المسلحة في سورية لا تشكل حليفاً استراتيجياً لها. لذلك، استمرت في التعويل على روسيا لإيجاد حل للأزمة، وفي مساعيها الرامية إلى إقناعها بالضغط على الأسد، ليتنحى عند تشكيل هيئة الحكم الانتقاليّة.
ولم تتغير هذه المقاربة حتى بعد قصف غوطتَي دمشق (21 أغسطس/آب 2013)، إذ قبلت واشنطن بصفقة رعتها روسيا، تضمنت تسليم النظام للسلاح الكيماوي وتدميره، وتخلت، بموجبها، عن تهديداتها بتنفيذ ضربة عسكرية، لمعاقبته على استخدام هذا السلاح. بل ضغطت على المعارضة السوريّة للتنازل عن شرطها بـ”رحيل الأسد” لحضور مؤتمر جنيف 2، والذي انتهت جلساته بالفشل، ليتراجع الاهتمام الدولي بحل الأزمة السورية، لاسيما بعد إجراء الانتخابات الرئاسيّة يونيو/حزيران 2014، واستقالة المبعوث الأممي، الأخضر الإبراهيمي.
الإرهاب أولاً
أسهم صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وتوسّع نفوذه بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، وسيطرته على مساحات واسعة في سورية والعراق، ثمّ إعلانه الخلافة الإسلامية في 29 يونيو/حزيران 2014؛ إلى تركيز الولايات المتحدة على أولوية التفاوض مع إيران، حول ملفها النووي من جهة، واحتواء تنظيم الدولة، ووقف تمدِّده في العراق وحرمانه من “الملاذات الآمنة” في سورية، من جهة أخرى، فأنشأت تحالفاً دولياً بدأ ضرباته الجويّة في سوريّة 23 سبتمبر/أيلول 2014. سعت الإدارة الأميركية إلى إقناع حلفائها بأن أولوية مكافحة الإرهاب لا تعني التعاون مع النظام السوريّ، أو إعادة تأهيله، فأعلن أوباما تصريحات عدة “أن الأسد وجرائمه سبب الإرهاب، وأنه لا يمكن أن يكون شريكاً في الحرب ضد الإرهاب”، كما صرح كيري، غير مرة، أواخر العام الماضي “أن السلام لن يحل في سورية، ما دام الرئيس بشار الاسد ممسكاً بالسلطة، وفي مركز القرار”. ولضمان انخراط حلفائها عسكرياً في حملتها على تنظيم الدولة، وقعت اتفاقيات عدة مع السعودية وقطر وتركيا لتدريب المعارضة السوريّة وتسليحها، لكن الغموض ما يزال يكتنف تفاصيلها، خصوصاً في ما يتعلق بالخصم المستهدف، إذ يؤكد المسؤولون الأميركيون أن مهمة هؤلاء المقاتلين تنحصر في مواجهة تنظيم الدولة، في حين تؤكد الدول المضيفة أنهم سيواجهون النظام وتنظيم الدولة.
توفرت ظروف ووقائع جديدة في المنطقة، دفعت جون كيري لإطلاق تصريحات غير مألوفة، ودفعت، قبله، مدير الاستخبارت الأميركية، جون برينان، إلى القول بأن واشنطن “لا تريد انهيار السلطة في سورية، كي لا يُترك المجال للمنظمات المتطرفة للسيطرة على دمشق”، ولعل أبرزها:
- مفاوضات النووي الإيراني: أحرزت المفاوضات المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في جنيف تقدمًا في الأسابيع الماضيّة، ما عزز من فرص الوصول إلى اتفاق مؤقت، قبل نهاية
“لا تشكل تصريحات كيري مفاجأة، كما أنها ليست جديدة كلياً، فالدعوة إلى إشراك الأسد ونظامه في المفاوضات كانت في صلب التوافق الأميركي الروسي حول عقد جنيف 2”
الشهر الجاري. تتصدر المفاوضات مع إيران أولويات إدارة أوباما، وتسعى الأخيرة إلى إنجاز اتفاق شامل معها، تقدمه كأحد أهم إنجازاتها على الصعيد الخارجيّ. وكون إيران تضع ملفها النووي ونفوذها الإقليمي في سلة تفاوضية واحدة، فإن تصريحات كيري الأخيرة قد تكون بادرة أميركية لتشجيع إيران على المضي في طريق المفاوضات حتى نهايته، من دون أن يعني ذلك قبولها بقاءه وإعادة تأهيله.
- فشل رهاناتها المسلحة في سورية: دعمت الولايات المتحدة، في العامين الماضيين، فصائل سورية بعينها كجبهة ثوار سورية، وحركة حزم، والفرقة 13، وراهنت عليها مشروعاً مستقبلياً لمواجهة الفصائل الجهاديّة، كجبهة النصرة، لكن الأخيرة، بدأت بخطوات استباقية، فاستهدفت جبهة ثوار سورية غداة الإعلان عن تشكيل تحالف دوليّ (أغسطس/آب)، وصفّت قادتها، واستولت على مقراتها. كما أجهزت، أخيراً، على حركة حزم، والتي تزودها الولايات المتحدة بصواريخ تاو المضادة للدروع، بعد اجتياح الفوج 46 في مدينة الأتارب. وعلى اعتبار أن برنامج تدريب وتسليح المعارضة وتسليحها يستغرق ثلاث سنوات، فإن الولايات المتحدة بأمس الحاجة لقوات بريّة في سوريّة، من خلال حل سياسيّ، بغض النظر عن شكله وشروطه، يدمج فصائل المعارضة المناوئة للنصرة مع الجيش النظاميّ، بحيث يتفرغ الأخير لمهمة مواجهة الجماعات الجهاديّة.
لا تشكل تصريحات كيري مفاجأة، كما أنها ليست جديدة كلياً، فالدعوة إلى إشراك الأسد ونظامه في المفاوضات كانت في صلب التوافق الأميركي الروسي حول عقد جنيف 2، ولم تطالب الإدارة الإميركية، على الأقل منذ تسلم كيري وزارة الخارجية، باستبعاد الأسد قبل المفاوضات، أو قبل الاتفاق على حل سياسيّ، يفضي إلى هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات.
وبخلاف ما يطرح حالياً، من الصعب على الولايات المتحدة والغرب عموماً التفاوض مع الأسد مباشرة، أو إعادة تأهيله بجرة قلم، أو بتصريح عابر. وقد جربت الدول الغربيّة هذا الاحتمال، بعد صفقة الكيماويّ، لكنها اصطدمت بعوائق ذاتية وموضوعية ومعارضة شديدة من الدول الإقليمية والعربية الحليفة، والتي ما تزال تلعب الدور الأهم، في ظل ابتعاد الغرب وانكفائه عن لعب دور فاعل. الولايات المتحدة، في رأينا، لن تتراجع عن مطلب رحيل الأسد، لكنها غير معنية بإسقاطه في المدى المنظور، أو التحرك الفاعل لإيجاد حل للصراع، ما دامت قادرة على حصره في حدوده، وهذا ما يفرض على الدول الإقليمية المناوئة للأسد وحليفه الإيراني التنسيق فيما بينها، وإيجاد تكتل يفرض شروطه على الولايات المتحدة، كما تفعل إيران حالياً.
العربي الجديد
أميركا وسورية .. إطالة النزاع/ مالك ونوس
للتصريحات الأميركية التي تخص سورية وضع خاص وغريب، لا يمكن أن يجاريه في خصوصيته وغرابته سوى لعبة التواريخ التي لعبها الساسة الأميركيون، منذ بدء الحراك الشعبي في سورية، سنة 2011، مروراً بالحرب والمجازر والانتهاكات التي جرت وتجري خلالها، وصولاً إلى الأحاديث والتصريحات التي تتناول آماد هذه الحرب والتوقعات باستمرارها طويلاً. ولم يأتِ تصريح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قبل أيام، والقائل بحتمية التفاوض مع الأسد في النهاية، ليفعل شيئاً، سوى أن يضاف إلى التصريحات التي مضى وقتها، ولم تقدم شيئاً من تخليص الشعب السوري من مأساته.
عاش سوريون كثيرون وهْمَ التدخل الأميركي، إلى جانب طرف من أطراف الصراع ضد الطرف الآخر بطريقة ما. فقد عولت أطراف في المعارضة السورية طويلاً على التدخل العسكري الأميركي المباشر ضد النظام. وبقي هذا في طور المطالب والتمني وتهديد الطرف الآخر به، ليصل إلى ذروته، بعد اقتناع واشنطن بأن الجيش السوري هو من استخدم السلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية في 21 أغسطس/آب 2013، السلاح الذي حذر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قبل عام من وقوع تلك المجزرة التي راح ضحيتها مئات الأبرياء، ويعد استخدامه خطاً أحمر، وقال إنه قد يقود إلى استخدام القوة العسكرية ضد نظام الأسد. وهو ما أعلن أوباما في 1 سبتمبر/أيلول من العام نفسه أنه سينفذه بتوجيه ضربة
“تخبرنا كتب التاريخ، وما سجلته ذاكرتنا من أحداث شهدناها أن الولايات المتحدة كانت، طوال الوقت، تقف حجر عثرة في طريق طموحات الشعوب وثوراتها لتحقيق تلك الطموحات. وكانت محرك الثورات المضادة، ومشعلة الحروب الظالمة للشعوب وداعمتها”
عسكرية إلى النظام، إلا أن تلك الضربة لم توجه، و(افتُدِيَت) بتضحية النظام بسلاحه الكيماوي من خلال تسليمه، وفق اتفاق أميركي روسي، جرى في اللحظات الأخيرة في التاسع من الشهر ذاته. كما أن الولايات المتحدة التي فرضت حظراً على تزويد المعارضة بالسلاح، لم تستجب لمطالبها برفع ذلك الحظر سوى أخيراً، ولم تستجب لمطالبها بفرض منطقة حظر جوي لحماية المدنيين، ولتمكين المعارضة من الوجود فيها لتنسيق عملياتها في باقي مناطق البلاد، انطلاقاً منها.
كما أن النظام قد مَنَّى نفسه بقبوله طرفاً في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الأمر الذي يمكن أن يعطيه شرعية من دول التحالف، وهي ما يحتاج إليه في ظل الحظر والمقاطعة الدولية المفروضتين عليه. وقد خرجت صحيفة الوطن السورية، شبه الرسمية، يوم 23 سبتمبر/أيلول 2014 بعنوانها العريض: “واشنطن وحلفاؤها في خندق واحد مع الجيش السوري لمكافحة الإرهاب”، في تدليل على تنسيق بين التحالف والجيش السوري، في ما يخص ضربات الأول في سورية. نفى الأميركيون وجود ذلك التنسيق، وبقي كل في خندقه الخاص.
وبالعودة إلى الموقف، أو بالأحرى المواقف الأميركية، وتعاطي واشنطن مع تطورات الأوضاع في سورية، نرى أنها كانت تتعاطى بخجل مع هذه الأوضاع، واقتصرت تصريحات المسؤولين الأميركيين على تكرار التحذيرات من استخدام السلاح الكيماوي، وعلى مطالبة الرئيس السوري بالتنحي في 18 أغسطس/آب 2011 بعدما أقر أوباما بـ “عجز الأسد عن إنجاز التحول الديمقراطي”. وذلك بعد خطوة مبكرة في 18 مايو/أيار من العام نفسه، حين فرضت واشنطن عقوبات مالية واقتصادية، وهي عقوبات، عادة، ما تضر الشعوب أكثر مما تضر الأنظمة. وكانت الولايات المتحدة تقذف كل نشاط أو مسعى يخص الوضع في سورية، على الرغم من خطورة الموقف وموت عشرات الآلاف، شهوراً إلى الأمام. إلى أن جاء اجتماع مجموعة العمل الدولي حول سورية في 30 يونيو/حزيران 2012، وكان وجود الولايات المتحدة في هذه المجموعة بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن فحسب. الاجتماع الذي درس النقاط الست المتفق عليها لإنهاء الصراع، والتي لم تضغط الولايات المتحدة لتنفيذ أي منها، وهي لو فعلت لكانت قد نُفِّذَت بمجملها، ورأينا الصراع وقد سُوِّي منذ ذلك الحين.
لا شك أن الحرب في سورية في مصلحة أميركا وإسرائيل. والحرب المعلنة من التحالف الدولي ضد داعش ستحرك سوق السلاح في الشرق الأوسط، ليزيد الطلب على السلاح الأميركي خصوصاً. وهي سوق وصلت إلى حد التخمة بالسلاح سنة 2010، تبعاً لتقرير لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي، أفاد بأن هذه المنطقة ينظر إليها على أنها منطقة صراع وعدم استقرار دائمين، تتطلب تجديداً لسباق التسلح فيها. كما أن استمرار الحرب في سورية يقود البلاد إلى حافة الانهيار، وهو ما تريده إسرائيل التي تريد أن تصبح سورية دولة فاشلة، أو في أحسن الأحوال ضعيفة، وهو ما توفره لها هذه الحرب.
لا أدري إن كان أحد من المعارضة ممن عولوا على التدخل الأميركي لصالحه، أو لصالح الشعب السوري، قد قرأ أو اطلع على حادثة في التاريخ، وقفت فيها الولايات المتحدة إلى جانب شعب مقهور. على العكس، تخبرنا كتب التاريخ، وما سجلته ذاكرتنا من أحداث شهدناها أن الولايات المتحدة كانت، طوال الوقت، تقف حجر عثرة في طريق طموحات الشعوب وثوراتها لتحقيق تلك الطموحات. وكانت محرك الثورات المضادة، ومشعلة الحروب الظالمة للشعوب وداعمتها. علاوة على وقوفها وراء، أو سكوتها عن، حروب إبادة جماعية كانت تشن ضد شعب من الشعوب، فتحصد ملايين من أرواح أبنائه، كما حصل في إفريقيا وجنوب شرق آسيا. ومؤكد أنه ليس لدى واشنطن مصلحة بإنهاء النزاع في سورية، كما أنها فاقدة أي رغبة أخلاقية بوقف الحرب وسفك الدماء فيها. وهي إذ تنتفي مصلحتها بالسلام، فإن مصلحتها بالحرب تبقى الأساس. وهنا، تأتي تصريحات كيري، أخيراً، لتزيد البلبلة لدى كل من طرفي الصراع، وفي وقت تُدَرِّب فيه واشنطن عناصر من المعارضة المعتدلة، حسب قولها، وتمدها بالسلاح، ليتعزز الاعتقاد بأنها لا تفعل ذلك سوى لإطالة زمن الصراع، واستمرار حرب الإبادة على الشعب السوري.
العربي الجديد
تأهيل النظام السوري أم شرعنة الجريمة؟/ غسان المفلح
قال باراك أوباما في خطابه الأخير أمام مؤتمر مكافحة الإرهاب في أميركا: إن ممارسات المالكي الطائفية في العراق ضد السنة العرب، وجرائم الأسد هي وراء نمو داعش، واعتبر أن الأسد هو من دعم نمو داعش.
في هذا القول يحاول أوباما ابعاد سياسته عن الواجهة، والتي هي السبب الأساسي والرئيسي، ليس في ظهور داعش ونموها، بل في ممارسات المالكي وجرائم الأسد. أوباما وادارته، يريدون الدفاع عن سياساتهم التي كلفت شعوب المنطقة ملايين الضحايا والمشردين واللاجئين والمعتقلين والمدن المدمرة. إضافة ان نفاق أوباما واضحا في خطابه وسياسته، فهو يحاول ابعاد إيران عن واجهة الجريمة أيضا.
أوباما يعرف أن وراء سياسات المالكي كانت إيران وثقافة ملاليها وسلوكهم الطائفي الإرهابي المجرم. ثم خرج علينا قبل أيام رئيس السي أي ايه بالقول إن أمريكا وروسيا منعت سقوط الأسد، لكي لا يأتي المتطرفون. بعده تابعت هذه الإدارة كذبها الصفيق أمام العالم بتصريحين لوزير خارجتيها جون كيري الذي أذهل العالم بصفاقة كذبه عندما قال” نحن نعلم بوجود قوات إيرانية بالعراق بقيادة قاسم سليماني، لكن دون اي تنسيق معها!! وانه امر داخلي يخص الحكومة العراقية.
والتصريح الثاني نحن مجبرون للتفاوض مع الأسد من اجل انتقال سياسي في سورية، وسنرى اية وسائل ضغط ممكنة لتحقيق ذلك. جون كيري لم تضع به ال 100 ألف دولار التي كان يتقاضاها كلما زار سورية، كعضو كونغرس لكي يحسن صورة آل الأسد في أميركا. لم تضع فيه صحون الحمص بباب توما، كله على حساب الشعب السوري ومن أمواله المنهوبة. رجل لا يخون الخبز والدم. قلت في أكثر من مكان عندما تم تعيينه وزيرا للخارجية أنه لا يفهم إلا بالملف الاسدي. الملفت للانتباه أيضا خراب الضمير الأخلاقي وحتى المهني لمعظم شخصيات هذه الإدارة، هي كتابات السفير السابق روبرت فورد بعدما ترك منصبه. السفير فورد الذي كان يرفض تسليح الجيش الحر ويرفض حتى دعم الناشطين في الداخل اثناء التظاهرات السلمة في السنة الأولى للثورة.
تقاريره التي كانت تتحدث عن خطر الإسلاميين والمعارضة التي لا تضمن حقوق الأقليات!! أصبح يتحدث بخلاف ذلك الآن ويحمل الإدارة مسؤولية ما وصلت إليه الأمور. في آخر مادة له عنوانها سورية وصمة عار في جبيننا جميعا!! لا يقول في جبين أوباما وتقاريره السابقة لترك منصبه عن وضع الثورة السورية. عموما منذ سنتين ونحن نسمع عن مسألة إعادة تأهيل الأسد، وكأنه غير مؤهل في السابق!! تأهيله لماذا؟ تأهيله لكي يكون امريكي أم إيراني أم روسي؟ اذا كان الطرف الوحيد في العالم القادر على اسقاطه دوليا وداخليا هو أمريكا، هل يصبح آل الأسد أمريكيين أم كانوا كذلك ليعيدوا تأهيله واستمراره؟ اعتقد ان استخدام المفهوم بحد ذاته خاطئا، لأن لذي ارتكب الجريمة خلال أربع سنوات هو مؤهل أساسا. هم يسقطون مؤهل إن أرادوا كما أسقطوا حسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلى عبد الله صالح. بالنسبة لجماعة إعادة التأهيل، هل كان آل الأسد مؤهلين أكثر من حسني مبارك؟ كل الأنظمة الموجودة الآن مؤهلة أميركيا، ما عدا الأنظمة التي هي بقايا الحرب الباردة تقف في المنتصف إلا نظام آل الأسد مؤهل إسرائيليا منذ اتفاقيات الفصل عام1974.
الحديث هنا يقتضي المرور على رؤية الحزب الديمقراطي لانظمة المنطقة وتعامله التاريخي معها. نلاحظ أن الديمقراطيين هم من ابقوا صدام بالحكم سنوات وهو لا يحكم إلا نصف العراق تقريبا. ابقوه في مخبأه ثمان سنوات في عهد بيل كلينتون. الحزب الديمقراطي لديه تجربة عنصرية قوية في النظر لشعوب المنطقة بأنها يجب أن تحكم بالعسكر. شعوب لا تستحق الديمقراطية. اوباما من أعاد تأهيل نظام البشير السوداني المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة القيام بجرائم إبادة ضد الإنسانية. هل هنالك قرار دولي بتجريم الاسد مثلما كان عن البشير؟ لا يوجد اذا قضية اعادة التأهيل قضية لتعبئة الفراغات اللااخلاقية التي تركتها سياسة اوباما في المنطقة.
المسألة تتعلق بأن اوباما في سياسته كما عبرت عنها ايضا تصريحات كيري، يريد تأهيل الجريمة الاسدية، لتصبح مثالا يحتذي ضد اي شعب من شعوب المنطقة، يثور من أجل حريته وكرامته. هنا الطامة الكبرى في سياسة اوباما وليس فتح تفاوض مع الاسد او غيره، نعم اوباما يريد شرعنة للجريمة، ربما ستكون محصلة الاتفاق المزمع مع إيران الملالي. لأن الملالي هم طرف رئيسي واساسي في هذه الجريمة. المسألة ليست تأهيل بل شرعنة القتل بحق الشعوب. لهذا اوباما ايضا لايريد حتى القضاء على داعش لأنها إحدى هذه الادوات الجرمية. الصوملة واللااستقرار هي الخيار الاوبامي المطروح، وهذا ما كتبت عنه منذ الشهر الاول للثورة السورية2011.
ايلاف
حيثيات تغير الموقف الأميركي حيال بشار الأسد/ عمر كوش
مؤشرات التغير
أسباب التغير
خلفية التغير
بعد أن أتحفنا جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي أي”، بالقول إن “الولايات المتحدة الأميركية لا تريد انهيار الحكومة السورية (يقصد الأسد ونظامه) ومؤسساتها”، وذلك خشية سيطرة ما وصفها بالجماعات الإسلامية المتطرفة، جاء الدور على وزير الخارجية الأميركي جون كيري، كي يخبرنا بأن “على الولايات المتحدة وحلفائها أن يتفاوضوا مع الرئيس السوري بشار الأسد من أجل انتقال سياسي بسوريا”.
كيري أعلن استعداد بلاده التفاوض مع الأسد “في نهاية المطاف”، وهو أمر يشي بتغير الموقف الأميركي، ومعه الموقف الغربي، إزاء نظام الأسد، حيث تفادى كيري عبارة “فاقد الشرعية”، التي عادة ما كان يرددها المسؤولون الغربيون، حين يأتون على ذكر الأسد، بالرغم من أنهم كانوا يرددونها، بوصفها لفظا، يفترق عن حمولاته المضمونية.
ولم يغير تأكيد، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، جين بساكي، أن “الأسد لن يكون مفاوضا للولايات المتحدة الأميركية”، من وقع تصريحات كيري، كما لن يغيرها اعتبار، ماري هارف مساعدة المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، أن سياسة الولايات المتحدة حيال الأسد لم تتغير، فالسيد كيري يعي تماما ما صرح به، وهو ليس مسؤولا سابقا أو متقاعدا، بل لسان حال الإدارة الأميركية، ويعكس ما قاله تتويجا لتغير في الموقف الأميركي حيال نظام بشار الأسد.
مؤشرات التغير
إذا استعرضنا الموقف الأميركي الملموس، وعبر التصريحات التي أطلقها المسؤولون الأميركيون في مناسبات عديدة، منذ بداية الثورة السورية، نجد أنها شهدت ترددا وتعرجا وتراجعا وانكسارات كثيرة، بعد فترات من صعود اللهجة الإعلامية، وسارت في خط متغير بتغير المعطيات على الأرض السورية.
ففي بداية الثورة، ارتفعت أصوات التنديد والشجب لممارسات النظام، مع تأييد مطالب المحتجين في الحرية والديمقراطية، وبلغت سقفها الحدّي في مطالبة الرئيس باراك أوباما، الأسد بالرحيل، واعتباره فاقدا للشرعية، وأن أيامه في الحكم باتت معدودة.
غير أن المفارقة في الأمر هي أن قوة التصريحات لم تنعكس على أرض الواقع، لذلك بدأ سقف التصريحات السياسية للمسؤولين الأميركيين بالانخفاض، مع طول أمد الأزمة، التي أحدثها تعامل النظام مع الثورة، وراح يدور حول نفس المقولات، فيما أخذ بعض المسؤولين الأميركيين يبيعون الأوهام للمعارضة السياسية السورية، ويسوّقون أن بلادهم تقف معها، مع وعود بالدعم، خاصة بعد أن قادت مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، في حين أنها قامت، بالمقابل، بابتزاز المقاتلين في “الفصائل المعتدلة”، من خلال تقليص الدعم المحدود والتمويل، ومنع وصول السلاح النوعي إلى أيديهم، الأمر الذي أسهم، بالإضافة إلى جرائم النظام السوري الممنهجة، في استفحال ظاهرة التطرف، وتنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، على حساب تدهور وضع تشكيلات الثوار.
بالمقابل، كان الساسة الروس يدعمون النظام سياسيا، وخاصة في مجلس الأمن الدولي، حيث استخدموا الفيتو أربع مرات لصالح النظام السوري، ولم يتوقفوا عن مده بكل أنواع الأسلحة، فيما أخذ ملالي إيران يتدخلون بشكل مباشر في مجريات الأحداث، عبر خوضهم معركة الدفاع عن بقاء نظام الأسد، ثم تحول تدخلهم إلى قوة احتلال لسوريا، فأرسلوا الآلاف من المستشارين وضباط وعناصر الحرس الثوري، والآلاف من مليشيات حزب الله اللبنانية، والمليشيات الطائفية العراقية، وقاموا بتشكيل ألوية وفرق مليشياوية داخل سوريا، أطلقوا عليها اسم “حزب الله السوري”، ولواء من المرتزقة، أطلقوا عليه اسم “فاطميون”. وجرى كل ذلك تحت مرأى العالم كله، ودون أن تحرك الولايات المتحدة ساكنا.
ولا شك في أن تعامل ساسة الولايات المتحدة مع القضية السورية، أسهم في تحويلها من ثورة، تنشد الحرية والكرامة، ضد الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة قرون، إلى قضية مجموعات متطرفة، وصراع نفوذ إقليمي ودولي، قسمّ المنطقة إلى معسكرين، متضادين ومتحاربين على الأرض السورية.
ولعل التغير الذي حدث في الموقف الأميركي حيال بشار الأسد، جسده التحول من مطالبة الأسد بالرحيل، إلى المطالبة بممارسة “الضغط من أجل حثه على التفاوض”، التي أفصح عنها كيري، بعد مرور أربعة أعوام على اندلاع الثورة السورية.
أما مؤشرات التغير، فجسدها التوافق الأميركي والأوروبي، غير المعلن، على ترك النظام السوري يفعل ما يريده، من قتل وتشريد، بأغلبية السوريين، بعد أن لجأ بعض المسؤولين الأميركيين إلى طمأنة النظام، من خلال تكرار كلامهم العلني حول عدم وجود نية لدى بلدانهم في التدخل العسكري، وأن الحل الوحيد هو الحل السياسي، بمعنى يفهم النظام بأنه مهما قام بانتهاكات وجرائم، لن تكون هناك قوة دولية تردعه، لذلك مرت جرائمه دون أي عقاب يذكر.
أسباب التغير
ظهر منذ بداية الثورة، ثم التحولات والمتغيرات التي صاحبتها، أن لدى ساسة الولايات المتحدة الأميركية، ومن دار في فلكها، مصلحة ودوافع في دمار سوريا، وجعل الأوضاع فيها، تسير نحو التعفن والتفكك والخراب، وذلك من منطلق عدم وجود مصلحة لهم في التدخل لوقف الكارثة، والأهم هو الحرص على أمن إسرائيل في المنطقة، انطلاقا من حسابهم الأساس، القائم على أن أي تغير في سوريا أو سواها من دول المنطقة، لا يضمن أمن إسرائيل وحدودها، لن يسمحوا في حدوثه إن استطاعوا.
وتكمن أسباب التغير في الموقف الأميركي في عدة عوامل، أبرزها:
1- الصعود القوي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، و”جبهة النصرة”، التي بايعت “القاعدة”، وسواهما من الجماعات المتطرفة، وهو صعود برز مؤخرا، وأسهم في تحول الموقف الأميركي حيال الأزمة السورية، حيث تغيرت الأولوية الأميركية في المنطقة، فشكلت تحالفا دوليا وعربيا للحرب ضد داعش، وقامت بتوجيه ضربات جوية ضد مواقع للتنظيم، في كل من العراق وسوريا، لتؤكد وجود تحول نوعي في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية، بعد المواقف غير المبالية التي اتخذتها الإدارة الأميركية حيال ما يجري داخل سوريا من مجازر منذ البداية، بالرغم من مناشدات دولية وعربية، بالمقابل، عارضت تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، بل وعملت على منع بعض الدول الراغبة في فعل ذلك.
وقد سعى النظام السوري باستخدامه كافة الوسائل الإجرامية، إلى تحويل سوريا إلى ساحة لجذب تنظيم القاعدة ومعه سائر الجماعات المتطرفة، وربما لاقى ذلك ارتياحا لدى بعض أجهزة الاستخباراتية الأميركية، على خلفية تجميعهم في مكان واحد، بغية تصفيتهم، أو على الأقل تركهم يتقاتلون مع المليشيات الطائفية المتطرفة التي جلبتها إيران إلى سوريا دفاعا عن الأسد.
2- ظهور مؤشرات على اقتراب موعد إبرام اتفاق أميركي إيراني بخصوص الملف النووي الإيراني، وما يعنيه من تحوله إلى صفقة، غير معلنة، تنال إيران بموجبها تسهيلا أميركيا لتمددها الإقليمي، الذي لم تبدِ الإدارة الأميركية الحالية حياله أية ممانعة، حين طال العراق ولبنان ووصل مداه إلى اليمن، وتحول في سوريا إلى قوة احتلال، مع تحول الأسد إلى إمعة بيد المحتل الإيراني.
وبالتالي، فإن تغير الموقف الأميركي حيال الأسد، يصب في خانة إرضاء إيران، وتشجيعها على تمدد مشروعها التوسعي في المنطقة، وسوريا بشكل خاص، مقابل توقيعها مع الولايات المتحدة الأميركية على “اتفاق جيد”، وفق وصف كيري نفسه.
وهنا لا بد من ملاحظة أن تصريح كيري حول التفاوض مع الأسد، تزامن مع استعداده للسفر إلى جنيف للقاء وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الأمر الذي يقوي من احتمال اقتراب بلورة صفقة أميركية إيرانية، على حساب دول المنطقة وطموحات شعوبها في الحرية والتحرر.
وجاء التغير في الموقف الأميركي، بعد سنوات من اللامبالاة والمماطلة والتردد، حتى بات الوضع كارثيا وخطيرا، وبعد أن شاهد الأميركيون وغيرهم صور قتل الصحفيين الأميركيين من طرف عناصر تنظيم داعش، الذي بات يهدد الولايات المتحدة وحلفاءها ومصالحها في المنطقة، خاصة مع سيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريا.
خلفية التغير
تنهض الخلفية التي بنى عليها الساسة الأميركيون تغير موقف بلادهم، على أن سوريا باتت أمام أحد الخيارين، إما داعش أو النظام، وهم يرون في النظام خطرا أقل من داعش، لذلك فإن بقاء الأسد في السلطة أفضل من أن يأخذ تنظيم داعش السلطة مكانه. وهي مقولة خاطئة، تفترض أن داعش يسعى إلى إسقاط النظام السوري، والحلول محله، ذلك أن داعش لا يطمح في تشكيل بديل عن الأسد، ولم يطرح في أدبياته مثل هذه التصورات، كونه يسعى إلى إقامة كيان عابر للدول والقوميات، وليست محاربة نظام الأسد من ضمن أولوياته، بل إنه عمل على التنسيق مع هذا النظام في أكثر من مناسبة، وعقد معه اتفاقيات نفط وغاز وكهرباء.
إضافة إلى أن الخيار بينهما يلغي حقيقة أن جرائم النظام وحربه الشاملة ضد الثوار وحاضنتهم الاجتماعية، منذ بداية الثورة وإلى يومنا هذا، جعل قسما كبيرا من المحتجين السلميين ينحازون نحو العسكرة، وأن النظام أسهم في دخول العناصر المتطرفة عبر إطلاق سراحهم من السجون، والتخلي عن مناطق وجوده على الحدود مع العراق وتركيا، لصالح “داعش” والفصائل المتطرفة الأخرى، فضلا عن الخذلان الأميركي للشعب السوري وتركه وحيدا في مواجهة آلة الموت الأسدية، المدعومة بشكل غير محدود، إيرانيا وروسيا.
وإن كانت تصريحات كيري هدفها ترغيب ملالي إيران في التوقيع على “اتفاق جيد” يطمح إليه الرئيس الأميركي، كي يضيفه إلى إنجازاته ومسيرته الرئاسية، فإنها، بالمقابل، قد تدفع كثيرا من السوريين وغيرهم إلى “تأييد” داعش، لأنهم لن يرضوا بأن تعاد الشرعية إلى نظام الأسد، الذي قتل أكثر من ربع مليون سوري، وشرد نصفهم، ما بين لاجئ ونازح، ودمر أماكن سكناهم ورزقهم.
وبصرف النظر عن تغير الموقف الأميركي حيال الأسد ونظامه الاستبدادي، فإن الثوار باتوا يعرفون جيدا أنهم يخوضون معركة ضد أعتى نظام ديكتاتوري قمعي بالشرق الأوسط، ويواجهون احتلالا إيرانيا، يخوض معركة مكلفة، دفاعا عن رصيفه السوري، دون أن يحسب مدى تأثيرها على شعوب المنطقة ودولها، تنفيذا لمشروع هيمنة، له امتداداته الإقليمية والدولية.
وهي الامتدادات التي يجسدها ارتباطه بشبكة تحالف صلبة، ذات نسيج مذهبي الظاهر، يخفي باطنها أهدافا متعددة، لا يقتصر على الحفاظ على الدور الإقليمي الإيراني، وعلى تركيبة النظام الإيراني والقوى المليشياوية التابعة له في المنطقة، بل تمتد إلى تأبيد وتأليه رموزها، ومصادرة حقوق العامة، واحتلال الفضاء العام، وبسط هيمنات وأجندات مذهبية وعرقية الطابع.
لذلك، فإن حراك غالبية السوريين، المتعدد المركبات والفعاليات، هو الفاعل الأساس في الخلاص والتحرر، والأهم هو أن حساباتهم وأهدافهم مختلفة تماما عن حسابات وأهداف كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية وتوافقاتهما، لذا، لن يتوقفوا حتى يبلغوا مرادهم.
الجزيرة نت
وهم الحل السياسي في سورية/ خالد الدخيل
هل هناك حل سياسي ممكن في سورية؟ السياسة هي فن الممكن، كما يقال. لكنها لا يمكن أن تكون كذلك من دون توافر شروطها ومعطياتها. هناك سؤال آخر: هل يمكن أن يكون هناك حل في سورية من دون حل في العراق؟ هذا مستحيل. فصلُ الحالين كان ممكناً بُعيد الاحتلال الأميركي للعراق ومع بدايات الثورة السورية. أما الآن فقد تداخلت وتعقدت علاقة الارتباط الشرطي بين الحالين. إيران هي اللاعب الرئيسي في العراق وسورية. تقاتل في كلا البلدين بأموالها وأسلحتها واستخباراتها وجنرالاتها. الميليشيات التي تقاتل في العراق، خصوصاً الشيعية منها، هي نفسها التي تقاتل في سورية. هدف إيران في كليهما واحد: الإبقاء على حكومة شيعية في العراق، وعلى بشار الأسد العلوي في سورية. ما يعني أن مصلحة إيران في إيجاد حل سياسي في سورية مرتبطة عضوياً بحل سياسي في العراق، والعكس صحيح.
معطيات المشهد تقول أن العرب وأميركا يحاربون – بالنيابة عن إيران – الميليشيات السُنّية في العراق وسورية، ويلتزمون الصمت إزاء الميليشيات الشيعية المنتظمة في الحرب ذاتها بتوجيه وتمويل إيراني. والمدهش أنها حرب مجانية يخوضها العرب والأميركيون لتخليص إيران من ألد أعدائها في المنطقة، ويفعلون ذلك من دون أي مقابل! يتصرف العرب في المشهد من دون استراتيجية يهتدون بها. مثل باراك أوباما هم في حال ارتباك. ينتظمون في ما يسمونه «حرباً على الإرهاب»، لكنهم يخسرون في هذه الحرب، وحتى لو تحقق لهم تدمير هذه الميليشيا، فإيران هي من يقطف ثمار حربهم هذه.
يقترب المشهد من أن يكون سوريالياً. إيران الفارسية بأيديولوجيا شيعية تستخدم ميليشيات عربية شيعية. والدول العربية «السُنّية» تجد نفسها في حرب مع ميليشيات عربية سُنّية تقاتل إيران، من خلال اشتباكها مع الميليشيات الشيعية في كل من العراق وسورية. تُجمِع الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر والإمارات والأردن، على أن الميليشيات السُنّية هي الخطر المباشر عليها. لكنها تفترق في موضوع خطر إيران والميليشيات الشيعية، وهذه مساحة تستفيد منها إيران.
حكومة عراق ما بعد الاحتلال الأميركي – وهي حكومة عربية – تعتمد في بقائها على ميليشيات شيعية، وعلى التحالف مع إيران. حكومة «البعث العربي الاشتراكي» في سورية اضطرت أمام الثورة إلى كشف هويتها الطائفية، وبات بقاؤها هي الأخرى يعتمد على الميليشيات الشيعية والدعم الإيراني. وتكتمل سوريالية المشهد في أنه لا إيران تستطيع فرض خياراتها، ولا الدول العربية قادرة – لأسباب سياسية – على ملء الفراغ الإقليمي ووضع حد للدور الإيراني الذي يتسبب بكل ما تشهده المنطقة من دمار وزلازل.
هناك إذاً جمود استراتيجي مدمر، وما يزيده أن إدارة أوباما المرتبكة مع إيران ومع حلفائها، تبدو أكثر حاجة إلى اتفاق نووي من إيران التي تعاني من الحصار، لذلك تتغاضى عن سلوكها السياسي المدمر في المنطقة، وتقف موقف المتفرج على دمار سورية، وتحارب «داعش» السُنّية في العراق وسورية، وتغض الطرف عن الميليشيات الشيعية في كليهما. تعتبر الإدارة أن السُنّة هم أعداؤها ومصدر الخطر عليها. تتخذ هذا الموقف، مع أن حلفاءها في المنطقة، بعد إسرائيل، دول «سُنّية»! تفصل في شكل غبي مثير للشك بين الوضعين العراقي والسوري، وتبحث عن حل في الأول من خلال الحرب على «داعش»، وتتجاهل أنه حل غير ممكن من دون حل في الثاني. والأدهى أنها تريد هذا الحل في العراق، من دون حل في سورية. بعبارة أخرى، تتجاهل إدارة أوباما أول متطلبات الحل السياسي وأهمها هنا، وهو عامل التوازنات على الأرض؟ لا أحد يعرف كيف تجتمع هذه المتناقضات في رؤوس أقطاب إدارة أوباما؟
أخيراً بدأت هذه الملاحظة تفرض نفسها في الإعلام الأميركي، فهذا ديفيد باتريوس أبرز جنرال أميركي حالياً وكان قائد القوات الأميركية في العراق بين عامي 2007 و2008، يقول في لقاء مطول مع صحيفة «واشنطن بوست» الجمعة أن «الخطر الأول الذي يهدد استقرار العراق على المدى الطويل، ويهدد التوازنات الإقليمية، يتمثل الآن بالميليشيات الشيعية التي تدعم إيران الكثير منها، وتوجه بعضها الآخر».
أما الكاتب الأميركي توماس فريدمان فيتساءل: «لماذا للمرة الثالثة منذ 2011 نقاتل بالأصالة عن إيران؟ في 2002 دمرنا طالبان، عدو إيران الأول في أفغانستان. وفي 2003 دمرنا صدام حسين، عدو إيران الأول في العراق. الآن ما هي مصلحتنا في محاربة آخر الدفاعات (يقصد «داعش») في وجه هيمنة إيران على العراق؟». والحقيقة أن هذا السؤال يوجه أيضاً إلى الدول العربية التي تشارك أيضاً في هذه الحرب على «داعش».
السؤال الحقيقي إذاً: لماذا تريد إيران، والحال كذلك، حلاً سياسياً في العراق أو سورية؟ الحكومة العراقية تحت هيمنتها، وبشار الأسد بات ورقة تفاوضية في يدها! فما الذي يغري طهران بحل سياسي قبل أوانه؟ حتى الآن لا شيء، بل على العكس، إذ يبدو أن كل شيء يغري طهران بتجنب مثل هذا الحل في الظروف الحالية. الاتفاق النووي لا يزال قيد المفاوضات، والعرب لا يزالون خارج التوازنات الإقليمية، والحروب الأهلية العربية في تزايد. وإلى جانب ذلك، انكفاء أميركي مرتبك يتضافر مع حال انقسام وشلل عربيين غير مسبوقة. غياب أو تعذر حل سياسي في سورية هو مصدر مكتسبات إيران.
مع ذلك إيران في مأزق. مكتسباتها ستبقى موقتة، وهي غير قادرة على أن تجعلها مكتسبات نهائية. هي تمارس لعبتها في فراغ إقليمي تسبب به العجز العربي، واستطاعت بإثارة الحمية الطائفية التسلل إلى الإقليم من خلال هذا الفراغ، لكن ليس أكثر من ذلك. الميليشيات السُنّية تسللت إلى المشهد أيضاً من خلال الفراغ نفسه. هنا تبرز مسؤولية الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر، عن التسلل الإيراني أولاً، وتسلل ميليشيات وإرهاب لا يأتمر بإمرتها ثانياً، بل هو معادٍ لها. المحصلة أن إيران – سياسياً – في مواجهة، خصوصاً مع السعودية ودول مجلس التعاون، عدا عُمان. ومصر تتذرع بظروفها الخاصة وحرصها على وحدة سورية للابتعاد وتعميق حال الفراغ.
عند الحديث عن حل سياسي في هذا الإطار لا بد من أن نتذكر أن السلام مثل الحرب تماماً، محكوم بمبدأ التوازنات. فكما أنه لا يمكنك أن تكسب الحرب وموقفك ضعيف في هذه التوازنات، فلا يمكنك أن تكسب السلام وأنت تعاني من الضعف نفسه. الركون إلى خيار الحل السياسي من منطلق أخلاقي ينطوي على سذاجة سياسية. ومثال الصراع العربي – الإسرائيلي خير شاهد. لماذا يبدو هذا الصراع غير قابل للحل؟ لأن شروط الحل ومعطياته ليست متوافرة. أميركا، راعي الطرف الإسرائيلي وما يسمى بـ «عملية السلام»، ليست جادة في ذلك. إسرائيل لا تريد حلاً قبل أوانه وبشروطها هي. الفلسطينيون عاجزون عن فرض حل، وعجز الفلسطينيين انعكاس أمين للعجز العربي. يتجنب العرب خيار الحرب، ويخشون تبعات ومآلات سلام لا يملكون من أمره الشيء الكثير.
تقول هذه التجربة أنه قبل الحل السياسي لا بد من كسر الجمود الاستراتيجي. إذا لم يكن هذا ممكناً مع إسرائيل، وهي تتمتع بغطاء غربي قوي ومتماسك، فكيف يمكن تفسير هذا الجمود مع دولة دينية طائفية لا تحظى بمثل هذا الدعم الخارجي؟ يشير السؤال إلى أن العلّة الرئيسية وراء هذا الجمود هي علّة عربية قبل أن تكون أميركية. وإلا كيف يمكن كسر الجمود مع إيران، وحرب الإرهاب في العراق وسورية موجهة إلى الميليشيات السُنّية حصراً، وفي سورية يستسلم العرب لإصرار واشنطن على ترك المعارضة السورية مكشوفة أمام طائرات وصواريخ النظام؟ بمثل هذه المعطيات، يذكرنا الحديث عن حل سياسي في سورية بمواعظ العرب للفلسطينيين عن الحل ذاته في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، وإلى ماذا انتهت هذه المواعظ بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة عليها. وقد وصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى أن تنكر أخيراً وعلناً لهذا الحل، وأعلن رفضه فكرة «حل الدولتين» الأميركية.
الحياة
ما حجم المسؤولية الأمريكية في الكارثة السورية؟
غداة الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة السورية كرّر وزير الخارجية الأمريكية جون كيري تصريحاته المعتادة حول الشأن السوري غير أن وكالات الأنباء اعتبرت قوله إن الولايات المتحدة الأمريكية عليها أن تتفاوض «في النهاية» مع الأسد تغييراً أمريكياً ملحوظا بحيث بدا التصريح هبوطاً بالأجندة المعلنة السابقة عن مطلب رحيل الأسد إلى «الضغط من أجل حثه» على التفاوض.
وبغض النظر عن تفاصيل التصريح فالواضح أن المسألة السورية تتأثر حالياً بعاملين كبيرين ضمن المنظور الأمريكي:
الأول هو معالم الاقتراب من التوصل إلى «اتفاق جيّد» مع إيران خلال الأيام المقبلة بحسب تصريح كيري نفسه (أو إلى «اتفاق سيء للغاية» بحسب زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي ميتش ماكونيل).
والثاني هو التنامي الكبير لقوة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، إضافة إلى النفوذ المتزايد لـ»جبهة النصرة» (الفرع المعلن لتنظيم «القاعدة» في سوريا)، وهما طرفان يعتبر القضاء عليهما أولوية استراتيجية أمريكية تتفوّق على مطلب إزاحة الرئيس السوري عن السلطة.
يشير تصريح كيري حول التفاوض مع الأسد قبيل سفره إلى جنيف للقاء وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف إلى أن أمريكا وإيران قد تكونان في صدد بلورة معالم صفقة شاملة لا تتناول برنامج طهران النووي فحسب بل تعزّز نفوذها الإقليمي في المنطقة العربية، وهو ما يعبئ الفراغات الغامضة في تفاصيل التحالف الواضح المعالم بين واشنطن وطهران (أرضاً وجوّاً) في سوريا والعراق… واليمن.
دخول الثورة السورية عامها الخامس وتصريح كيري يذكّراننا بأن السبب الحقيقي لـ»صمود» الأسد، الذي أدّى (ضمن تفاصيل الكوارث الكبيرة التي أدى إليها) إلى مقتل أكثر من 215 ألف شخص، وجعل السوريين أكبر مجموعة بشرية لاجئة على الأرض (5،835 مليون لاجئ يشكلون 23٪ من نسبة نازحي العالم اليوم)، لم يكن فقط القراران الروسي والإيراني دعمه بالمال والسلاح والرجال بل كذلك الموقف الأمريكي الملتبس من الثورة السورية.
سياق العلاقات المعقّد بين إدارة أوباما والثورة السورية، يبدأ مع الأوهام التي غذّتها لدى المعارضة السورية بوقوفها معها، بعد ترؤسها مجموعة كبيرة من «أصدقاء الشعب السوري»، لكنّها قامت عملياً بالتقليص أو منع التمويل والتسليح النوعي عن المعارضة السياسية والعسكرية السورية. وكان تراجع إدارة أوباما عن ضرب النظام بعد استخدامه السلاح الكيميائي نقطة فاصلة في مسار هذه العلاقة.
أدّى تضافر كل هذه العوامل بالنتيجة إلى التدهور المستفحل للمعارضة العسكرية المعتدلة وذراعها السياسي، واستفحال شأن تنظيمي «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» من جهة، والميليشيات الطائفية المدعومة من إيران من جهة ثانية.
يكشف هذا المسار الدور الجوهريّ الذي لعبته أمريكا عملياً في تعاظم دور التنظيمين المتطرفين وفي حرف بوصلة الاستهداف عن النظام (وتوابعه الميليشياتية الإيرانية الدعم) باتجاههما، وهو ما يحمّلها، مع روسيا وإيران، مسؤولية عن تحويل قضية الشعب السوري من ثورة ضد الاستبداد إلى قضية تنظيمات متطرفة ولاجئين، وإلى صراع طائفي يقسم المنطقة.
أيّا كانت تفاصيل الصفقة الإيرانية الأمريكية المقبلة فهي لن تغيّر من حقيقة أن طيران التحالف في سوريا والعراق (وطائراته بدون طيّار في اليمن)، أصبح الذراع الجوّية لإيران وميليشياتها، وأن تصريح كيري سيترجم في منهج نظام الأسد إلى المزيد من البراميل المتفجرة والصواريخ والتعذيب حتى الموت وتغيير الديمغرافيا البشرية لسوريا وتهديم نسيجها الاجتماعي والاقتصادي.
… وكل ذلك لا يعني غير إعادة إنتاج الأزمة ولكن بمفاعيل كارثية أكبر.
القدس العربي
كيري وسقوط الهيبة الأميركية/ جويس كرم
أن يختار وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذكرى الرابعة للثورة السورية للانبطاح أمام النظام السوري وفتح دعوة التفاوض أمام من سبق ان قارنه قبل عامين بأدولف هتلر وصدام حسين، ففي ذلك هبوط جديد للديبلوماسية الأميركية وهيبة واشنطن الدولية. وأن يتعامل الرئيس السوري بشار الأسد بفوقية مع دعوة كيري، فيما افترقت معه فرنسا وبريطانيا، ففي ذلك احراج واذلال للسياسة الأميركية.
هذه الصورة ليست مفاجئة اذا أخذنا في الاعتبار التخبط الأميركي داخل الادارة وعلى الأرض في الملف السوري. فالأسد الذي دعاه الرئيس باراك أوباما الى التنحي في آب (أغسطس) 2011، بات في موقع أقوى مما كان عليه في السنتين الماضيتين. أما سورية الغارقة في حرب أهلية وتفتت ميليشياوي فلا تعني البيت الأبيض كثيرا. أوباما نفسه قارب الأزمة هناك بحرب الكونغو لجهة البقاء على الحياد وعدم التدخل لأسباب انسانية أو جيو-سياسية، وكان التدخل الوحيد أميركيا ضد الارهاب ولضرب تنظيم “داعش” في استراتيجية تلتزم مبدأ “العراق أولا” والارجح اخيرا. أما “حرب الاستنزاف” في سورية بين المعارضة والنظام فستدور في نظر الأميركيين الى حين بلوغ نقطة الارهاق والتفاوض على حل.
دعوة كيري الاسد الى التفاوض لا تحمل بعدا استراتيجيا أو أفق حل للأزمة في سورية، لانه ليس هناك استراتيجية أميركية وليس هناك أفق قريب للحل في نظر المسؤولين الأميركيين. كيري نفسه يبدل في الموقف والكلام بحسب العاصمة التي يتحدث منها. ففي الرياض، يدعو الى ضغوط عسكرية على النظام السوري، وبعد لقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف يبادر الى تأييد جهود موسكو، أما في واشنطن فيتراوح موقفه بين توعد الأسد أو “هتلر” كما وصفه في 2013 بالمحاسبة، أو الترحيب بتخليه عن الترسانة الكيماوية. مواقف كيري في سورية هي نتاج الساعة والمنبر الخطابي، ويغيب فيها التنسيق مع البيت الأبيض وأيضا مع مكاتب الخارجية المنهمكة اليوم في توضيح كلامه وتأكيد أنه ليس هناك تغيير في الموقف من الأسد.
ليست المرة الأولى التي تتزحلق فيها ديبلوماسية جون كيري. فمن غزة الى القاهرة الى جنيف، أحرج الاسرائيليون والمصريون والايرانيون الوزير الأميركي. في اسرائيل، تنصتت الحكومة على هاتفه الصيف الفائت، فيما رفضت مصر مبادرته بالتنسيق مع تركيا وقطر حول غزة، وأبقته بعيدا حتى التسوية النهائية. أما مع ايران، فوعوده باتفاق اطار تهاوت الخريف الفائت، وأطلقت تسريبات داخل واشنطن عن امكان اقالته بعد تنحي وزير الدفاع تشاك هاغل.
سياسة كيري وتركته الخارجية معلقة اليوم بالمفاوضات الايرانية التي يقودها في مدينة لوزان السويسرية مع نظيره جواد ظريف وفرص الاتفاق – الاطار بدل التمديد الأسبوع المقبل. النجاح فيها لن يعني استرداد الهيبة الأميركية اقليميا أو حتى داخل الكونغرس، بل سيعطي كيري انجازا يتيما في أربع سنوات في الخارجية، حرمته منه دمشق، وأذلته اسرائيل وقوض جهوده البيت الأبيض.
الحياة
“هدية” كيري للأسد لا تبدّدها “التوضيحات” الشبهة الكبيرة حول سلفة أميركية لإيران/ روزانا بومنصف
التوضيحات التي قدمتها الخارجية الاميركية لكلام الوزير جون كيري حول قوله “ان الولايات المتحدة ستضطر الى التفاوض مع الرئيس السوري من اجل ضمان انتقال سياسي للسلطة في سوريا” عبر قول الناطقة باسم الخارجية “ان كيري جدد تأكيد سياسة راسخة هي اننا بحاجة الى عملية تفاوضية يكون فيها النظام على الطاولة ولم يقل اننا سنتفاوض مباشرة مع الاسد”، تفيد بأن كيري ارتكب هفوة في التعبير، وكثر يقولون انها ليست الاولى، ما اضطر الخارجية الى تصحيحها، او ان ردود الفعل المستهجنة كانت كثيرة بحيث اضطرت الخارجية الى هذا التوضيح. اذ تسارعت ردود مباشرة علنية على وزير الخارجية الاميركي، لا سيما من حلفائه كبريطانيا وفرنسا وتركيا وردت على الموقف الاساسي لكيري بقولها ان لا مستقبل لسوريا بوجود الاسد، وكأنما تطمئن الى ان مواقفها لا تنسجم والسياق الاميركي او ان ثمة خلافاً بينها وبين الولايات المتحدة. ولم يتردد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في اضفاء صدقية على التوضيحات الاميركية عبر الاعلان ان الموقف الاميركي من الاسد لم يتغير، وهو ما لم يكن ليحصل لولا اتصالات بين الطرفين لهذه الغاية. وفي رأي البعض ان ثمة ما يدفع الى اخذ التوضيح الاميركي في الاعتبار استنادا الى ان الخارجية الاميركية كانت جددت دعوتها الى رحيل الرئيس السوري قبل ثلاثة ايام فقط من كلام كيري في 12 آذار الجاري ذكرى انطلاق الثورة السورية ضد النظام مشددة على ان رحيل الاسد هو” شرط لاستقرار سوريا”. وكان السفير الاميركي في سوريا دانيال روبنشتاين غرد في المناسبة نفسها “ان تمسك الاسد اليائس بالحكم على وقع الرعب اليومي دليل على انه خسر الشرعية منذ وقت طويل وعليه ان يفسح في المجال لانتقال سلمي فعلي”.
هل يجب ان ينهي ذلك تفاعل كلام كيري او انه كان بداية بروز رأس جبل الجليد؟
لن يطمئن كثر الى التوضيح الاميركي لان كيري تحدث عن مساع تجرى بعيداً من الأضواء. والاتحاد الاوروبي تحدث عن اتصالات مع ممثلين عن النظام بحيث تشمل التسوية الجميع بمن فيهم الاسد مما يكشف بعض مما قاله كيري من ان واشنطن ودولا اخرى تدرس الطرق الكفيلة باحياء العملية الديبلوماسية. لكن موقف كيري خضع وسيخضع لتوظيف سياسي من جانب النظام السوري وحلفائه الى اقصى حد. وفيما يرى البعض ان مضمون كلام كيري قد لا يعكس تغييرا حقيقيا او جوهريا في الموقف الاميركي باعتبار ان الاسد كان فريقا الى طاولة جنيف 2 وان الموفد الدولي ستيفان دو مستورا يفاوض النظام بالنيابة عن مجلس الامن وان كيري تحدث عن الضغط على الاسد من اجل ارغامه على التفاوض للقبول بالحل السياسي، الا ان مصادر مراقبة تسجل جملة ملاحظات في كلامه قد يكون أبرزها قوله انه يتعين على الولايات المتحدة التفاوض مع الرئيس السوري. فهذا ما يحلم به الاسد ويتوق اليه وهي هدية ثمينة جدا تقدم للاسد. اذ ان رهانه كان ولا يزال على ان واشنطن ستضطر في نهاية المطاف الى التفاوض معه بعد تكبير خطر ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية وحملة الولايات المتحدة من اجل دحر هذا التنظيم والاسد لا يهمه موقف اي دولة اقليمية او غربية اخرى لاعتباره ان الولايات المتحدة وحدها من يعيد اليه الاعتراف بشرعيته متى فتحت هي مباشرة باب التفاوض معه. وهو ما يكشفه قريبون منه لمعدي التقرير الذي استند اليه دو مستورا من اجل الانطلاق في خطته من اجل تجميد القتال في حلب اولا. اضف الى ذلك ان توقيت كلام كيري لم يكن مناسبا في سياق التطورات الاقليمية. ففي عز المفاوضات التي تجريها واشنطن مع ايران من ضمن مجموعة الدول الخمس الاعضاء الدائمين في مجلس الامن زائد المانيا حول ملفها النووي، تتساهل واشنطن مع الحملة التي تقودها ايران مباشرة والحشد من الميليشيات الشيعية في تكريت في العراق والتي اكتفى مسؤولون اميركيون بالاعراب عن الخشية من ان تؤدي الى فتنة مذهبية. وعشية استئناف المفاوضات الاخيرة قبل الاتفاق الاطار المرتقب في 24 آذار مع ايران، بدا موقف كيري كأنه قدم سلفة كبيرة على الحساب الى ايران التي تدفع بكل قوتها من اجل تثبيت الاسد في موقعه فيما يوحي كأن الملفات الاقليمية التي قيل انها تركت لما بعد الانتهاء من الملف النووي تتم مناقشتها من ضمن صفقة متكاملة تجري في موازاة الاتفاق على النووي. ويصعب اقناع المشككين الكثر بان كلام كيري لا يعكس مفاوضات حول العراق وسوريا جرت وتجري مع ايران بحيث يتم التسليم ببعض القواعد او الاسس التي ترغب ايران في فرضها وقد يكون من ضمنها اعادة الاعتبار الى الأسد او الموافقة على استمراره لسنوات اضافية بذريعة ان يرأس هو المرحلة الانتقالية. ومن غير المستبعد ان يوجه الاسد رسائل عن استعدادات للتجاوب باعتبار ان اعلان واشنطن اضطرارها الى التفاوض معه يوفر له هدية ثمينة من منطلق السعي الى اعطاء الاميركيين ما يشجعهم على المضي في هذا الموقف وليس التراجع عنه تحت تأثير مواقف حلفاء دوليين او اقليميين. كما ان ايران قد تدفع في هذا الاتجاه من اجل الاستفادة من سنتين باقيتين من ولاية الرئيس باراك اوباما على غير ما قد يكون عليه سلفه.
النهار
الأسد أو البغدادي ؟!/ راجح الخوري
مع بداية السنة الخامسة للمذبحة السورية لا يجد المرء سوى الازدراء، في مواجهة الموقف المستهجن والرخيص الذي أعلنه جون كيري من ان اميركا لم تعد تشترط تنحي بشار الأسد، بل إنها تسعى لممارسة الضغوط عليه ليقبل بالحوار، وقد جاء رده سريعاً ومهيناً ضمناً عندما قال إنه ينتظر الأفعال لا الاقوال !
ها هم جميعاً تقريباً يضعون السوريين أمام الخيار المرّ: إما بشار الاسد وإما أبو بكر البغدادي، من دون التوقف لحظة للتذكّر من أين جاء البغدادي، وكم قتل تنظيم “داعش” من السوريين قياساً بما فعلته البراميل وقبلها الكيماوي!
ها هو جون كيري يدفعنا الى التقيؤ: “على الولايات المتحدة ان تتحدث مع بشار الاسد لإنهاء الحرب في سوريا” لكأنها لم تفاوضه مرتين في جنيف دون جدوى… في أي حال عندما يصل كيري مجدداً الى دمشق سيجد أنهم فرشوا له السجاد الاحمر ولكن فوق أرض مشبعة بالماء!
لم يكن ستيفان دو ميستورا ليعلن ان الأسد جزء من الحل لو لم يحصل على موافقة دول غربية، أما روسيا وايران فرأيهما معروف منذ البداية: “الأسد هو الحل”، وقد دخلتا القتال الى جانبه منذ البداية اما بالتسليح والحماية السياسية عبر الفيتو كما فعل الروس، وإما بالوقوف الى جانبه في جبهات القتال كما فعل الإيرانيون وأذرعهم العراقية ثم “حزب الله”.
لم يكن في وسع التظاهرات السورية الصارخة “سلمية … سلمية” سوى تقديم الضحايا، ولم يكن من المستغرب ان يستولد تضافر المذابح في سوريا وسقوط مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين، مع الاضطهاد والتنكيل اللذين مارسهما نوري المالكي في العراق، ظهور الارهابيين في الساحة ثم تسارع هذا التدفق الخارجي من القتلة والسفاحين الى الساحة، ولكن من الذي ينظر الى الوراء لكي يستخلص الدروس؟
لا أحد، فهم انهم لا يريدون حلاً بل يستجيرون بالرمضاء من النار، يفضّلون كُحل الأسد على عَمى البغدادي، أين ذهبت التصريحات اليومية التافهة التي اطلقها باراك اوباما والتهديدات السخيفة التي لوّح بها بعد مذبحة الكيماوي في الغوطتين؟
واذا كانت المعركة ضد الارهابيين في العراق مسألة سنوات كما يقول الأميركيون، فما معنى دعوة كيري الى التفاوض مع الأسد وسوريا باتت صومال كبرى مع بداية السنة الخامسة للمذبحة المفتوحة، في حين تتحدث المراصد عن سقوط ٢١٥ الف قتيل وأكثر من عشرة ملايين لاجىء وعن جيل كامل مدمّر وبلد بكامله سُوّي بالأرض؟
كيري قال “إنها أسوأ المآسي التي يشهدها أي منا على وجه الأرض”، لكن الأسوأ هو سياسات أوباما التي لم يشهد تاريخ الغباوة مثيلاً لها، كما يقول وليد جنبلاط.
النهار
رأس سوريا لا الأسد/ امين قمورية
كيري في تصريحه الاخير تخلى عن العبارة الاميركية المشهورة: “مستقبل سوريا يجب الا يشمل الاسد”، ابدلها بعبارة جديدة قلبت المقاييس:”الاسد لم يرغب في المفاوضات… ونحن ندفع من اجل ان يفعل ذلك”. بكلام اوضح، الديبلوماسية الاميركية التي كانت تريد للرئيس السوري ان يرحل، صارت الآن تريده مفاوضا!
ما نطق به كيري ينسجم مع ما قاله مدير “السي اي آي”: “واشنطن لا تريد انهيار نظام الاسد، لان ذلك سيوجد فراغا سوف يملأه داعش”. اذا الحجة الاميركية لتبرير غض الطرف عن الاسد هي “وجود داعش”. وهذا الانقلاب في المواقف ليس غريبا عن اميركا البراغماتية، فالبراغماتي يتعامل مع المتغيرات بما تفرضه الوقائع والمصالح لا بما تقتضيه المبدئيات الفارغة من اي مضمون.
في أي حال، الموقف الاميركي الجديد، نزل كالصاعقة على رؤوس المراهنين على اصرار اميركي على اطاحة الاسد مهما طال امد الازمة… وأثلج في المقابل صدور اصدقاء نظام دمشق واعتبروه نجاحا جديدا يضاف الى لائحة “نجاحاتهم” من بغداد الى صنعاء الى الملف النووي.
عظيم، نجا الاسد، من المقص الكلامي الاميركي ولكن ماذا عن سوريا ومصيرها البائس؟ هل نجت من المقصلة الفعلية التي تواجهها؟ وماذا يفيدها ان بقي رئيسها ودمرت هي وشعبها؟
يصير الكلام الاميركي الجديد ذا معنى، اذا ترافق مع مشروع تسوية ممكن، له مرجعيته السياسية، وله أفرقاؤه، وله رعاته القادرون على فرضه وتدوير الزوايا الحادة لوجهات النظر المتناقضة… وإلا يصير وصفة لتجدد القتال.
لم يوضح كيري اي مفاوضات يريد الدفع من اجلها. ألا تزال مسودة جنيف صالحة في الحالة المستجدة؟ وعن اي مساع ديبلوماسية يتحدث والنيران الاوكرانية تلتهم ما تبقى من ثقة هشة بين الراعيين المفترضين موسكو وواشنطن؟ وهل تستقيم الامور في ظل “العشق الاقليمي المجنون” ؟ واذا صدقت النيات الاميركية عن دعم التفاوض، فاي معارضة يعتد بها ومقبولة لدى السوريين قبل غيرهم “تصلح” للمفاوضة؟ ومن الآن الى حين ظهور “معارضة معتدلة” تتسم بوزن تنظيمي وسياسي واخلاقي، كم سيترتب على سوريا وشعبها من الدمار والخراب؟ وماذا عن “داعش” الذي اعطي وضعا خاصا في سوريا غيره في العراق؟
ليست المرة الاولى تبدل واشنطن لغتها في الشأن السوري، لكن موقفها الراسخ والحقيقي من هذا البلد لم يتغير فعلاً منذ 11 آذار 2011 حتى اليوم. موقفها كان ولايزال: رأس سوريا وليس رأس الاسد. هكذا كان موقفها في العراق ولا يزال. وهكذا سيكون في دول عربية أخرى باتت على اللائحة أو على همة دخولها. وهي في هذا المجال حققت نجاحات منقطعة النظير.
النهار
واشنطن تختار الأسد/ لميس أندوني
ليست تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بضرورة التفاوض مع بشار الأسد مفاجئة، فقد اختارت واشنطن، من حيث المبدأ، “الاستقرار”، خصوصاً بعد فشل فصائل المعارضة السورية التي عرضت نفسها بديلاً، يحافظ على استقرار المصالح الأميركية، فشلاً سياسياً وعسكرياً.
منذ بدأت الثورة، كانت هناك أسس للسياسة الأميركية، أولها أن واشنطن لم تكن لتسمح بقيام نظام تحرري حقيقي، ودولة مدنية تعددية، تؤسس ولو الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في سورية. وثانيها أن واشنطن سعت إلى أن تكون الطرف الأهم في تقرير شكل التغيير في سورية، بحيث لا يؤثر على مصلحتها أو مصلحة إسرائيل.
صحيح أن واشنطن رأت في الثورة فرصة لإعادة تشكيل سورية، ليس استجابة لمطالب الشعب السوري، بل لإقامة نظام بعيد عن شعارات المقاومة، بغية فك ارتباط الدولة السورية بكل من إيران وحركات المقاومة من حماس والجهاد الإسلامي إلى حزب الله، لكنها فشلت في تشكيل بديل “معتدل”، يضمن عدم تحويل سورية إلى معبر للهجمات المسلحة مستقبلاً على إسرائيل.
أميركا وكما دائماً، قامت بلعبتها المزدوجة، بتسهيل دخول تنظيمات “إسلامية”، ودعم لها غير مباشر من خلال حلفائها، بغية إحداث واقع يجعل من الثورة حالة إرهابية، تبرر التدخل الأميركي، وبغية إيجاد فصائل تسميها معتدلة، تحت شعار مكافحة “الإرهاب”.
أصبحت السياسة الأميركية تجاه سورية أكثر وضوحاً في محادثات جنيف 1 عام 2012، حيث تطالب بتنحية الأسد، لكنها رفعت شعار مكافحة الإرهاب في سورية، بالتفاهم الضمني مع سورية، إيذانا ببدء تشكيل البديل “المعتدل” سياسيا وعسكريا، في خطوة أقرب إلى نظام الصحوات في العراق، وإن كانت تهيئة البدائل، وليست فقط لضرب المقاومة، كما في بلاد ما بين النهرين.
بالنسبة لروسيا والنظام السوري، فإن مكافحة الإرهاب كانت تجريما للثورة نفسها، وتدعيما لشرعية لنظام الأسد، خصوصاً عربيا، مستغلة تخوف الشعوب والأنظمة معا من التنظيمات المتطرفة. وبالنسبة لواشنطن، كان ذلك يعني بديلاً لا استقلالية له، يؤيد سياسات واشنطن في المنطقة وينفذها.
هنا، يجب التذكير بأن النظام السوري لم يكن يوماً بعيداً عن سياسات واشنطن في مفاصل عدة، خصوصاً وليس حصريا في سنوات ما قبل الثورة، فالنظام تواطأ في ما يسمى الحرب على الإرهاب، بما في ذلك تعذيب “مشبوهين”، أشهرهم خالد عرار الذي نقلته كندا سراً إلى دمشق، حتى يخضع “للتحقيق” في أقبية الزنازين السورية.
وكان النظام قد بدأ تنفيذ سياسة اللبرلة الاقتصادية منذ عام 2005، وهو مطلب أساسي لواشنطن، وتبع ذلك رفع للأسعار وتدهور وضع المزارعين، ما كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة في الأطراف وفي ريف دمشق، ومؤشراً على محاولة النظام التفاهم مع أميركا.
ولعب جون كيري الذي كان في تلك السنوات عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي الدور الرئيسي في الوصول إلى تفاهمات مع بشار الأسد، إلى أن بدأت الثورة السورية، ورأت فيها واشنطن فرصة بديلة، لإيجاد قيادة تفك الارتباط مع إيران. وها هو كيري يعود إلى دوره القديم، ويوجه صفعة إلى أطراف المعارضة التي تخلت عن دورها التمثيلي لطموحات الشعب السوري، طمعاً بالنفوذ الشخصي أو السلطة، متجاهلة أن واشنطن تنشد أدوات ومصالح وليس حلفاء، خصوصاً بعد هزيمة حركة “حزم” أمام جبهة النصرة وقرب وصول تفاهم مع إيران.
ويعتمد التغير في السياسة الأميركية على نجاح التفاهم مع إيران، فلا سياسة ثابتة، وهو درس يجب أن تتعلمه المعارضات والأنظمة التي تنسى الشعوب وتتذلل لواشنطن.
العربي الجديد
كيري متمسك بخروج الأسد/ حسين عبد الحسين
قد تبدو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركية، جون كيري، حول ضرورة الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد جديدة، لكنها في واقع الحال ليست إلا تكراراً لما دأبت واشنطن على قوله منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية حول ضرورة الحوار مع الأسد من أجل خروجه من السلطة وبقاء نظامه.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام المختلفة سارعت إلى الاستنتاج أن المسؤول الأميركي لم يكرر ما يقوله المسؤولون الأميركيون عادة من أن الأسد فاقد للشرعية، لكن كيري ربط- في المقابلة نفسها- التفاوض “الاضطراري” مع الأسد ضمن مقررات “جنيف-١” بين واشنطن وموسكو، وهي أول وثيقة تحدثت عن العملية السياسية الانتقالية، وتفسّرها الحكومة الأميركية على أنها تعني حكماً خروج الأسد من السلطة، حتى أن كثيرين يعتبرون أن اتفاقية “جنيف-١” هي “أعلى سقفاً” من وثيقة “جنيف-٢”، التي شاركت في صياغتها المعارضة السورية.
ومثل كيري، بدت تصريحات مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” (سي آي ايه)، جون برينان، الأسبوع الماضي، صريحة أكثر من العادة، أو فريدة من نوعها، لكن واقع الأمر يشي أن أحد أقرب المقربين إلى باراك أوباما، منذ كان يشغل منصب مستشار الرئيس لشؤون الإرهاب، لم يدلُ بما هو جديد، بل كرر ما مفاده أن واشنطن- النادمة على الإطاحة بصدام حسين ونظامه في العراق- لا تعتقد أن تغيير النظام في سوريا فكرة سديدة، بل أنها تعارضها، وتعمل على منع سقوط النظام.
لكن برينان لم يقل، ولا لحظة، أن حكومة بلاده متمسكة ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ولو سأل أحدهم برينان عن الأسد، لكرّر القول إن واشنطن تعتقد أنه فاقد للشرعية وأن عليه الرحيل من ضمن عملية انتقال سياسية. والتصريحان، أي التمسك بالنظام والقول بضرورة رحيل رئيسه، هما من ضمن “نقاط الكلام” التي يكررها مسؤولو الحكومة الأميركية تلقائياً وعلى كل المستويات.
“نقاط الكلام” الثابتة هذه تعكس الكثير من تفكير الإدارة الأميركية وسياستها تجاه سوريا، فمسؤولو الحكومة الأميركية لم يتلفّظوا، منذ اندلاع الثورة السورية ٢٠١١، بكلمة “ثورة” عند حديثهم عن سوريا، ولا هم أطلقوا كلمة “ثوار” على السوريين المطالبين برحيل الأسد ونظامه، بل تمسكت واشنطن بكلمات “أزمة سورية”، وأشارت إلى الثوار بقولها معارضين، وأضافت إلى المعارضين كلمة معارضين معتدلين، على اعتبار أن فئة من المعارضين السوريين، خصوصاً “جبهة النصرة”، هم من المعارضين المتطرفين.
إذاً، لا ترى الولايات المتحدة أن السوريين خرجوا فعلياً إلى الشوارع للمطالبة بتغيير نظامهم، على غرار انتفاضات الربيع العربي الأخرى، ولا تعتبر أن رحيل الأسد هو لتلبية مطالبهم، بل ترى أن رحيل الأسد هو لتلبية رؤية واشنطن للتخلص من “العنف المتطرف”، أي أن إقامة “حكومة جامعة” في سوريا -مثل إقامة حكومتي وحدة وطنية في العراق واليمن ترافقتا مع خروج الحاكم السابق من السلطة- هي جزء من “مكافحة التطرف”، ولا ترتبط بأي طموحات تعبر عن هذه الشعوب لتغيير حكوماتها والسعي لمستقبل أفضل.
ويصرّ أوباما أن استراتيجيته هي الافضل، وهو كال لها المديح متباهياً أثناء خطابه، العام الماضي، أمام أكاديمية وست بوينت العسكرية، عندما قدم اليمن نموذجاً للشراكة مع حكومة وحدة وطنية وقوات ارضية محلية تقضي على المتطرفين، وها هو اليمن المفتت اليوم مثالٌ على نجاح أوباما المزعوم وعلى سؤدد أرائه وأفكاره لمعالجة أزمات الإرهاب في سوريا والعراق واليمن.
لكن مسؤولي أوباما يعرفون أن سياسة رئيسهم “أونطة”، ويعلمون أن أوباما ليس جاداً حتى في مكافحة الإرهاب، بل هو دفع حكومته إلى التلاعب بالألفاظ، بدلاً من تقديم سياسات فعالة، فصارت الثورة السورية أزمة سورية، وصارت الحرب على الإرهاب “مكافحة العنف المتطرف”، وتحول الثوار السوريين إلى معارضين، والمعارضين إلى ناشطين لا يسعون إلا إلى حفنة من المناصب الوزارية في حكومة وحدة مع نفس النظام الذي يشبعهم عنفاً.
ومن كبار المسؤولين الأميركيين من عملوا عن كثب مع عشائر غرب العراق، ويعرفون طبيعة السكان والأرض، ويعلمون أن لا سبيل لفوز فريق على آخر، وأنه لا يمكن القضاء على الإرهاب من دون استمالة السكان المحليين، وهؤلاء لا يمكن استمالتهم ماداموا يشعرون بالغبن، ويشعرون أن فريقهم، المحلي والإقليمي، مهزوم أمام الفرق المنافسة. هؤلاء المسؤولون الأميركيون أنفسهم هم من يجوبون عواصم العالم لتسويق سياسات في العلن يعلمون في السر أنها مضيعة للوقت.
لهذه الأسباب، أطلق مسؤولو أوباما على الثورة السورية تسمية “أزمة”، ربما لأن الثورة تعني التغيير نحو الأفضل وتحتاج إلى تضحيات وصبر، بينما الأزمة تعني مشكلة آنية يمكن العمل على تقديم الحلول لها عن طريق “تبويس” اللحى و”تطييب” الخواطر. أما إن تعذرت هذه الحلول، يمكن وقتذاك إدارة “الأزمة السورية” بالتي هي أحسن، أو الانتظار إلى أن تحل الأزمة نفسها، أو حتى يخرج الرئيس الأميركي من الحكم من دون إنفاق أي رصيد سياسي مطلوب لإعطاء الثورة السورية القوة اللازمة لإيصالها إلى ختامها.
ولهذه الأسباب أيضاً نرى المسؤولين الأميركيين يتراقصون في تصريحاتهم ويتلاعبون في الألفاظ، لكن واقع الحال هو أن أميركا ليست مستعدة لفعل أكثر مما تفعله، وهو العمل على تقليص -لا إلغاء- تنظيم “الدولة الإسلامية”، وإقامة مهرجانات دبلوماسية حول مصير الأسد. في الحالتين، إضاعة للوقت حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويخرج أوباما من الحكم، ويسلم سياسته الخارجية لخلفه مع أقل ضرر ممكن لرصيده السياسي، ولصورته، التي سيرسمها المؤرخون الأميركيون مستقبلاً.
المدن
اوباما عراب الاحتلال الإيراني/ نديم قطيش
في عيدها الرابع كانت الثورة السورية على موعد مع حزمة جديدة من التصريحات الأميركية المربكة والمرتبكة. رئيس الاستخبارات الأميركية المركزية جون برينان قال في محاضرة في “مجلس العلاقة الخارجية”، احد ارقى مراكز البحوث الأميركية، ان واشنطن حريصة على منع انهيار “الحكومة والمؤسسات السياسية” في سوريا وعدم خلق فراغ تملؤه داعش.
التصريح يفصل بسذاجة بالغة بين بشار الاسد و ما يسميه “الحكومة والمؤسسات السياسية”، من دون ان يعطي اي تفسير عملي لكيفية الفصل في بلاد يختصرها الحاكم بشخصه. وهو تصريح ما لبث ان فهم، في العالم العربي حيث نظرية المؤامرة هي عنصر مكون من عناصر الثقافة السياسية، بانه تراجع أميركي عن سياسة رحيل الاسد.
كلام برينان، أعقبه تصريح مفكك لوزير الخارجية الأميركية جون كيري خلال مقابلة مع محطة سي بي إس الأميركية قال فيه، في معرض اجابته عن سؤال حول استعداده للتفاوض مع بشار الاسد: “لا بد من التفاوض في نهاية الامر” من اجل إتمام الحل السياسي في سوريا.
الخارجية الأميركية علقت على التصريحات بأنها لا تمثل تغييرا في السياسة الأميركية حيال سوريا، وصدر بيان عن الخارجية في أعقاب المقابلة ينفي ان كيري سيفاوض الاسد.
لكن كما برينان، يندرج كلام كيري في سياق تغذية التفسيرات المؤامراتية للموقف الأميركي من الأزمة السورية وسرعان ما تصبح لهذه التصريحات سياقات خاصة في لعبة الصراع بين اللاعبين المحليين في المنطقة ليست هي بالضرورة السياقات نفسها لهذا التصريح او ذاك الموقف.
خطورة الكلام الأميركي ليس في انه يشكل تحولا في السياسة الأميركية حيال سوريا، بل في انه تعبير دقيق عن انعدام السياسة أصلاً. لا سياسة أميركية حيال سوريا خارج ثابتة ان الرئيس الأميركي باراك اوباما لا يريد حربا في الشرق الاوسط ولا يريد تدخلا عسكريا يعمق الأزمة السورية ويفيض بها بشكل اعنف واخطر خارج حدود الكيان السوري.
تصريحات برينان وكيري، بهذا المعنى، هي الرطانة واللغو اللذان تملأ بهما واشنطن الفراغ السياسي الذي يميز موقف إدارة اوباما من سوريا.
والخطورة الأكبر لهذا التخبط الأميركي والارتجال السياسي حيال سوريا انه يَصْب مياهاً كثيرة في طاحونة المشروع الإيراني الذي يقوم على الاستثمار في هواجس الدول العربية وشعوبها والتلاعب بمعنوياتها ومكوناتها بغية دفعها الى المزيد من التطرّف. الأداء الأميركي هو تاكيد لدول المنطقة انها متروكة لوحدها امام التغول المذهبي الإيراني الذي بات يسفر عن وجهه بلا تردد. بل ان أميركا تتصرف وكأنها تتفهم هذا المشروع الإيراني نفسه، وهو ما يعطي خيارات التطرّف أرضا خصبة للنمو في الوقت الذي يُضعف فيه ممثلي الاعتدال السياسي ويقضم من مشروعيتهم في بيئاتهم.
فالثابت حتى الان ان ايران لا تبغي هزيمة داعش، على ما تظن واشنطن في تقاطعها الأخير مع نظام الملالي. بل ان كل ما تقوم به من استنفار أدواتها وعناوينها وصورها المذهبية يعمل على تزخيم بيئة حاضنة لداعش ويعزز مسوغات التطرّف في مواجهة الطغيان الإيراني، بما يعود ويبرر المهمة الإيرانية في محاربة الارهاب، اي الاسم الحركي للاحتلال الإيراني.
نجحت ايران في ادخال واشنطن في دوامة التدوير هذه في اللحظة التي تمر فيها الخيارات الاستراتيجية الإيرانية بتحول عميق ينتقل بها من محاربة الصهيونية الى محاربة التكفير. وها هي ايران على لسان “معجزتها في لبنان”، بحسب توصيف مسؤولين ايرانيين، تعلن انها ليست راغبة في قتال اسرائيل في الوقت الذي تشحذ فيه الهمم لمقاتلة التكفير وتقديم الاثمان الفادحة في الحرب معه. وبالتالي فإيران تحتاج وهي تقدم على تسوية نووية مكلفة مع واشنطن الى اعادة انتاج أعداء جدد يتيحون لها اولا تغطية التفاهم الناشئ مع الشيطان الأكبر سابقا، وثانيا المضي قدما في مشروع هيمنتها على المنطقة تحت مسمى محاربة الارهاب.
في هذا السياق تُفهم وظيفة الخطوات الإيرانية الاخيرة، من وضع الحرب على الارهاب في أوضح إطار مذهبي وصولا الى هدم قبر صدام حسين في تكريت، والذي يأتي استكمالاً لمشهد إعدام صدام صبيحة عيد الأضحى عام ٢٠٠٦ وعلى وقع صرخات “يا مهدي”، في واحدة من أحط اللحظات المذهبية في تاريخ هجوم ايران على المنطقة. ليس هذا دفاعا عن صدام وهو صاحب جريمة مديدة بحق العراق، بل ادانة لمعالجة الجريمة بجريمة، بحق العراق ودولته ومستقبله.
تعمل ايران بهمة عالية على “تجنين” عموم البيئات السنية تمهيدا وتشريعاً لضربها، فيما تقترح بعنجهية على بعض هذه البيئات ان تتحالف معها في ضرب بعضها الاخر. وهي بهذا تؤلف مخرجا لحربها المذهبية على المنطقة، يضع الحرب الأهلية السنية الشيعية في إطار حرب سنية سنية تقف ايران فيها كقوة إسناد مع فريق سني ضد آخر.
تفعلها عبر بعض العشائر السنية في العراق وعبر الحوار السياسي مع تيار المستقبل في لبنان وعبر الاستثمار في احقاد علي عبدالله صالح في اليمن. تصريحات برينان وكيري تفصح عن حجم العمى الأميركي حيال حقيقة وطبيعة المشروع الإيراني، فيما المنطقة كلها تقدم على طبق من ذهب رشوة لإيران لتتنازل عما تحتاج ايران أصلا ان تتنازل عنه لإنقاذ نفسها من الافلاس.
وهذا تكون إدارة اوباما هي العراب الحقيقي للانفلاش الداعشي الذي يسيل له لعاب طهران. فلا وصفة اكثر دقة لتحويل المنطقة الى داعش سوى تخيير شعوبها بين الارهاب الجهادي السني او هيمنة الارهاب الجهادي الشيعي!
المدن
هل جُنّ كيري؟/ عبد الرحمن الراشد
لا أفهم كيف يقول مسؤول في مكانة وزير الخارجية الأميركي إنه يمكن القبول بالأسد لأنه يحتاج إليه في محاربة تنظيم داعش!
تصريح جون كيري، هذا وحده يكفي لدفع ملايين الناس هنا إلى تأييد «داعش»، ولنفس السبب. فإن كانت حجة كيري أنه سيتعاون مع الأسد كرها في «داعش»، فإن ملايين السوريين بدورهم سيتعاونون مع «داعش» كرها في الأسد. ومبرراتهم أعظم من حجته. ربع مليون إنسان قتلهم نظام الأسد، بعون حلفائه من إيرانيين وحزب الله، ويستحيل أن يتصالحوا معه مهما كانت مبررات الأميركيين. فهل يظن وزير الخارجية الأميركي أن ملايين السوريين سيسكتون وينسون المذابح والتشريد الذي حل بهم، فقط لأن كيري قرر أن يتحالف مع شيطان ليقاتل شيطانا آخر؟
وسواء كان ما صدر عن كيري، وأثار غضب ملايين الناس، هو جزءا من محاولة «مساج» الإيرانيين، لإقناعهم بالقبول باتفاق نووي، أو أنها نصيحة مستشاريه الذين لا يعيرون اهتماما كبيرا لمأساة السوريين ومحنتهم، فإن ما قيل من أسوأ ما صدر عن كيري، على الرغم من كثرة زلاته الكلامية!
إحدى أهم ركائز مواجهة تنظيم داعش الإرهابي هو بنبذه محليا، بإقناع شعوب المنطقة بالعمل سوية لمحاربته، لأنه يمثل خطرا مشتركا على المسلمين وغيرهم. ومن دون تعاون دول المنطقة فلا أحد يستطيع الانتصار على الجماعات الإرهابية التي تجتذب المتطوعين، والمتبرعين، من رجال وأموال، مدعية أنها من تقف معهم ضد البغاة والطغاة! فكيف يمكن لحكومات المنطقة إقناع مواطنيها عندما يخرج وزير خارجية الولايات المتحدة نفسه معلنا عن تفاوضه وقبوله بأسوأ نظام عرفته المنطقة، ارتكب أعظم مما فعله نظاما صدام العراقي والقذافي الليبي؟
وإن كان هدف تصريحه أرضاء الإيرانيين، فإن على الحكومة الأميركية أن تفكر مرتين، لأن ذلك سيضر بكل ما بنته على مدى عقود طويلة، ويعرض مصالحها لخطر أكبر، ويهدد المنطقة، وهي في النهاية لن تحصل من الإيرانيين ونظام سوريا وحزب الله إلا على مزيد من المشكلات الإقليمية.
لقد فتح كيري أبواب جهنم على نفسه وبلده، في منطقة غاضبة، تشعر غالبية أهلها بأن حكومة أوباما سكتت عن جرائم إبادة يومية، استخدمت فيها أسلحة غاز وكيماوية محرمة، وفي نفس الوقت منعت تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، والآن تريد مصالحة القتلة في وضح النهار!
الشرق الأوسط
واشنطن تخذل الثورة السورية/ أيمـن الـحـمـاد
ما إن انتهى رئيس الاستخبارات الأميركية جون برينان من حديثه أمام النخبة السياسية في مجلس العلاقات الخارجية التي فاجأها بقوله: إن بلاده لا تريد انهيار الحكومة السورية والمؤسسات التابعة لها، لأن من شأن هذا الأمر أن يخلي الساحة للجماعات الإسلامية المتطرفة ولا سيما تنظيم “داعش”، حتى خرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليخبر مشاهدي قناة “سي بي إس” أن واشنطن ستضطر للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد بشأن تحوّل سياسي في سورية وهي تبحث سبل الضغط عليه للقبول بهذا الخيار.
يأتي هذا الحديث والثورة السورية تدخل عامها الخامس، ومليون ونصف المليون لاجئ سوري يعيشون في الشتات، وأكثر من مئتي ألف قتيل لقوا حتفهم نتيجة عمليات القتل والتعذيب التي مارسها النظام السوري بحقهم، في ظل تخاذل من القوى الدولية التي سيّست تلك الأزمة حتى غدت في حالة من التعقيد الشديد والمستقبل الحالك، دون أفق واضح يمكن الاهتداء به إلى بر الأمان.
يبرز الموقف الجديد للإدارة الأميركية، التي اُنتقدت بشدة بسبب مواقفها المترددة تجاه الأزمة السورية والخطوط الحمراء التي وضعتها أمام تجاوزات نظام الأسد، الذي أمعن كثيراً في التنكيل بالشعب السوري، وعدّته واشنطن نفسها فاقداً للشرعية، نجدها اليوم تعود لذات السلوك السياسي المربك لحلفائها حتى أكثرهم قرباً منها، ونعني هنا لندن التي بادرتها برفضها التفاوض مع النظام السوري.
واشنطن اليوم تعطي الأسد شرعية لا يستحقها عندما تطلبه للتفاوض، وتناست بأنها قد فرضت عليه عقوبات، وكادت أن تشنّ حملة عسكرية على نظامه، وكادت أن تخسر أكثر حلفائها قرباً لها؛ بسبب عدم وضوح موقفها تجاه الأزمة، التي تنعكس بشكل سيئ وبائس على الأوضاع في الشرق الأوسط، وتتناسى أن “داعش” – التي تخشى واشنطن أن تكون خليفة النظام السوري في دمشق – هي قبلة الحياة لهذا النظام.. على حد قول واشنطن بوست.
تعطي المواقف الأخيرة للإدارة الأميركية دعماً معنوياً كبيراً لنظام الأسد، دون أن يكون لهذا النظام أي بوادر لحسن النية بل على العكس، وتلك المواقف سوف تنعكس سلباً على المعارضة السورية التي تحتاج الكثير من الدعم المعنوي والمادي وتضعف من مواقف “الجيش الحر” التابع للائتلاف السوري.
قلق واشنطن ودول المنطقة من “داعش” وانحرافاتها مبرر، لكن كان من الأجدر الذهاب لتقوية المعارضة سياسياً وعسكرياً لتكون خليفة لنظام الأسد الذي ترك في كل بيت سوري باحثاً للثأر منه.
الرياض
التفاوض مع سورية آتٍ/ داود الشريان
عبارة «علينا أن نتفاوض في النهاية»، التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الأحد الماضي في مقابلة بثّتها قناة «سي بي أس» ما زالت تُشعِل جدلاً عالمياً وإقليمياً واسعاً. وهي كشفت حقيقة مهمّة مفادها أن لا وجود لحل عسكري، بل مخرج سياسي. وكل التعقيبات والتفسيرات التي صدرت عن تركيا وشركاء غربيين لواشنطن، اعترفت في ثناياها بأن الطريق الوحيد لوضع نهاية لمعاناة الشعب السوري، والخروج من مأزق الاستنزاف، هو الحل السياسي، وإن غُلِّفَ الاعتراف بعبارات جرت العادة على ترديدها في الحديث عن الأزمة السورية.
كيري قال في تصريحاته إن بلاده «ستضطر للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد في شأن انتقال سياسي في سورية»، ولم يقل إن بلاده ستبدأ عملية تفاوضية. فهذه الأخيرة جرّبت جنيف بنسختيه الأولى والثانية وفشلت. ومن غير المعقول أن كيري لا يفرّق بين العبارتين. والتطمينات التي صدرت عن الإدارة الأميركية بعد تصريحاته، ربما، قصدت تخفيف الصدمة لدى الشركاء الذين لم يُؤخذ رأيهم في توجُّه واشنطن الجديد. لكن من يقرأ بتمعّن تطمينات جوش إرنست، الناطق باسم البيت الأبيض، سيجد أنه حسم الجدل، وكشف هدف الإدارة من وراء تصريحات كيري، إذ قال إرنست: «أولويتنا هي التعاطي مع الخطر الذي يمثله المتطرفون الذين يستغلون الفوضى في سورية». كأنه يقول إن الاعتراف بنظام الأسد أو عدم الاعتراف به، صارا وسيلة الحل، وليسا غايته.
لفهم الغضبة الأوروبية من تصريحات كيري، تجب العودة إلى تذمُّر الفرنسيين، وبعض الدول الأوروبية، من توجّهات المفاوضات الأميركية مع إيران حول مشروعها النووي، والتي كشفت خوف الأوروبيين من حصول الشركات الأميركية على الدثور والأجور كثمن للصفقة مع طهران. وجاءت تصريحات كيري لتعزز تلك المخاوف. يمكن قراءة هذا الجدل الذي أحدثته تصريحات الوزير الأميركي كجزء من الضغوط التي تحدّث عنها كيري، وربما هي ضغوط مضادة من الأوروبيين على واشنطن لتخفيف تنازلات الجانب الأميركي في مفاوضاته مع إيران.
لا شك في أن واشنطن وشركاءها الأوروبيين، وبعض الدول الإقليمية المؤثّرة في الأزمة السورية، أصبحوا مدركين أن لا مفر من إنهاء الحرب الأهلية في سورية، وأن نزع فتيل العنف من يد المتطرفين، الذين يستغلون الفوضى للاستمرار والتمدد، أصبح الهدف المقبل.
الأكيد أن مفاوضات على طريقة جنيف لإنهاء حرب معقّدة، دخلت عامها الخامس، لم تعد مجدية. ويصعب الرهان على معارضة غير متجانسة، وليس لديها مشروع موحد للحل، فضلاً عن أن بعضها بات طرفاً في نزاعات مع دول إقليمية مؤثرة.
الحياة
خطران للتفاوض مع الأسد/ موناليزا فريحة
لم يكن شعار”الاسد يجب أن يرحل” سياسة أميركية جدية. ادارة الرئيس باراك أوباما لم تظهر يوماً رغبة حقيقية في اطاحة النظام السوري. محاولاتها للتدخل في النزاع، إن لنزع الشرعية عن النظام أم لدعم المعارضة، اتسمت بكثير من التردد والارتباك. وليس كلام وزير الخارجية جون كيري أخيراً عن وجوب التفاوض مع الاسد من دون أهداف واضحة لهذه الخطوة، الا آخر مظاهر اخفاق السياسة الاميركية حيال سوريا.
أياً تكن خلفيات موقف كيري، سواء بدت تودداً لإيران أم اقتناعاً بأن الأسد هو “أهون الشرين”، فهو لن يحقق الأمن والاستقرار لسوريا، لا بل على العكس، تبدو الأخطار المحتملة للتفاوض مع الاسد بلا استراتيجية واضحة أكثر من نتائجه الايجابية المؤملة بالتوصل الى تسوية سياسية.
ثمة اقتناع سائد في المنطقة بأن أحد أبرز الاسباب التي منعت واشنطن من توجيه ضربات “جراحية” الى النظام السوري صيف 2013 كان قلقها على المفاوضات مع طهران والتي كانت بدأت سراً في عُمان. ومع خروج المفاوضات الى العلن وبلوغها مراحل متقدمة، تبدو واشنطن أكثر حرصاً على منع إحباط المفاوضات والوصول بها الى خواتيم سعيدة، غير عابئة بتحالفاتها في المنطقة.
هذا التودد الاميركي لإيران من غير تبديد هواجس دول الخليج، يزيد حال الاستقطاب المذهبي، معززا المخاوف من اقرار بالنفوذ المتنامي لطهران في سوريا، بعد ترحيب بدورها المؤثر في بغداد. ومن شأن هذه المخاوف أن تدفع الدول السنية المتوجّسة من الطموحات الايرانية الى تكثيف دعمها للجماعات المعارضة للنظام، وخصوصاً المتطرفة منها باعتبارها الأكثر فاعلية على الارض، في محاولة لمنع خضوع سوريا لنفوذ طهران.
أما اذا كان هدف التفاوض مع الاسد تشكيل جبهة موحدة ضد “الدولة الاسلامية”، فليس ما يدل على أن استراتيجية كهذه ستؤتى ثمارها. لا شك في أن القضاء على “دولة” بدائية ومتوحشة ضرورة ملحة لإنهاء الجحيم السوري. بيد أن محاربة هذا التنظيم لم تكن يوماً أولوية للنظام السوري. وهو لم يجيّش قوات وعتادا لمواجهته الا عندما شكل تهديدا مباشراً لمصالحه الخاصة. فعندما كان هذا التنظيم يراعي مصالح النظام، كانت قوات الاسد تكتفي بالتفرج عليه يضعف قوات المعارضة من غير أن تتدخل، وحتى كانت تساعده ضمناً. من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار النظام السوري شريكاً موثوقاً به ضد “داعش”. ففي أحسن الاحوال لن يحارب النظام “داعش” الا لتحقيق مصالحه الاستراتيجية الخاصة، ولن يتوانى عن التنسيق معه عندما تقتضي مصلحته ذلك أيضاً.
النهار
الأميركيون والصراع في سورية/ عدلي صادق
قبل نحو عامين، كتب الرئيس التنفيذي لمؤسسة أعمال الأمن القومي الأميركي، ستانلي ويس، مستعرضاً المحددات التي تحكم الموقف الأميركي من الصراع في سورية. والرجل ممن يكتبون في الصحف الدولية الكبرى، ويعلق على التطورات في القضايا الساخنة. خلاصة ما كتبه عن محددات واشنطن بشأن سورية، يفسر اقتراب الإدارة الأميركية من الوقوع في غواية السقوط الأخلاقي لموقفها من قضية الشعب السوري العادلة. في مقالته تلك، عرض خمسة محددات تحكم سلوك الإدارة حيال الصراع. أولها تتعلق بالإجابة على سؤال حول أي اللاعبين في الصراع، يمكن أن يلبي المصالح الأميركية؟ ويستطرد قائلاً في رسم تصرف الإدارة مع هؤلاء اللاعبين: لنعطهم دعماً معتبراً، مع وضعهم تحت الرقابة الدائمة التي لا غموض في تدابيرها، وجعلهم على بينة بأن دعمنا لهم مشروط بأن يقاتلوا ليس ضد النظام وحده، وإنما ضد الجهاديين والإيرانيين وحلفائهم.
المحدد الثاني: “أن نتذكر كون الخيانة هي، في الشرق الأوسط، رياضة معتادة”. لذا، على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لأن تكافئ، وأن تعاقب، إذ “في هذا الجزء من العالم، تُحترم الأفعال ذات المضاعفات والعواقب. لذا، إن بادر الصديق بالتوجه لمساندتنا؛ لا بأس من الترحيب به تحت إبطنا، على أن يعرف شيئاً مهماً، هو أنه لن يُعفى من الاختبار في كل حين”.
المحدد الثالث: “ليكن من المُسلم به، من جهتنا، أن أصدقاءنا موصولون بانتماءاتهم القبلية والدينية التي لا تفارقهم، ولا يفارقونها. فمن يتخطاها منهم، في اتجاهنا، يكون فعل ذلك متسرباً من شقوق الخصومة بين الطوائف. عندئذٍ، يقطع حدود انتمائه مضطراً. فالسُنة والشيعة يتعارضون، ويتأجج بينهم صراع يتغذى من عوامل معروفة وأخرى مستترة. وبالنتيجة، يأتي إلينا من هؤلاء ومن أولئك، مفرطون في العداء للطرف الآخر، على قاعدة عدو عدوي صديقي. وهذه قاعدة ليست سياسية، ولا أيديولوجية. لكننا، في هذه اللُجة، ننتقي حلفاءنا ونستفيد منهم، بل نطلق سباقاً بينهم، لكي نعلم أيهم الأجدى والأبرع والأصدق في دعمنا. وينبغي أن نولي اهتماماً أكبر بالقبائل والطوائف”.
ويدخل المحدد الرابع في السياسة، وفي خيارات أقطار الإقليم: “لنبذل أقصى الضغوط، لكي يكف السعوديون عن ضخ الدعم للمتطرفين من حركة التمرد على النظام. فإن كان هؤلاء يريدون إطاحة الأسد؛ لنقل لهم: استخدموا أتباعكم ووكلاءكم ودعمكم المالي، لإحباط ووقف الدعم الإيراني للنظام وحسب”.
وفي المُحدِد الخامس، يقول الرئيس التنفيذي لمؤسسة أعمال الأمن القومي الأميركي: “لنستمع إلى حلفائنا غير السوريين في المنطقة، وخصوصاً الإسرائيليين والأتراك واللبنانيين من خارج نفوذ حزب الله، لكي نعرف منهم بأي من السوريين نثق، وما أفضل السُبل للانخراط معهم في علاقة تعاون”. ويخلص الرجل إلى القول إن التزام الإدارة بهذه المحددات الخمسة سيجعل أميركا الرابحة في ذلك الصراع ذي المضامين الملتبسة.
بالنظر إلى ما كتبه ستانلي ويس، قبل نحو عامين (23/4/2013 في صحيفة “ذا وورلد بوست”)، يتبدى جلياً أن الولايات المتحدة ليست ذات قضية تتعلق بالحرية في سورية، بل على العكس، هي ذات منحى يعمق الآلام، ويتعمد إقصاء قضية الحرية وطيّ حقبة الاستبداد، وتأجيج النزاع الأهلي خدمة للمصالح الأميركية. ومعلوم أن النظام السوري الديكتاتوري أفاد الأميركيين في كل المناسبات، وحقق استقراراً أمنياً بإخراس الجبهات مع إسرائيل. بالتالي، لم تأت تصريحات جون كيري، أخيراً، عن تقبل فكرة بقاء بشار الأسد والتفاوض معه، إلا انعاسكاً لحقيقة الموقف الأميركي من الصراع منذ اندلع. وهذا هو أحد شواهد السقوط الأخلاقي للسياسة الأميركية في المنطقة، وهو نفسه الذي يجعل النصيحة تلو النصيحة، واجبة، بأن يتحاشى ولاة الأمور أي دور للأميركيين في نزاعات الإقليم.
العربي الجديد
كيري صورة تعثّر أوباما/ إيلـي فــواز
يبدو أن التناقض في المواقف هو سمّة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، على الأقلّ في نسختها الثانية. الكابوس السوري يلاحقه، الفوضى الليبية تقلقه، إسرائيل نتنياهو تزعجه، العرب يفقدونه صبره، العراق يكاد يضيع من أيدي الجميع، فيما داعش وإنْ خدمت مرحلياً سياسته التقاربية مع إيران بفرضها شريكاً في محاربة الإرهاب، إلا أنّ هذا الإرهاب ما زال بالرغم من ضربات التحالف متواجد في كوباني وصامد في تكريت إمام الجنرال قاسم سليماني وفرق الموت الشيعية التابعة له.
الرئيس الأميركي لا يريد أن يتعامل مع أي من هذه الملفات. يريد أن يلزّمها لسليماني “الفاتح”، لينتقل إلى الاتفاق النووي الذي يشغل الفترة الرئاسية المتبقية له. هذا الاتفاق الذي يظن أنّه سيخلّد اسمه في التاريخ إلى جانب كارتر كامب دايفيد، وريغن هزيمة الشيوعية، وكلينتون وادي عربة.
الرئيس الأميركي يريد أن ينتقل بسرعة إلى تلك الصورة – التي في أغلب الظنّ لن نراها- التي تجمعه والرئيس حسن روحاني في البيت الأبيض. لما لا؟ لكنّه يتعثر. يخسر أغلبية المقاعد النيابية، يُحاصَر في الداخل، تنتهي ولايته بشيء من العزلة التي يرفضها. تتناقض مواقفه، كيف لا وهو يرى المنطقة من خلال منظار إيران وحدها.
يقول شخصٌ شهد اجتماعاً للملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز مع أوباما الذي كان يشرح نظرته للمنطقة ودور إيران فيها، أن الملك فقد أعصابه وبدء بالصراخ أمام السخافات التي سمعها من قبل رئيس أقوى جمهورية في العالم، ما حدا ببعض الحاضرين من الجانب السعودي الاعتذار من الرئيس أوباما ووضع فورة الملك في خانة التعب الملمّ به.
يتعثّر الرئيس الأميركي وتتعثّر معه إدارته.
يقول أوباما إن الرئيس السوري بشار الأسد يقف عائقاً أمام مستقبل السوريين، ويضيف أن “على الأسد التنحّي من اجل الشعب السوري”. كان هذا عام 2011.
لم يتغيّر الأسد منذ ذلك الوقت. ما زالت أعداد القتلى المدنيين من ابرياء ضحايا قصف طائراته بالبراميل المتفجرة إلى ازدياد. وهو أصبح اكثر من أي وقت دمية في يد إيران. لم يربح معركة حاسمة واحدة قد تغيّر الأمور العسكرية لمصلحته، بل العكس هو الحاصل، وهناك ما هو أخطر، إذ ثبت تعامله مع داعش من خلال رجل الأعمال الكاثوليكي جورج حسواني الذي يتوسّط لشراء النفط لصالح دبابات نظام البعث الذي يقتل ابناءه. طبعاً لا شي تغيّر منذ تصريح اوباما إلا ازدياد المأساة وازدياد الحقن الطائفي في المنطقة، والتشرد والدمار والفوضى.
لا شيء تغيّر أبداً حتى يطل علينا وزير الخارجية الأميركي جون كيري ناطقاً باسم جبهة الممانعة، ووزيراً لسياساتها في المنطقة، ليعلن استعداد إدارته التفاوض مع الأسد من أجل حل سياسي.
تتعثر الإدارة، فيسارع الناطقون بإسم الخارجية إلى النفي. اصبح كيري بحاجة، كما البطريرك بشارة الراعي، بعد كل تصريح، إلى تصريح ثانٍ يفسر الاول.
المشكلة هنا ليست بالتناقض المذل لإدارة البيت الابيض، انما بالسياسة التي تتبعها، والتي بكل بساطة تسلم فيها المنطقة لإيران. فبقاء الاسد حسب سياسة البيت الابيض المتبعة افضل من بقاء داعش.
لنتذكر كيف تراجع اوباما عن ضرب الاسد، وبالمقابل عقد معه اتفاقاً من اجل التخلص من سلاحه الكيمياوي. وهلل لهذا الانتصار الديبلوماسي وكأن التخلص من السلاح الكيماوي مشكلة بحاجة الى حل، ليس الرجل الذي استعملها ضد الابرياء.
في الحقيقة بقاء الأسد هي حاجة ايرانية حتى لو هزمت داعش، وهذا تحديداً ما يريد قوله الوزير كيري.
المشكلة في تلك المقاربة الاميركية، او هذا التبنّي الأعمى لطموحات الجمهورية الاسلامية، تكمن في تعزيز داعش وجبهة النصرة والقاعدة سنّياً بمواجهة ايران وحزب الله وعلويي الأسد.
علينا الانتظار سنتين او أقل، حتى تضع الولايات الاميركية وراءها أضعف عهد عرفته داخلياً وخارجياً في تاريخها. لكن الانتظار سيجعل الارهاب يتفاقم عربياً وعالمياً، وسيقض مضاجع دولاً تظن انها بمنأى عنه، فيتحول الشرق الاوسط الى مسلخ يذبح فيه الناس على خلفية انتمائهم الديني
موقع لبنان ناو
“التفاوض مع الأسد” في مساومات أميركا وإيران/عبدالوهاب بدرخان
أخيراً حصلت «المفاجأة» المتوقعة دائماً. التفاوض مع بشار الاسد كان الورقة المستورة التي احتفظت بها واشنطن لاستخدامها في لحظة مناسبة لأميركا. ومع احتدام المواجهة بين الادارة والكونغرس، واقتراب المفاوضات النووية من «اتفاق جيّد» (الرواية الاوبامية) أو «سيئ للغاية» (رواية الجمهوريين الليكوديين)، استخرج جون كيري لائحة الرغبات الايرانية وأطلق بالون «التفاوض مع بشار الاسد» ليشتري به اي مساومة اضافية قد يأتي بها محمد جواد ظريف متذرعاً بأن «الاتفاق في خطر» ما دام الكونغرس يتأبط له شراً، ما يعني أن طهران مدعوة الى مجازفة واذا قررت ركوبها فلا بد أن يُدفع ثمنها مسبقاً. ومع أن كيري كان واضحاً، وهو رئيس الديبلوماسية الاميركية، إلا أن الناطقين باسم البيت الابيض والخارجية أصرّوا على أن سياسة بلادهم «لم تتغيّر»، محاولين الإيهام بأن الرأي العام الدولي لم يفهم جيداً تصريحات الوزير أو أنهم يعرفون أكثر من الوزير.
بين شرم الشيخ حيث أطلقت «قنبلة التفاوض مع الأسد» ضد الشعب السوري ولوزان حيث حطّ كيري لمتابعة التفاوض النووي، حصل شيء ما جعل واشنطن تعاود تأكيد أنها لن تتفاوض «اطلاقاً» مع الأسد. الأرجح أن الايرانيين لم يشتروا العرض بالصيغة التي اعتمدها كيري، اذ قال أنه سيكون «تفاوضاً على انتقال سياسي في سورية». ثم أن الأسد نفسه رفض ذلك العرض، رغم أنه ينتظره منذ أعوام، لأن «الانتقال» ليس على أجندته، وكل ما يقلّ عن استئناف العمل مع نظامه كما في السابق ليس موضع ترحيب من جانبه. صحيح أن اعلام النظام التقط عند الوزير الاميركي «اعترافاً بشرعية الاسد» بعدما دأبت واشنطن عــلى اعتـبـاره فاقداً للشرعية بسبب أعمال القـتل التي يتحمّل مسؤوليتها، إلا أن هذا الاعلام أظهر أيضاً مدى تعطّش النظام الى «شرعية» يدرك تماماً أنه خسرها جزئياً عندما أطلق النار على المتظاهرين سلمياً ثم خسرها كلياً بفعل جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها.
بالنسبة الى المراقبين كان مؤكداً أن إبداء الاستعداد للتفاوض مع الاسد، ولو «اضطراراً» هو رسالة تنازل موجهة الى الايرانيين في اطار المفاوضات النووية، لكن علنيتها أفقدت طهران إمكان المناورة بها واستخدامها. اذ أوحت للأسد نفسه بأن صفقة بشأنه في سياق الاتفاق النووي، ولا علم له بها، فهل بلغ التحادث الاميركي – الايراني ملف «الانتقال السياسي»؟ هذا ما يتوجّس منه الاسد، وبالتالي فإنه استشعر كأن تصريحات كيري بمثابة «هديّة» مسمومة أو مفخخة، قبل أن يتيقّن موقّتاً على الأقل بأن الأمر لا يعدو كونه سراباً. لكن الاسد سيستمر في انتظار «التفاوض» الذي يتمنّاه ويتوقّعه، ولعله غير مخطئ، فواشنطن تملأ الأجواء كلاماً في الأخلاقيات لكنها تتصرّف كالعادة وفقاً لمصالحها. والواقع أن لديها مصلحة حقيقية عند النظام تتعلّق تحديداً بمحاربة تنظيم «داعش». وعند جون برينان، مدير الـ «سي آي إي»، خبر أكثر يقيناً، اذ يشدد على الحفاظ على «الدولة» في سورية، و «الدولة» بالنسبة الى الاسد هي الأسد نفسه.
لذلك، وبسبب هذا الملف، كانت «مفاجأة» كيري حمّالة أوجه. أما لماذا كانت متوقعة فلأن واشنطن لم تُشعر حلفاءها ولا أصدقاءها في أي مرحلة بأنها حاسمة موقفها من الأسد، ولأن الأخير لم يتوقف عن ارسال اشارات الى عواصم مختلفة بأن الادارة الاميركية لا (ولم ولن) تتخلّى عنه. حتى أن أبرز مآخذ موسكو على دمشق أنها سلّمت معظم أوراقها الى روسيا لتخوض قضية النظام وتقاتل عنه في مجلس الأمن لكن رهانات الاسد كانت ولا تزال على اميركا، ورغم كل ما فعلته وتفعله ايران لإبقائه ونظامه فإن الاسد مقتنع بأنه لا يزال في منصبه لأن الاميركيين لم يتخذوا قراراً بإسقاطه، ويعود الفضل في ذلك، الى بوليصة التأمين الاسرائيلية التي حالت مراراً من دون اجتياز واشنطن نقطة اللاعودة كما كادت تفعل في ايلول (سبتمبر) 2013 رداً على استخدام الاسد السلاح الكيماوي ثم تراجعت مفضلة نزع سلاحه هذا على ضربه وزعزعة تماسكه. ومع كل قرية أو بلدة أو مدينة يدمّرها، مع كل مسعى الى حل سياسي يحبطه، كان الاسد يبقي عدّاد الضمان الاسرائيلي شغّالاً، لأن أي مؤشر الى نهاية الأزمة والحرب الداخلية يمثّل بالنسبة الى اسرائيل بداية عدٍّ عكسي لتداعيات هذه الأزمة عليها.
لعل أي رصد للتصريحات التي يقول فيها الاميركيون أو الايرانيون أن هناك «تقدماً» في المفاوضات النووية سيسجّل أن الايرانيين يستغلّون كل خطوة نحو الاتفاق بخطوات انفلاشية في الإقليم. وعلى رغم ما روّج عن «فشل» و «تعثر» للقاء كيري – ظريف في مسقط (منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2014)، فإنه أحدث تغييراً في نمط العلاقة بين الرجلين وأصبحا يعملان بثقة ونجاعة، بل إنه انعكس ايجابياً على المفاوضات. ومنذ غداة هذا اللقاء الذي قيل أنه تركّز على «الشقّ السياسي الاقليمي» من التفاوض، راحت طهران تتصرّف وكأن ضوءاً أخضر أُشعل لها حيثما تشاء، ولم يعد عسكريوها وسياسيّوها يتردّدون في التصريح بما حرصوا طوال أعوام على كتمانه بشأن أجندة التمدّد والنفوذ الاقليميين. في المقابل ارتفع اميركياً منسوب الصمت والتعامي والتجاهل والإنكار حيال كل الانتهاكات الايرانية. وبالعودة الى التصريحات الرسمية في تلك الفترة، يتبيّن أن أحداً في واشنطن يعرف – بل لا يريد أن يعرف – أن ايران توجّه الحوثيين وتسلّحهم منذ عقدين ونيّف، أو أن ايران تلعب بورقة تنظيم «القاعدة» منذ الغزو الاميركي للعراق وأنها واكبت عن كثب نشأة تنظيم «داعش» واستغلّته ذهاباً لمصلحة نظام الاسد في ضرب معارضيه وإياباً في تثبيت احتلالها للعراق. ولا أحد في واشنطن سمع مستشاري علي خامنئي وعسكرييه يتفاخرون بأن ايران باتت تسيطر على القرار في أربع عواصم عربية. ولم يدرك أحد في واشنطن خطورة ما يجري في العراق الآن إلا بعدما جهر رئيس الأركان بأن هناك ما يقلق.
هناك أمر من اثنين: إما أن محادثات كيري – ظريف كانت مساومات، أو أن الأميركي أبلغ الايراني أنه سيغضّ النظر بشرط أن يحصل على تنازلات في الاتفاق النووي. لكن النتيجة واحدة: الايراني يلتهم المكاسب ويقتّر في التنازل. وكان نهج المساومة بدأ قبل أعوام من المفاوضات الحالية بتفاهمات على تقاسم النفوذ في العراق، وعلى منع «حزب الله» من توتير الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، وعلى عدم التشويش على الانسحاب الاميركي من ايران. وما لبث الاتفاق المرحلي (تشرين الثاني / نوفمبر 2013)، أن قايض تجميد تخصيب اليورانيوم برفع جزئي للعقوبات، والمؤكّد أن «بازار» المقايضات مفتوح الآن، فإيران تريد الاتفاق وتدرك أنها مجبرة على تنازلات جوهرية للخلاص من العقوبات، لكنها تقايض ما لا تملكه نووياً (بل ما يظن الغربيون أو يخشون أنها تملكه) لقاء ما يشبه صكوك اعتراف بنفوذها: نسبة التخصيب، أجهزة الطرد المركزي، المنشآت النووية، مفاعل «أراك»، الرقابة والتفتيش… كل ذلك في المساومة لقاء بقاء الاسد وتمكين الحوثي و»بغداد عاصمة الامبراطورية» وانتخاب مرشح «حزب الله» للرئاسة اللبنانية وتلبية مطالب المعارضة في البحرين…
وبموازاة المساومة في المفاوضات أدارت ايران لعبة خطيرة في العراق اذ تدخّلت مباشرة في «الحرب على داعش» من دون تنسيق أو تشاور مع «التحالف»، لكنها حصلت على «عدم ممانعة» اميركية من خلال حكومة بغداد. وإذ لم يتجشم الاميركيون عناء النقد أو النقض أو تصويب الخطط، تكون طهران قد أخطرتهم عملياً بأن السيناريو نفسه مرشح للتكرار في مناطق «داعش» في سورية، وبمشاركة قوات النظام. وطالما أن ايران تقوم بالعمل الذي لا تريد اميركا تلويث أيديها به فليس لها أن تعترض، خصوصاً أن «التحالف» لا يملك قوات برّية، أو بالأحرى ان ايران اتخذت كل الاحتياطات لمنع وجود أي قوات لـ «التحالف» على الأرض. اذاً، فـ «التفاوض» المطلوب مع الاسد لا بدّ أن يبدأ من هنا، وليس من «الانتقال السياسي».
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
صكّ غفران أميركي للأسد/ ماجد عبد الهادي
لا إحصاءات دقيقة بعد عن حجم الكارثة التي ألحقها نظام حكم بشار الأسد بسورية وشعبها، على مدى أربع سنوات، استخدم فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة، ضد المدن والقرى الآهلة بالسكان. ولا معطيات قاطعة، أيضاً، عن عدد السوريين الذين ذبحتهم قوى التطرف والإرهاب القادمة إلى البلاد، في الغالب الأعم، من وراء الحدود. ولا أفق واقعياً، حتى الآن، كذلك، لأي كلام عن وقف آلة الموت عند حدودها الحالية المروعة، إنْ عبر ما يسمى الانتقال السياسي للسلطة، أو عبر التغيير القسري بالقوة الجبرية. لكن المعلومات التي تدفقت من وراء أسوار الظلم العالية طوال 1460 يوماً مضت، تكفي للتيقن من أن جرائم جيش الأسد وشبيحته تفوق نسبياً، وبأضعاف مضاعفة، ما ارتكبته الفصائل الإرهابية المسلحة، باختلاف مسمياتها. ولئن جازت المقارنة بين الطرفين المجرمين، وفق المتاح، من أخبار جرائمهما الموثقة، أو غير المشكوك في صحتها، فإن السلطة الحاكمة، ارتكبت، ولا تزال، ما يعتبرها كثيرون محرقة مستمرة، قتلت فيها وجرحت واعتقلت مئات ألوف السوريين، وشردت ملايين سواهم، مستخدمة طائرات حربية وصواريخ ومدافع ثقيلة، وأسلحة أخرى محرمة دولياً، أهمها الكيميائي. بينما اقترف تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم “داعش”، وبدرجة أقل جبهة النصرة، ومنظمات أخرى متطرفة، جرائم قتل وحشية، بحق أفراد، ومجموعات عرقية ودينية، تقدر حصيلة ضحاياها بالعشرات، أو بالمئات في أسوأ الأحوال.
هنا دولة كانت قوية، قبل أن تتحول، في سبيل القضاء على معارضيها إلى فرق موت. وثمة، في الجغرافيا نفسها، فرق موت كانت قد تشكلت من شذاذ آفاق، قبل أن تسمي نفسها دولة. الأولى تقتل الناس بالجملة، فيلتقط الضحايا صور موتهم، بكاميرات هواتفهم البسيطة، لينشروها، على الملأ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. والثانية تقتل بشكل محسوب، لتصور الجريمة، بأحدث التقنيات الرقمية (HD)، بل بإخراج هوليوودي، لتنشر الرعب، على الملأ، باعتباره من وسائل انتصارها. وإذ يتغافل العالم، أو قل المجتمع الدولي، عن تشابه الجوهر الفاشي، في كلا الحالين، فإنه يتورط، عن سابق سوء نية، على الأرجح، في الانسياق وراء خدعة الاختلاف الصوري، لنراه، وهو الذي صمت على المذابح الجماعية المروعة طوال أربع سنوات، يستنفر قوته العاتية، للرد على الجرائم الفردية البشعة التي توثق ذبح بضعة أشخاص أبرياء.
وإزاء هذا المشهد الكارثي القائم الآن في سورية، لا يسألنّ أحد لماذا عجز التحالف الدولي عن القضاء على تنظيم الدولة، بعد ستة شهور من إعلان الحرب عليه. كما لا يسألن أحد، لماذا ترفض أميركا اقتراح حلفائها في المنطقة توسيع الحرب، لتستهدف نظام الأسد، ذلك أن كل التحليلات والرؤى الباحثة عن جواب عقلاني هادئ، يقوم على براءة علوم السياسة، ونظافتها، ستسقط أو تنكفئ، ليملأ فراغ غيابها جواب آخر، يركن إلى نظرية المؤامرة، وحدها، ودون غيرها، ليقول، باختصار، إن اختراع من يوصفون بالجهاديين، أو الإرهابيين الإسلاميين، كان طوق نجاة للعصابة الحاكمة في سورية، ومخرجاً للغرب كذلك، من مأزق تخاذله المشين، أمام واحدة من أبشع حروب الإبادة بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أن التخاذل، أو الصمت، سيصبح شيئاً من الماضي، حين تتزامن الذكرى السنوية الرابعة للثورة السورية، مع مواقف أميركية جديدة، تعزز نظرية المؤامرة أكثر فأكثر، لأنها تنبئ بمنح النظام السوري صك غفران، وهي مواقف كان من أبرز تعبيراتها الأولية حديث وزير الخارجية، جون كيري، عن إمكانية الحوار مع الأسد، وقول مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان، إن الولايات المتحدة لا تريد انهيار مؤسسات الدولة السورية، لكي لا تسيطر الجماعات المتطرفة على دمشق. وكأن العاصمة السورية كانت، في ما سبق ولا تزال، بأيدي حماة البيئة، أو تلاميذ الأم تيريزا والمهاتما غاندي.
العربي الجديد
عندما تغيب البلاغة والسياسة/ هشام ملحم
وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليس معروفا ببلاغته. صحيح أنه أمضى نحو 30 سنة عضواً أو رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، الامر الذي يجب ان يعطيه خبرة جيدة في العلاقات الدولية، الا ان تصريحاته تتسم أحياناً بالغموض وتحليلاته ببعض التمنيات. في أكثر من مرة كان كيري “يناشد” الرئيس الاسد التفاوض بحسن نية، دونما إدراك منه ان رجلا مثل الاسد سيفسر تصريحاته الوفاقية بأنها “استرضائية”. تصريحاته الأخيرة عن ضرورة “التفاوض” مع الاسد لم تعكس تحولاً نوعياً أو جذرياً في مواقف واشنطن من الاسد ومستقبله، حيث لا يزال المسؤولون يقولون إنه لا مكان للاسد في مستقبل سوريا، بعد “الفترة الانتقالية” التي يفترض ان يتم التوصل اليها في مفاوضات بين المعارضة وممثلين للنظام. كيري لم يدرك حتى معنى تزامن تصريحه مع الذكرى الرابعة لبدء الكابوس السوري. أو كيف سيفسره “شركاء” واشنطن في الحرب على “داعش”، والمعارضة السورية “المعتدلة”.
لكن تصريحات كيري عكست حال الارتباك التي ميزت تعامل الرئيس أوباما مع المأساة السورية، ذلك ان واشنطن لا تفتقر الى سياسة ثابتة وجدية وواضحة حيال الحرب السورية فحسب – الذين يستخفون بهذه السياسة يقولون إن الثابت الوحيد هو عدم وضوحها – بل انها تفتقر أيضاً الى تفسير واضح. قبل اللغط الذي تسبب به كيري، ساهم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إي” جون برينان في زيادة الغموض والارتباك وتقاطع الرسائل حين قال إن آخر ما تريده واشنطن هو سقوط الاسد وانهيار مؤسسات الدولة السورية وزحف “داعش” الى دمشق، وكأن الاسد بات مرادفاً للدولة السورية. تصريحات برينان وكيري أثارت استياء الأصدقاء وعمقت شكوكهم، بينما استخف بها الأسد.
منذ البداية كان الرئيس أوباما ومساعدوه مقتنعين بأن عاصفة “الربيع العربي” ستقتلع الاسد، كما اقتلعت الرئيسين التونسي والمصري بن علي ومبارك. ما هو اسوأ من الارتباك هو عدم صدقية التعهدات لتوفير الدعم العسكري الفعال للمعارضة، ناهيك بغياب الجدية في تطبيق المطالبة برحيل الاسد أو معاقبته على اختراقه خطوطاً حمراً اقترحها اوباما نفسه. كان هناك تسليح خجول وتدريب محدود. الآن ومع بدء السنة الخامسة يتحدثون عن تدريب خمسة آلاف رجل خلال سنة لمواجهة… “داعش”، وطبعا هم يواصلون “دراسة” جدوى اقامة المناطق الآمنة وحظر الطيران. الرئيس الاميركي يبرر صمته وعجزه أحياناً بالادعاء ان البعض يريد منه غزو سوريا، وهذا غير صحيح، أو التلويح ببعبع “داعش”، أو ببعبع الفوضى الجارفة. هاجس اوباما الآن هو اخراج “داعش” من العراق، واحتواء الحرب السورية، وهذا يتطلب تعاوناً غير مباشر مع ايران في العراق، وهدنة معها في سوريا.
النهار
“هفوة” كيري في خلاصة الضجة الواسعة: “استطلاع” يؤكد عدم القبول باستمرار الأسد/ روزانا بومنصف
اذا كان من ايجابية او فائدة معينة لما بدا في نهاية الامر، وفي ظل كم هائل من التوضيحات، انه ” هفوة” ارتكبها وزير الخارجية جون كيري بقوله انه سيتعين على الولايات المتحدة ان تتفاوض مع الرئيس السوري بشار الاسد من اجل انهاء الحرب في سوريا، فهي ان هذه “الهفوة” اثارت ردود فعل في اتجاهات كثيرة يمكن اعتبارها بمثابة استطلاع عالمي للرأي يفيد في خلاصته بعدم امكان القبول بشخص الاسد او بقبول امكان استمراره. كما ان هناك موقفا دوليا واقليميا ليس على استعداد للتهاون مع اي اتجاه من هذا النوع وهو سيتصدى له في حال وروده. وتاليا رب ضارة نافعة من حيث ان الضجة الاعلامية والسياسية التي حصلت على كلام كيري من شأنها ان توجه رسالة واضحة في اتجاهات دولية واقليمية وحتى داخلية سورية بان خيارا مماثلا اي اعادة تعويم الاسد ليس خيارا مقبولا. ولعل الاسد يضطر الى اعادة حساباته بعدما رفع سقف مواقفه بعد الكلام الديبلوماسي الاميركي. ولم تخف مصادر ديبلوماسية اعتقادها منذ اطلاق كيري موقفه ان هذا الاخير ارتكب هفوة تمثلت في انه تلفظ باسم الاسد بالتحديد شريكا في التفاوض في الوقت الذي جلس ممثلون عنه الى الطاولة في جنيف 2 ولا تزال الولايات المتحدة تقول بحل سياسي يشترك فيه جميع الافرقاء السوريين ويعني ذلك ان يكون النظام السوري مشتركا في هذا الحل. فهذه التصورات او الخطط للحلول للوضع السوري لم تثر ردود فعل على رغم سريانها منذ بعض الوقت ما عزز الاقتناع بان تسمية وزير الخارجية الاميركي الاسد هو ما اثار رد فعل كبيرا جنبا الى جنب مع عدم تكرار كيري المقولة التي دأب على تكرارها المسؤولون الاميركيون من ان الاسد فقد شرعيته، مما اضطر الخارجية الاميركية نفسها اي المؤسسة التي يرأسها كيري بالذات الى توضيح كلامه مرارا وتكرارا عبر التأكيد انه لا مكان للاسد في مستقبل سوريا ولا تفاوض معه شخصيا. وهذه النقطة بالذات اي تولي الخارجية الايضاحات اللازمة تنفي وجود خلفية لكلامه او توزيع للادوار في الادارة الاميركية .اذ ان ثمة اسبابا واقعية وموضوعية لا تسمح بامكان التعويل على تغيير في السياسة الاميركية ازاء سوريا في هذه المرحلة من النوع الذي اثار مخاوف كبيرة اطلقها كلام كيري. ويتقدم هذه الاسباب الازمة الحقيقية والكبيرة التي يتواجه فيها الرئيس الاميركي باراك اوباما مع الكونغرس الاميركي في مسألة الاتفاق النووي مع ايران. فالازمة في اوجها بين الجانبين من خلال الرسالة التي وجهها اعضاء جمهوريون في الكونغرس الى ايران في محاولة لتعطيل الوصول الى اتفاق نووي مع ادارة اوباما في سابقة اثارت ردودا اميركية قوية ازاء تجاوز الادارة الاميركية بالشكل الذي حصل في مقابل توجه الرئيس الاميركي الى مجلس الامن من اجل رفع العقوبات المحتمل عن ايران على نحو يضع الكونغرس الاميركي امام وضع صعب وهو ما يمكن ان يثير بدوره ردود فعل قوية لما تمثله الخطوة من لجوء الادارة الى مؤسسة من غير المؤسسات الاميركية وان يكن مقرها في نيويورك من اجل تجاوز ارادة الشعب الاميركي. وهذه المسألة وحدها تنذر بتصاعد شديد للامور في واشنطن على نحو لا يسمح بفتح جبهة ثانية او مسألة خلافية جديدة في حال صح ان هناك تغييرا في موقف الادارة الاميركية من شخص بشار الاسد. اذ لا الكونغرس ولا الاعلام الاميركي يمكن ان يتساهلا ازاء تغيير من هذا النوع بما يعنيه من انقلاب في الموقف من الرئيس السوري ولا يعتقد انه من السهولة بمكان تغيير الموقف من الاسد.
لكن ينبغي الاقرار بان ثمة مشككين كثيرين بالسياسة الاميركية في المنطقة وهناك انعدام كامل للثقة بحيث تستمر الخشية من ان يضمر كلام كيري او يستبطن قطبة مخفية ما بناء على سجل من التقاعس الاميركي خلال الاربع سنوات الماضية من عمر الثورة السورية في تقديم موقف حاسم وحازم من النظام. لا بل ان مثار التساؤل وسط كل هذه الضجة التي رافقت كلام كيري في الايام القليلة الماضية يتناول الاسباب التي دفعت عواصم حليفة للولايات المتحدة كبريطانيا وفرنسا وتركيا الى ان تطلق مواقف قوية تعلن فيها رفضها التفاوض مع الاسد او ان يكون جزءا من مستقبل سوريا كأنها على النقيض من الموقف الاميركي في الوقت الذي يفترض ان هذه العواصم مطلعة على السياسة الاميركية وموقفها ازاء الملف السوري. فرد الفعل الذي ابدته هذه العواصم قبل ان يعود وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس ويعلن ان السياسة الاميركية لم تتغير من موضوع عدم بقاء الاسد توحي وكأن هذه العواصم فوجئت وابدت ردة فعل فورية بحيث لم تنظر للتحقق من صحة او دقة ما قصده رئيس الديبلوماسية الاميركية، وما اذا كان موقفه مدروسا او مجرد خطأ في التعبير من اجل ان تبني على الشيء مقتضاه، ما لم تعتبر ان الموقف المعلن هو بالون اختبار يسعى الى رصد ردود الفعل على احتمال من هذا النوع، فقامت هي بابداء رد الفعل المناسب بالنسبة اليها على رغم ان هذه الدول يفترض ان تكون حليفة وتتشاور في اي موقف وتعلن موقفا موحدا . فما حصل لا يظهر ذلك على الاطلاق بل على العكس.
النهار
أميركا البراغماتية هل تبيع سوريا لإيران كما باعت لبنان لسوريا حافظ الأسد؟/ اميل خوري
يرى سفير سابق للبنان أن التصريحات المتبادلة بين أميركا وإيران قبل توقيع الاتفاق النووي شيء وبعد توقيعه شيء آخر. فأميركا معروفة بممارسة السياسة البراغماتية التي لا أصدقاء دائمين فيها ولا أعداء دائمين إنما مصالح دائمة، ما بجعل هؤلاء لا يتفاجأون بمواقفها التي تمليها عليها هذه المصالح، خصوصاً أن لها سوابق كثيرة في هذا المجال، سواء في الماضي القريب أو البعيد. لقد باعت أميركا في الماضي حلفاءها الأكراد في العراق لحكم صدام حسين، ثم باعتهم للحكم في إيران، وباعت حكم الرئيس كميل شمعون في آخر ولايته عندما كانت في صراع مع بريطانيا على النفوذ في المنطقة وعلى أثر سقوط “حلف بغداد”، للرئيس جمال عبد الناصر خصمها السياسي اللدود وحليف الاتحاد السوفياتي آنذاك، واتفقت معه على انتخاب اللواء فؤاد شهاب خصم شمعون السياسي رئيساً للجمهورية. وباعت أميركا لبنان لسوريا بعد حرب مدمرة دامت 15 سنة ووضعته تحت الوصاية السورية مدة 30 عاماً خلافاً لما نص عليه اتفاق الطائف، وكان كلما طالب مسؤول لبناني أميركا بأن تساعد على انسحاب القوات السورية من لبنان يأتي الجواب أن هذا الانسحاب قد يؤثّر على حكم الرئيس حافظ الأسد ويقوّي شوكة “الأخوان المسلمين”…
وعندما استمرت الحرب سجالاً في لبنان بين ما كان يسمى “المنطقة الشرقية” و”المنطقة الغربية”، كانت سوريا حافظ الأسد جاهزة للاتفاق مع أميركا على صفقة الحل في لبنان، والتي تقضي بوقف الاقتتال فيه بتدخل عسكري سوري واخراج المسلحين الفلسطينيين وعلى رأسهم ياسر عرفات من لبنان الى تونس لجعل هذه الصفقة مقبولة من اسرائيل، وجعل زعماء مسيحيين يقبلون بذلك أيضاً بعدما وضعتهم بين خيارين: إما مواجهة هزيمة عسكرية أمام الفصائل الفلسطينية وحلفائها من اللبنانيين، وإما القبول بدخول الجيش السوري الى لبنان لتدارك هذه الهزيمة. فلا شيء يمنع أميركا إذاً من أن تكرّر الأمر نفسه في سوريا بعد حرب دخلت عامها الخامس، ولا خصوم النظام انتصروا عليه، ولا النظام انتصر على خصومه، بحيث بات على السوريين أن يواجهوا أحد خيارين: إما استمرار حرب الدمار والتشريد وخطر المجاعة بالحصار، وإما القبول بحل سياسي يرضى به الموالون والمعارضون كي يتمثّلوا في حكومة “وحدة وطنية” لتكون قادرة على التصدي لتنظيم “داعش” والارهاب على اختلاف أشكاله وهوياته.
والسؤال المطروح هو: هل تطلب أميركا، بالاتفاق مع روسيا وبالتفاهم مع السعودية، من إيران المساعدة على بلوغ هذا الحل لأنها تمتلك القدرة على ذلك وتستطيع أن تأتي بحكم بديل من حكم الرئيس بشار الأسد الذي لا يعود أمامه خيار سوى التخلي عن السلطة عندما ترفع إيران وروسيا الغطاء عنه، وأن تحل مشكلة سلاح “حزب الله” إذ لا تعود له وظيفة؟ فاذا تم التوصل الى ذلك، فان إيران تصبح هي الوصية غير المباشرة على سوريا كما أصبحت سوريا وصية على لبنان، ويصير عندئذ في الامكان التعاون مع التحالف الدولي لضرب الارهاب في المنطقة قبل ان يصبح داخل دول الغرب، أو ان يقوم تحالف عربي واسلامي يساند التحالف الدولي في ضربه والقضاء عليه بسرعة كي تنعم دول المنطقة بالأمن والاستقرار ويتحقق السلام الشامل مع اسرائيل. هذا اذا تم التوصل الى توقيع اتفاق حول الملف النووي مع إيران وحظي هذا الاتفاق بموافقة مجلس الأمن الدولي كضامن لالتزام تنفيذه.
أما اذا لم يتم التوصل الى توقيع هذا الاتفاق لسبب من الأسباب، وإن كان هذا مستبعداً، فان أحداً لا يعرف ماذا ستكون عليه صورة الوضع في المنطقة، وهل يصبح التقسيم هو الحل والنظام الفيديرالي هو الذي يبقي على التعايش بين مكوّنات كل دولة، ويكون هذا النظام هو العلاج للخروج من حروب الأديان والعرقيات. وهو ما ترتاح اليه اسرائيل لا بل تعمل له منذ قيامها لتبقى هي الأقوى في المنطقة والمطمئنة الى وجودها. فلا بد إذاً من انتظار نتائج المفاوضات حول الملف النووي الايراني لرسم خريطة طريق للمنطقة، أو انتظار فشل هذه المفاوضات، وإن كان مستبعداً، لتكون للمنطقة خريطة طريق أخرى.
ومن الآن الى أن تنتهي فترة الانتظار، وهي قصيرة، تبقى المواقف متقلبة والتصريحات متضاربة لأنها من “عدة الشغل” خلال المفاوضات.
النهار
ثقة معدومة بباراك أوباما/ علي حماده
بالرغم من قيام وزارة الخارجية الاميركية بـ”تصويب” تصريحات وزير الخارجية جون كيري التي اعلن فيها قبل ايام ان الولايات المتحدة ستكون مضطرة الى التفاوض مع بشار الاسد من أجل التوصل الى تسوية سياسية، وتبعتها تصريحات لمسؤولين آخرين في واشنطن”. تعيد تأكيد الموقف الاميركي المعلن ان لا مكان لبشار الاسد في سوريا المستقبلية، فإن صدقية الادارة الاميركية الحالية ببلوغها مستويات متدنية لا سيما في ما يتعلق بخياراتها الجديدة في الشرق الاوسط حالت دون اخذ “التصويبات” الاستلحاقية على محمل الجد. ففي المنطقة شعور راسخ بأن الرئيس الاميركي باراك اوباما ذهب بعيدا في مسار التقارب، لا بل التحالف مع ايران، وانه منع اسقاط بشار الاسد، وساهم في شكل غير مباشر في نشوء “داعش” ونموها على النحو الذي حصل، من خلال تركه نظام بشار الاسد بالدعم اللامحدود من ايران وروسيا يمعن في ذبح السوريين، وفي مقدمهم قوى المعارضة السلمية، ثم قوى المعارضة المعتدلة والمتنوعة المسلحة التي كانت تتألف في معظمها من الضباط والجنود المنشقين تحت مسمى “الجيش السوري الحر”، ثم منعه طوال عامين و نيف الدول العربية الداعمة للثورة من تسليح “الجيش السوري الحر” بسلاح نوعي يغير في موازين القوى على الارض. وقد اعترف اكثر من مسؤول اميركي سابق بينهم وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ومعها السفير في سوريا ابان انطلاق الثورة ان الرئيس أوباما ومعه الفريق القريب منه حال دون حسم الوضع في سوريا في وقت مبكر، مما منح الاسد والايرانيين (عبر رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي) فسحة من الوقت لاطلاق آلاف الاسلاميين من سجون سوريا والعراق، وتأمين خروجهم الى مناطق سيطرة المعارضة، وتحاشي الاصطدام بهم في مرحلة قيامهم بتنظيم صفوفهم، مما منح تنظيم “داعش ” وقتا ومساحة للنمو في وقت كان النظام يقاتل “الجيش السوري الحر” بلا هوادة، ويمعن في قتل المعارضين السياسيين، و يهجر ملايين المواطنين من فئات محددة من بيوتهم وبلداتهم واحيائهم لقلب المعادلات الديموغرافية.
لا احد اقتنع بـ” التصويب” الاميركي. بل ان جميع العواصم العربية المعنية مقتنعة بان الرئيس الاميركي مصمم على التوصل الى اتفاق على البرنامج النووي الايراني في نهاية الشهر الحالي، واكثر من ذلك انه مقتنع بضرورة اقامة حلف اميركي – ايراني. وهو مستعد من اجل ذلك لترك السوريين يذبحون على ايدي بشار الاسد و”حزب الله” ومجموعة الميليشيات التابعة لايران، فضلا عن انه يترك عشرات القرى والبلدات السنية في العراق تتعرض للحرق والتدمير واهلها للتنكيل والقتل والتهجير على ايدي ميليشيات “الحشد الشعبي ” الايرانية الإمرة، وكل ذلك بذريعة محاربة الارهاب وتنظيم “داعش”. والحق ان ملايين العرب في العراق وسوريا و لبنان لا يرون فرقا بين ارهاب “داعش” وارهاب “الحشد الشعبي ” و”حزب الله” ونظام بشار الاسد و”الحرس الثوري”، ولذلك تنعدم الثقة باوباما.
النهار
سوريا.. غطاء كيري قصير!/ طارق الحميد
سارعت واشنطن لتهدئة عاصفة الانتقادات الدولية بعد تصريحات وزير خارجيتها جون كيري حول استعداد بلاده للتفاوض مع المجرم بشار الأسد، مؤكدة أن كيري لم يقصد التفاوض مع الأسد نفسه، و«هذا ما لم يحدث ولن يحدث على الإطلاق».
وأكدت المتحدثة باسم الخارجية أن واشنطن لا تزال تعتقد أنه «لا يوجد مستقبل للأسد في سوريا».
إلا أن القصة هنا ليست في تصريحات كيري نفسه، أو محاولات التهدئة الأميركية هذه، وإنما في بعض أنصار الأسد الذين اعتقدوا أن تصريحات كيري هذه جاءت بمثابة غطاء لهم ليقوموا بإعادة تموضعهم إعلاميا، وتحديدا بالإعلام العربي، إذ يحاولون استغلال تصريح كيري من أجل الدفع لإعادة تأهيل الأسد، ورغم جرائمه في حق السوريين، وسوريا، والمنطقة! ويفعل هؤلاء ذلك من باب أنه إذا قالت أميركا فاسمعوا! وهذا هو العبث بعينه، خصوصا أن أنصار الأسد لم يعوا جيدا أن غطاء كيري قصير، ولا يستر، مثله مثل الغطاء الإيراني بالمنطقة!
المعيب في قصة التبرير للأسد، ومحاولة الدفاع عنه، من قبل البعض، سواء لأسباب طائفية، أو لقصر نظر، أنه أمر لا إنساني، ولا أخلاقي، ولا سياسي، ولا أمني، ولمن يحاولون ممارسة العقلانية المزيفة نقول إنه نعم في السياسة أخلاقيات، وخصوصا عندما يكون عدد القتلى من السوريين قد فاق مائتَي ألف قتيل، هذا عدا عن ملايين المشردين، ودمار سوريا ككل، وخصوصا أن الثورة السورية بدأت سلمية، ولم تتسلح إلا بعد كل جرائم الأسد، وآلته الوحشية.
ومن المعيب أن يتم الدفاع عن الأسد بينما الميليشيات الشيعية الإيرانية، من العراق وإيران وحزب الله في لبنان، تعربد في سوريا، فكيف تدين من يدافع عن «داعش»، ولا تدين الأسد، وأنصاره، وهم مثل «داعش» وأسوأ؟
الأسد، وإن لم تقُم ثورة في سوريا، كان يستحق أن يسقط، إذ أَسَرَ سوريا بيد إيران، وحوّلها إلى معسكر للتخريب، ودعم الإرهاب. تاجر بشباب السنّة حين كان يسهّل مرورهم للقتال في العراق، والتدريب في إيران، وهنا نتحدث عن تنظيم القاعدة تحديدا. وتاجر بلبنان والفلسطينيين أيما متاجرة، وشق الصف العربي مرارا، تخريبا وإرهابا.
والأسد هو من أطلق سراح قيادات «داعش» من سجونه، مثله مثل حكومة نوري المالكي التي أطلقت قيادات «داعش» أيضا، وللأسف استغرق المجتمع الدولي أعواما حتى يدرك خطورة المالكي، فهل يحتاج البعض الآن إلى نفس الفترة ليدركوا خطورة الأسد؟ خصوصا أن كثرا ممن يتشدقون بالدفاع عن الأقليات بمنطقتنا لم يُدينوا جرائم حكومة المالكي الطائفية، ناهيك بهذا الصمت المطبق الآن حيال أميركا، والسبب هو المفاوضات الإيرانية الأميركية، إذ بلع حسن نصر الله لسانه، وكل أتباع إيران بالمنطقة!
وعليه فإن غطاء كيري قصير، والأقصر منه الغطاء الطائفي، ومن المعيب، بل جريمة، محاولة التبرير للأسد، وإن كان البعض حريصا فعلا على سوريا فيجب أن يطالب برحيل الأسد أوّلا، وليس التبرير له.
إعلامي و كاتب سعودي ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
لماذا نستغرب تصريحات كيري؟/ عثمان ميرغني
أستغرب من الذين استغربوا تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عن ضرورة الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد، لدفعه إلى التفاوض لضمان انتقال سياسي وإنهاء الحرب. فالكتابة كانت على الحائط، كما يقولون، والمؤشرات كانت كثيرة وكثيرة منذ فترة طويلة، لكننا تعامينا عنها أو لم نرد تصديقها. فعلى مدى 4 أعوام هي عمر الأزمة، بقي الغموض هو عنوان الاستراتيجيات الغربية، وبالذات في واشنطن. لم يحدث تدخل حاسم لإقصاء النظام وإنهاء المأساة التي لحقت بسوريا وشعبها، وترددت إدارة أوباما طويلا في تقديم الدعم العسكري، رغم إلحاح الأصدقاء، ومناشدات المعارضة.
عندما دخل «داعش» على الخط بدأت المواقف تتضح أكثر، على الأقل في واشنطن، حيث أعلن أن إدارة أوباما قررت إعطاء الأولوية لمحاربة «الدولة الإسلامية» المزعومة، وتأجيل النظر في مسألة مستقبل نظام الأسد. سكتت الإدارة عن تصريحاتها في بدايات الأزمة عن أنه لا بد من تنحي الأسد ونظامه، وهي تصريحات لم تجد ترجمة في أرض الواقع على أي حال، وأخذت الأمور منحى آخر نحو «تفاهم» غير مباشر مع دمشق ضد إرهاب «داعش». كان جليا أن غارات التحالف على مواقع الدواعش تخفف الضغط أيضا عن قوات النظام، وقيل إن ذلك سيطلق يد هذه القوات لكي تصعد هجماتها على مواقع «الدولة الإسلامية» المزعومة والحركات الإسلامية المتطرفة الأخرى. وقتها احتفى النظام السوري بتلك الغارات معتبرا أنه والولايات المتحدة باتا في خندق واحد في الحرب على الإرهابيين، لكن النظام لم يكن يفرق بالطبع بين الفصائل التي تحارب ضده، ولا يرى معارضة معتدلة أو متطرفة، بل يدرجها كلها في ما يصفه بحربه على «الإرهابيين». وهكذا استخدم تلك «الانفراجة» لكي يكثف غارات «البراميل المتفجرة» ويستعيد مواقع كثيرة من المعارضة، بينما كانت طائرات التحالف تشن الغارات على مواقع «داعش».
الاستراتيجية الأميركية في التركيز على دحر «داعش»، وتأجيل موضوع مستقبل نظام الأسد، أثارت كما اتضح لاحقا خلافات داخل إدارة أوباما أدت إلى استقالة أو إقالة وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل. فقد تسرب لوسائل الإعلام الأميركية أن هيغل كتب رسالة إلى البيت الأبيض انتقد فيها ما رآه غموضا في موقف الإدارة إزاء مستقبل نظام الأسد مطالبا بموقف أكثر وضوحا لجهة تنحيته، ومحذرا، في الوقت ذاته، من أن التسويف وترحيل الأزمة السورية سيضر بالاستراتيجية الرامية إلى دحر «داعش». وكان ذلك بالطبع مؤشرا آخر على أن واشنطن باتت تتعامل مع بقاء نظام الأسد كخيار للمستقبل المنظور لمنع وقوع سوريا في أيدي الدواعش.
هذه الاستراتيجية لم تكن موقف واشنطن وحدها، بل تبنتها أطراف أخرى ومراكز أبحاث غربية قريبة من دوائر صنع القرار. فقد أثيرت ضجة واسعة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما سربت خلاصة تقرير «سري» أعده خبراء «مركز الحوار الإنساني»، ومقره سويسرا، وقدم إلى حكومات غربية تحت عنوان «خطوات لحل الصراع السوري». سبب الضجة أن التقرير انتهى إلى خلاصة مفادها أن الحل في المستقبل القريب لا يقوم على انتقال السلطة أو حتى تقاسمها بل في الحفاظ على بنية الدولة ولو كان ذلك يعني بقاء النظام للمستقبل القريب، بدلا من المجازفة بوقوع الدولة في «أيدي الجهاديين»، على حد قول معدي التقرير.
لم يكن التقرير عاديا، لأن جوهر خطته للحل القائمة على «التهدئة المرحلية والمناطقية»، كان هو بالضبط ما ظهر في الخطة التي طرحها ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة المكلف بمتابعة ملف الأزمة السورية. فقد طرح دي ميستورا هذه الخطة على الأسد مقترحا التهدئة المرحلية انطلاقا من حلب، وتعرض بسبب ذلك لانتقادات شديدة باعتبار أن خطته تعني أن المجتمع الدولي بات يرى أن التهدئة تمر عبر قناة الأسد، وبالتالي تعتبره جزءا من مساعي الحل.
هل هذا كل شيء؟
قطعا لا، فهناك التداخل مع ملف المفاوضات النووية مع إيران الذي يتردد أن مداولات الصفقة حوله تمر أيضا عبر صرف النظر عن أي تفكير في إطاحة نظام الأسد، الحليف الرئيسي لطهران في المنطقة. هذا الكلام ليس جديدا، ومتداول منذ فترة، وفي إطاره أيضا تبين أن استراتيجية إدارة أوباما ترى لإيران دورا في «حرب الإرهاب» سواء في سوريا أو العراق.
المنطقة في بحر من الرمال المتحركة، وليتنا نصحو من غفوتنا ونتوقف عن ندب مواقف أميركا أو غيرها. الدول تعمل لمصالحها، وهذا حقها. وحري بالعرب أن يتوقفوا عن سياسة الاتكال على الآخرين ويتحملوا مسؤولياتهم، ويدافعوا عن مصالحهم. فالتحولات في الموضوع السوري نموذج واحد لمتغيرات كثيرة تحدث في المنطقة، تستدعي استراتيجيات جديدة تنفض سياسات التناحر والشك، وتبدأ في إعادة ترميم الجسد العربي المتهالك، انطلاقا من تشكيل تكتل بين الراغبين للتعامل مع المخاطر المحدقة.
الشرق الأوسط
فرنسا أصابت مرّتين وأمريكا أخطأت مرّتين/ حازم صاغية
إبّان حرب العراق في 2003، حين أطيح بصدّام حسين، وقفت فرنسا بقيادة رئيس جمهوريّتها الديغوليّ جاك شيراك ضدّ الحرب، تؤازرها في موقفها هذا ألمانيا بقيادة المستشار الاشتراكيّ الديمقراطيّ غيرهارد شرويدر. أمّا الولايات المتّحدة الأمريكيّة برئاسة الجمهوريّ جورج دبليو بوش، فكانت هي الدولة التي خاضت الحرب بذرائع تبيّن لاحقاً أنّها تفتقر إلى الصدقيّة والتماسك.
وبالفعل كان لمرور الزمن وما حفل به من نتائج أن أظهرا على نحو تصعب المماراة فيه أنّ موقف فرنسا كان أكثر حكمة وأقرب إلى الصواب من موقف الولايات المتحدة. وهذا لا يعني أنّ خصوم بوش الغربيّين كانوا يتمنّون بقاء صدّام حسين، إلاّ أنّه يعني رفضهم المساواة بين الرفض، مهما كان حادّاً، وبين حسمه بحرب كاسحة كالتي قادتها واشنطن.
واليوم، وكما بات واضحاً بعد كلام وزير الخارجيّة الأمريكيّ جون كيري، فضلاً عمّا تسرّب عن مداولات رجالات وكالة الاستخبارات المركزيّة، تبدو الولايات المتحدة في وارد التفاوض مع الرئيس السوريّ بشّار الأسد، وإن راحت الاستدراكات الأمريكيّة تتوالى بعد ذاك. وهذا بعدما قالت واشنطن مراراً وتكراراً على لسان باراك أوباما نفسه وبعض كبار مساعديه، أنّ مثل هذا التفاوض مستحيل، وأن لا مكاناً للأسد في مستقبل سوريّا.
وإذ تقف الإدارة الديمقراطيّة الأمريكيّة هذا الموقف، فإنّ الإدارة الاشتراكيّة الفرنسيّة وعلى رأسها رئيس الجمهوريّة فرانسوا هولاند، تتّخذ موقفاً مختلفاً تماماً، ذاهبةً إلى التحذير من مخاطر الانجراف الأمريكيّ في سياسةٍ سوريّة خاطئة، فضلاً عن انجرافها في سياسة إيرانيّة خاطئة هي الأخرى. ولم يتردّد وزير خارجيّة فرنسا لوران فابيوس في القول: “إنّ أيّ حلّ يعيد الأسد إلى الواجهة سيكون بمثابة هديّة مشينة وهائلة لإرهابيّي داعش”.
هذا التباين الأمريكيّ – الفرنسيّ الذي انفجر مرّتين في غضون 12 عاماً، يقول الكثير عن منطقتنا بالتأكيد. وهذا، من دون شكّ، ما أسهبت وسوف تسهب التحليلات العربيّة في تأويله والبناء عليه. إلاّ أنّ التباين المذكور يقول الكثير أيضاً في ما خصّ السياسات الغربيّة التي كثيراً ما تُقرأ على نحو خاطىء عندنا.
وهنا تظهر بوضوح فاقع نتيجتان بارزتان:
الأولى، أنّ لا مكان للإيديولوجيا واعتباراتها في السياسات الخارجيّة الغربيّة. فشيراك “اليميني” اصطدم ببوش “اليميني” أيضاً، وكان حليف شيراك آنذاك شرويدر “اليساريّ”. وبالمعنى نفسه فإنّ هولاند “اليساريّ” يخالف أوباما “اليساريّ” فيما يقف في الوسط بينهما رئيس الحكومة البريطانيّة “اليمينيّ” ديفيد كاميرون.
أمّا الثانية، فأنّ الولايات المتّحدة تتبع حيال المنطقة سياسات شديدة التأثّر والانفعال باللحظة الراهنة. ففي زمن بوش، وتحت وطأة القراءة المغلوطة لجريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شُنّت الحرب على العراق. ثمّ، وكردّ على سياسة بوش التدخّليّة، وفي سياق انزياح الاهتمام باتّجاه مناطق آسيا والمحيط الهادىء، تتّبع واشنطن سياسة انكفاء عن سوريّا. وبدورها فإنّ فرنسا وعموم أوروبا، الأقرب كثيراً إلى الشرق الأوسط، لا تملكان تَرَفي الحرب والابتعاد. وهذا فضلاً عن كون فرنسا تستند، في سياستها الأكثر رصانة، إلى تراكم في المعارف والخبرات تحصّل في السنوات الكولونياليّة الفاصلة بين الحربين العالميّتين الأولى الثانية، ممّا لم يتسنّ لأمريكا.
تسجيل هاتين الحقيقتين يبقى مفيداً، وإن جاز التشكيك بمدى التغيير الذي قد يحدثه على الأرض.
موقع 24
واشنطن تسوّق لمنتصرين: بشار و “داعش”!/ عادل مالك
في العادة يجرى ضبط ثورات الطبيعة من زلازل وبراكين وفق مقياس «ريختر» العلمي، أما الثورات الأخرى هذه الأيام، بخاصة تفاوض الولايات المتحدة الأميركية والدول الخمس الكبرى زائدة ألمانيا والجمهورية الإسلامية في إيران، فيجرى ضبطها وفق مقياس «ريختر – النووي»، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما يحدث في بعض المدن السويسرية من مفاوضات الساعات الأخيرة للتوصل إلى اتفاق ما في شأن الملف النووي الإيراني.
الكل ينتظر… «النووي»! من القضايا الكبيرة إلى الشؤون الصغيرة، والموعد «السحري» المحدد لــ «الحدث الكبير» هو الحادي والثلاثون من آذار (مارس) الحالي.
على صعيد الوقائع يمكن تسجيل المعلومات الآتية:
استناداً إلى مصادر مشتركة من الجانبين الأميركي والإيراني تم الاتفاق على «تسعين في المئة من القضايا الخلافية»، وتبقى نسبة العشرة في المئة، ما يعمل وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف على تذليله. ومن الطبيعي، وبعد رحلة طويلة وشاقة من المفاوضات أن تصدر التصريحات المتناقضة أحياناً، وهذا ما يدخل ضمن «الحرب النفسية» في التفاوض، إذ المطلوب خروج كل فريق بـ «انتصار معين» وليس انتصار فريق على آخر، وهذه هي شروط لعبة الكبار.
واستناداً إلى مصادر مواكبة عن قرب للمفاوضات، تم التفاهم على الكثير من الشؤون التقنية أي ما يتصل بالقضايا العالقة كافة بين الطرفين الرئيسين، سواء لهجة رفع العقوبات عن إيران، أو إعادة الأموال المجمدة لها وهي بمليارات الدولارات.
ومن شأن هذه «الثمار» أن تنعكس على الأوضاع الداخلية لإيران ودول الجوار، على رغم وجود عدد من «الإيرانيين المحافظين» ما زالوا يعارضون تقديم «أي تنازل» لـ «الشيطان الأكبر»! فيما السلطات الرسمية ستخرج من نفق المفاوضات بإنجاز كبير تستطيع الدفاع عنه ضد المعارضين أو المحافظين المتشددين، وفي هذا المجال تؤكد معلومات المصادر الموثوقة على ناحية مهمة لا يجري التركيز عليها، ألا وهي أن كل هذه المفاوضات الصعبة والمعقدة ستنتهي إلى تأكيد «حق إيران في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية». إن ضغط المفاوضين الغربيين يتركز على وقف إنتاج المزيد من التخصيب الإيراني لليورانيوم، وأن لا يتجاوز نسبة الخمسة في المئة، فيما كان المفاوض الإيراني ولا يزال يصر على ما نسبته 20 في المئة. وقد تنتهي التسوية بتجميد إيران استخدام المزيد من الطاقة النووية «خلال عشر سنوات»، وهذا ما تركزت عليه مفاوضات الأيام الأخيرة.
وبقطع النظر عن الجوانب التقنية في الاتفاق، فسوف تنعكس نتائج المفاوضات على المنطقة بكاملها، ما يمنح خط المقاومة والممانعة قوة دفع إضافية، تطلق يد إيران والحلفاء في المنطقة لهيمنة جديدة مستوحاة من استخدام المفاوض الإيراني كل طاقاته وإمكاناته التفاوضية كي لا يخرج مهزوماً من الاتفاق.
وحيث إن الأمور مترابطة، فالأسئلة التي تطرح تدور حول «ترجمة» هذا النجاح الإيراني عملياً. ويقال في الوقت الحاضر، وهذا ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته والعائد إلى رئاسة الحكومة وفق نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة: «إن إيران تحتل أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء». وفي ضوء ما سيعلن من تفاصيل عن «الاتفاق النووي» سيتم تفعيل ذلك ميدانياً، أي باللغة العملية: ازدياد النفوذ الإيراني وتوسعه في عدد من دول المنطقة. لكنه سيضع إيران والحلفاء والأصدقاء في مواجهة مباشرة مع «داعش» و «جبهة النصرة» وما تيسر من مجموعات إرهابية تمتهن الإرهاب لتحقيق غايات وأهداف غريبة ومريبة، حيث لا يمكن تشجيع هذه التيارات أو التعاطف معها. وهذا يعني متابعة الحرب على فصائل الإرهاب لسنوات آتية. وتقدر الدوائر الأميركية والغربية أن مقاومة إرهاب «داعش» والتوابع سيأخذ «سنوات عدة»، الأمر الذي يعني بقاء المنطقة في حالات اضطراب وعدم استقرار طوال هذه المدة، فكيف تتصرف الدول المعنية حيال هذه التطورات؟
ونبدأ في لبنان، حيث يخوض «حزب الله» و «تيار المستقبل» جولات متتالية من الحوار حول القضايا الخلافية الكبيرة والمعقدة. وعلى رغم إطلاق «تيار المستقبل» الحملات العنيفة ضد إيران والحليف «حزب الله»، فضوابط الوضع الداخلي تفرض الإبقاء على تواصل حتى بين أعداء السياسة والعقيدة. وعلى رغم ما شاب أجواء هذه الحوارات، تم التفاهم على خفض نسبة التوتر، واستؤنفت جلسات الحوار في مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، حيث لا يملك الفرقاء سوى اعتماد الحوار والتفاوض مهما طال هذا المسار.
أما الدولة الثانية التي ستتأثر بالاتفاق النووي فهي سورية، حيث أشعل وزير الخارجية الأميركي جون كيرى عاصفة تصريحات بعد إعلانه استمرار التفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد للمراحل المقبلة. أما الإيضاحات التي صدرت فلم تخفف وطأة الكلام عن أن رأس النظام باق ولو «حتى إشعار آخر».
وحول الوضع العام في سورية معلومات تتصف بأهمية خاصة يجب التوقف عندها، ومنها التصريحات التي أدلى بها السفير الأميركي فريدريك هوف وهو العليم بشؤون المنطقة وشجونها، من إعداد التقرير الخاص بتفجير قوات المارينز في بيروت عام 1983 إلى القيام بمهام ولو محدودة في سورية. فهو يقول:
«إنني أتخوف من أن ينتصر في سورية تنظيم داعش والنظام معاً: بشار الأسد والإيرانيون سيعززون سيطرتهم فوق الأجزاء التي تعنيهم في سورية، كما سيحاول داعش تعزيز وجوده في جزء منها». ويضيف: «كي تكون إيران جزءاً من التحالف عليها أن تشد قواها في الاتجاه الذي يعتمده أطراف التحالف، لأنه ما دام رجلها بشار الأسد وعائلته وعشيرته في الصورة كجزء من سورية، فإن داعش سيجد في الأسد أهم من يجند مقاتلين له».
فالخطورة تكمن في أن الطرفين يمكن أن ينتصرا معاً، ومثل هذا الكلام يعني عملياً تقسيم سورية وفق ما أفرزته تطورات السنوات الأربع الماضية من الحرب، بخاصة الفرز السكاني والطائفي والعرقي، بحيث يتجمع أهل الطائفة العلوية في مدن ومواقع معينة، فيما تسعى الطوائف الأخرى وفي الطليعة أهل السنة، للوجود في مناطق جغرافية متقاربة.
إن الطرح الأميركي الجديد بالنسبة للوضع في سورية يقوم على المعادلة الآتية: «عش ودع غيرك يعيش»! وهل سيتم اعتماد هذه المعادلة بهذه السهولة؟! يجيب السفير هوف رداً على سؤال: هل سيقبل العالم بدولة «داعش» ضمن الدولة السورية؟ «لا أعتقد ذلك، لأن الوضع سيكون عامل زعزعة للاستقرار في شكل مستمر، لأن المزيج من اقتصاد الشبيحة في بقية سورية الأسد ووحشية داعش فيها سيتسبب باستمرار هرب الناس من هذين الجزءين من سورية إلى الدول المجاورة، وهذا سيكون عامل زعزعة دائمة للاستقرار في المنطقة».
وبعد…
أولاً إن العاصفة السياسية التي أحدثها تصريح جون كيري حول بقاء الأسد في صورة التفاوض لا تزال تعكس وجود الازدواجية في مواقف الدول الغربية حيال ما تشهده سورية. ذلك أن رفض هذه الدول وجوده وهو موجود فعلياً على الأرض يعني عدم التعاطي العملي والمباشر مع ما يجري.
لكن ما يمكن قوله وبقطع النظر عن تطورات الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة عسكرياً، وهو ما لا يزال يتراوح بين الكر والفر لأكثر من طرف، فإن الحاجة تدعو إلى بقاء الرئيس الأسد في السلطة إذا ما تم التفاهم على المراحل التالية من العملية الانتقالية التي تتحدث عنها الدول الغربية، وهذا يفترض بقاء سلطة معينة كي تعمل على «تسهيل» مهمة انتقال السلطة، على رغم أن الأمور لن تكون بهذه البساطة لجهة تخلي الأسد وأنصاره عن السلطة طبعاً، بل سيبقى التقاتل حتى الرمق الأخير، لأنها ستكون معركة تنازع البقاء المصيري، سواء بالنسبة للنظام أو لمعارضيه من «داعش» و «النصرة» والتوابع.
ثانياً، قياساً على بعض المفردات الأليفة في المنطقة، والتي تبرز بين الحين والآخر، تمكن تسمية ما يجري ولو مجازاً بأبجدية الحل المتداول (ك – ظ) كإشارة لاسمي وزيري الخارجية الأميركي جون كيري، والإيراني محمد جواد ظريف. وفي كل حال وبعيداً من سياسة المكابرة، فالمعطى الجديد سيعطي لإيران دوراً رئيسياً في تقرير سياسات المنطقة، ولو مع استبعاد «نظرية بعث الإمبراطوية» من جديد، والتي جرى رفع شعارها في الآونة الأخيرة من بعض المسؤولين في طهران.
وفي الكلام الأخير:
إن الواقفين في الصفوف الطويلة انتظاراً لما سينتج من مسألة الملف النووي الإيراني، يجب أن يدركو أن باستطاعة البعض أن يستبشر خيراً ببعض الحلحلة لأزمات ومواقف معينة، ولكن حذار من الإفراط في التفاؤل واعتبار أن ما سيصدر في 31 آذار الحالي، هو خاتمة الأحزان للقضايا والمواقف المتنازع عليها في المنطقة.
مطلوب القليل من التواضع كي تتلمس دول العالم الثالث والأخير موقعها الصحيح في سلم أولويات الكبار من الإقليميين والأوروبيين والأميركيين كي لا نصاب بمزيد من خيبات الأمل، إذ يكفي ما نحن فيه وعليه.
سورية: سنة خامسة حرب وقد تمتد أزماتها لخمس او لعشر سنوات آتية، وسط تفجر البراكين في المنطقة ومواجهة الحمم والشظايا الناشئة عن هذه البراكين، ومنها: فوز بنيامين نتانياهو، وما سيتبع من «العصر الإسرائيلي»!
* إعلامي لبناني
النهار
الأسد والنظام/ سميح صعب
عندما استهول أصدقاء أميركا كلام وزير خارجيتها جون كيري في مقابلته مع شبكة “سي بي اس” الاميركية على هامش المؤتمر الاقتصادي في مصر، عن “الاضطرار في نهاية المطاف” الى التفاوض مع الرئيس السوري بشار الاسد على الانتقال السياسي في سوريا، اضطرت الادارة الاميركية الى اصدار سيل من التصريحات التي توضح لهؤلاء الاصدقاء والحلفاء، ولا سيما منهم فرنسا وبريطانيا وتركيا، ان تصريح كيري لا يعني ان ادارة الرئيس باراك أوباما لم تغيّر موقفها القائم على ان الاسد فقد شرعيته كحاكم وان ما قصده وزير الخارجية كان التفاوض مع النظام في سوريا وليس مع الاسد.
وهنا ينقسم خصوم سوريا حيال هذه النقطة أيضاً. بينهم من يجادل بأنه يجب التخلص من النظام والاسد معاً مثل تركيا وقطر تدعمهم فرنسا وبريطانيا، وبينهم من يفرق بين النظام والاسد، وهناك فئة حتى في المعارضة السورية الخارجية تقول بذلك بوحي أميركي ودعم من المانيا وايطاليا ودول اوروبية أخرى. وبخلاف قطر وتركيا، فان السعودية تؤيد نظرية التفريق بين النظام والاسد، في حين ان الموقف المصري بعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي الى الحكم من هذه المسألة غامض وهي تتجنب الخوض في هذه المسألة وتركز على ضرورة منع تقسيم سوريا ومحاربة الجماعات الارهابية فيها.
وأصلاً تبدو فكرة التفريق بين النظام والاسد عملية مصطنعة، وفيها الكثير من الالغاز. ولا يرمي القائلون بها إلاّ الى اخفاء موقفهم التراجعي من عملية اسقاط النظام السوري ككل خلال أربعة أعوام ونيف من الحرب المدمرة. ولأن هؤلاء يستهولون القول ان الحل في سوريا يمرّ عبر الاسد على ما قال المبعوث الخاص للامم المتحدة ستيفان دو ميستورا، فانهم يلجأون الى التخفيف قولاً مما يعتقدون فعلاً. ويجد أصحاب نظرية التفريق بين النظام والاسد، مخرجاً لتراجعهم عن مواقف سابقة كانوا يتمسكون بها تقوم على اسقاط النظام السوري برمته. وعندما ظهرت استحالة تحقيق ذلك بظهور الجهاديين، الذين كانت غاية ارسالهم الى سوريا وتمويلهم من تركيا والخليج وغض النظر عنهم أوروبياً وأميركياً، التعجيل في اسقاط النظام، بدأ يبرز الحديث عن “الحل السياسي” في سوريا، ولكن لحفظ ماء الوجه، يضيف اليه البعض عبارة من دون الاسد. في حين أن البعض الآخر الأكثر واقعية والراغب فعلا في وضع حد لنزف الدم، بدأ يقول باستحالة التوصل الى حلّ سياسي من دون الأسد.
ولكن الى ان تصل المعارضة السورية في الخارج ومعها داعموها الاقليميون والدوليون الى هذا الاقتناع، تستمر الحرب في سوريا على البقية الباقية.
النهار
تحولات أميركية/ مصطفى زين
ليس أوضح من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. منذ وصوله إلى البيت الأبيض أكد الرئيس باراك أوباما أنه سيضع حداً للحروب التي شنها جورج بوش الابن. وسيستخدم «القوة الناعمة» (الديبلوماسية) لتحقيق المصالح والمحافظة عليها. بدأ تنفيذ هذه السياسة بالانسحاب من العراق والتحضير لمغادرة أفغانستان. ولم يتورط مباشرة في الحروب الداخلية التي أشعلها «الربيع العربي»، على رغم المغريات الكثيرة والدعوات الملحة (وصلت إلى حدود التوسل) للتدخل وإرسال جيوشه لإسقاط هذا الرئيس أو ذاك. انخرط في الحوار مع إيران حول برنامجها النووي، وأمور أخرى تتعلق بأفغانستان والعراق وسورية وإسرائيل.
واتضحت هذه السياسة أثناء الهجوم على ليبيا، إذ كان تدخل واشنطن محدوداً جداً، قياساً إلى تدخل باريس والآخرين وحماستهم. وكانت أكثر وضوحاً عندما انتظر هولاند في آب (أغسطس) 2013 إشارة من واشنطن لإطلاق الهجوم على دمشق، وخاب أمله من موقف البيت الأبيض الذي «أمره بالتوقف عن المضي في المغامرة». وقبل أسبوع عبر رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمسي عن هذه السياسة وقال: «مهمتي هزيمة داعش، وليس بناء دول أو إطاحة النظام السوري».
في إطار هذه السياسة المعروفة جاءت تصريحات كيري، قبل أيام، عن الحوار مع الأسد. وكان يجب أن لا تفاجئ أحداً، خصوصاً الأصدقاء والحلفاء الذين استاؤوا منها واعتبروها خيانة فهم مطلعون مباشرة على توجهات واشنطن، وينسقون معها في كل كبيرة وصغيرة. صحيح أنها سعت وتسعى إلى إسقاط الأسد. ودعمت المعارضة، معتدلة وغير معتدلة بالسلاح والتدريب والمعلومات. ووقعت اتفاقاً مع تركيا لتدريب المزيد من «المعتدلين»، وهي تدرس حمايتهم بعد إرسالهم إلى الداخل السوري. لكن الصحيح أيضاً أن معظم التشكيلات المسلحة، إما انهارت بالاقتتال في ما بينها، أو خلال المعارك مع الجيش. أما المجالس والهيئات السياسية، مثل المجلس الوطني والائتلاف وغيرهما، فلم تستطع وضع رؤية سياسية تجمع حولها المعارضة، فضلاً عن فشلها في جذب السوريين العاديين الذين يقتلون كل يوم وقد تحولت مطالبهم بالحرية والديموقراطية إلى مطلب واحد هو وقف الدمار والخراب والقتل.
هذا الفشل جعل واشنطن تلوح بالبحث عن مخرج آخر من خلال الحوار مع الأسد، بشروط قد يحتاج تحقيقها إلى سنوات من الحروب، وتغيير خرائط وتحالفات. فضلاً عن هذا، جاءت تصريحات كيري في وقت وصلت المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي إلى مرحلة مفصلية، ورأى البيت الأبيض أن تشجيعها من خلال التساهل مع أحد حلفائها (الأسد) قد يساعد في التوصل إلى اتفاق، فالاتصال بالرئيس السوري يعني اعترافاً بنفوذها في دمشق، واستعداداً لتقاسم هذا النفوذ معها. أكثر من ذلك، وللمرة الأولى لم يذكر التقرير الذي قدمه مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر إلى الكونغرس إيران و»حزب الله» مقرونين بالإرهاب. صحيح أن ذلك لا يعني رفعهما من «اللائحة السوداء»، وليس له قيمة قانونية، لكنه في الوقت ذاته مؤشر مهم إلى تحول في سياسة البيت الأبيض في الشرق الأوسط، وغزل إباحي لطهران وحلفائها، وتنحية الخيار العسكري في التعاطي معها.
ليس مستغرباً أن تشكل هذه التحولات في سياسة البيت الأبيض قلقاً للسياسيين الأميركيين، في الداخل، وللحلفاء والأصدقاء في الخارج. فالتفاهم مع إيران، إذا حصل، يعني تغييرات استراتيجية كبرى في الشرق الأوسط، خصوصاً في العالم العربي.
الحياة
المقايضة النووية: دمرنا البلد ليبقى الأسد!/ راجح الخوري
هناك فرق كبير بين زلات اللسان والتصريحات التي تحاول وزارة الخارجية الأميركية عبثا توضيحها ومحاولة لحسها، فعندما يقول وزير الخارجية جون كيري أمام الحشد الدولي في مؤتمر شرم الشيخ: «لا بد أن نسعى جميعا لأجل مستقبل إسرائيل»، ثم يستدرك قائلا: «لا بد أن نسعى جميعا لأجل مستقبل مصر»، يمكن أن نفهم أنه «مهجوس» بإسرائيل التي لا تقض مضاجعه مع باراك أوباما فحسب، بل لعلها تدير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ زمن بعيد!
وعندما ينهمك كيري في إعطاء حديث لمحطة «سي بي إس إن» يوم السبت الماضي، ويقول: «حسنًا، علينا أن نتفاوض مع الأسد في النهاية»، فلن تنجح توضيحات الخارجية الأميركية وتفسيرات جين ساكي في وقف موجة الازدراء الدولية الواسعة التي حملت على كلامه واعتبرته رقصا أميركيا وقحا على قبور مئات آلاف القتلى السوريين، ورشا للملح في جروح ملايين المصابين والمهجرين!
الخارجية الأميركية تحاول أن تمرر التكذيب، لكن الاستماع جيدا إلى المقابلة يؤكد أن كيري كان جادا في الدعوة إلى التفاوض مع الأسد، بدليل قوله: «الأسد لم يكن يريد التفاوض، وإذا كان مستعدا لمفاوضات جدية، فبالطبع نحن مستعدون، وعلينا أن نضغط عليه ليفعل ذلك»!
هذا الكلام الذي أثار موجة استنكار عارمة في الدول العربية وفي فرنسا وبريطانيا وتركيا، لم يقل من عبث، واضح أنه وضع بعناية على ساعة التوقيت المتصلة بالمفاوضات النووية مع إيران، وليس خافيا أن كيري تعمد الإدلاء به يوم السبت الماضي قبل ساعات من استئناف مفاوضاته يوم الأحد مع نده محمد جواد ظريف في جنيف، كتمريرة هدفها الإيحاء باستعداد لمقايضة فحواها «أعطونا اتفاقا يمكن تمريره في الكونغرس، وخذوا موافقتنا على بقاء الأسد ثمنا له»!
يحتاج المرء إلى كثير من الغباء كي لا يرى ملامح هذه المقايضة الرخيصة والخطرة جدا، لأن من الواضح أنها تضع على طاولة المفاوضات الأميركية – الإيرانية، صيغة تبادلية تربط بين الملف النووي والانفلاش الإيراني في الإقليم. ومما يزيد الطين بلة، كما يقال، أن إيحاء واشنطن باستعدادها للتفاوض مع الأسد استرضاء لإيران، جاء متزامنا مع سلسلة من التصريحات الإيرانية عن سيطرة طهران على أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت.
لا معنى لكل ما قيل في الأيام القليلة الماضية عن رفض واشنطن الجلوس مع الأسد الذي كان قد رد على كلام كيري بطريقة مهينة تقريبا عندما قال: «نحن ننتظر الأفعال لا الأقوال» ولكأنه لا يدري أن الأفعال ليست موجهة له؛ بل للإيرانيين الذين يحمونه ويقاتلون عنه في الجبهات. وفي النهاية باريس لا تخطئ في قراءة مضمون كلام كيري، ولندن وأنقرة كذلك لا تخطئان، أما العواصم العربية، فمن حقها أن تستشيط غضبا مثل الشعب السوري المذبوح!
قبل بداية الصيف الماضي ومع استفحال «داعش» وتمدده من العراق إلى سوريا ومع بداية عمليات التحالف الدولي الجوية في العراق، تسربت أنباء عن تنسيق سري استخباري بين واشنطن والنظام السوري، الذي حاول أن يطرح نفسه في مقدمة الذين يقاتلون «داعش»، يومها قال لوران فابيوس للأميركيين حذار من أن تضعوا الشعب السوري بين خيارين بشعين؛ إما الديكتاتورية، وإما الإرهاب. والآن يبدو هذا التحذير ضروريا أكثر لأن أميركا تضع الشعب السوري ومستقبل سوريا بمثابة كسور حساب في إطار مقايضة إيران على «النووي» وعلى دورها في الإقليم أيضا، بما يعني وضع نهاية فاجعة لسوريا المدمرة والسوريين المذبوحين، وهذه خلاصة فحواها: «دمرنا البلد ليبقى الأسد».
بريطانيا ردت بتأكيد رفضها أي دور للأسد في مستقبل سوريا، ومبعوثها إلى دمشق غاريث بيلي يقول إن «الأسد يدعي أنه يحارب الإرهابيين، لكنه أوجد بيئة حاضنة لنمو التطرف، وأطلق من سجونه متطرفين خطيرين لتشويه صورة الثورة، والآن عندما يسمع الناس عن الأزمة السورية يتبادر إلى أذهانهم تنظيم (داعش)، لكن يجب ألا ننسى أن الأسد أزهق أرواح أكثر من مائتي ألف سوري».. لكن المؤسسات المختصة أعلنت بمناسبة بداية السنة الخامسة أن القتلى أكثر بكثير وأن هناك عشرة ملايين سوري في اللجوء والنزوح، ثم إن المدن السورية دمرت بنسبة خمسين في المائة تقريبا.
مناورة النفي الأميركي لم تنطلِ على أحد، فها هو أحمد داود أوغلو يرد على تصريح كيري بعد ثمان وأربعين ساعة وعلى توضيحات الخارجية الأميركية، بالقول إن «الأصوات التي ترى أن هناك حاجة للتفاوض مع الأسد تجعلنا نشك في قيمنا الإنسانية.. رغم كل هذه المذابح ورغم استعمال الأسلحة الكيماوية في تجاوز للخط الأحمر، وإذا كنتم ما زلتم تصافحون الأسد، فإن التاريخ سيذكر هذه المصافحة.. لا فرق بين مصافحة الأسد ومصافحة أدولف هتلر».
في عودة إلى موضوع المقايضة الأميركية – الإيرانية، كانت لدى الفرنسيين دائما شكوك في الخلفيات التي طبعت طريقة التفاوض الأميركية حول «النووي»، خصوصا بعدما تنازل الجانب الأميركي عن مطالب أوروبية محددة في هذا الملف، وقد توسع إطار الشكوك في ضوء معلومات حملها النائب الفرنسي جاك ميار الذي التقى الأسد، وتفيد أن واشنطن ليست متمسكة بحل يقوم على فكرة الانتقال السياسي؛ بل تدعو إلى تسليح الأسد، فهذا يدعم المعركة ضد الإرهابيين و«داعش»!
زمن المقايضات بين أميركا وإيران لم يبدأ اليوم، بدأ عمليا منذ تسليم العراق للإيرانيين على طبق من فضة، وبعدما تم تنصيب نوري المالكي رئيسا للحكومة خلافا لنتائج الانتخابات يومها، وهي الحكومة التي نفذت الخطة التي جعلت علي يونسي مستشار حسن روحاني يقول الأحد الماضي بالحرف: «إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت في التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا كما في الماضي»!
مع وصول الجنرال مارتن ديمبسي إلى بغداد قبل عشرة أيام قال علي شمخاني: «إيران منعت سقوط بغداد ودمشق وأربيل في أيدي (داعش)، وقد باتت الآن على ضفاف المتوسط وعند باب المندب»، والذين يعرفون أن الدبابات الإيرانية لم تكن لتعبر إلى الأراضي العراقية دون موافقة أميركية، وأن القتال الميداني ترك للإيرانيين وأذرعهم المذهبية بينما تولى الأميركيون التغطية الجوية، يفهمون المعنى العميق والخطير لمسلسل المقايضات الأميركية – الإيرانية في العراق وسوريا.. والذي قد يشمل المنطقة!
كاتب لبناني
الشرق الأوسط