التقاعس النقدي مرضٌ عُضال/ سلام الكواكبي
يسعى طهرانيو الثورات، عموماً، إلى إحاطتها بهالة من القدسية، تمنع عنها الانتقاد، وتحمي بعض قيادييها، أو أفرادها، أو من لاذ بها من المتجاوزين، أو المنتهكين، أو الفاسدين، أو القاتلين، أو المغتصبين، مهما كانوا، ومن أينما حضروا، من كل أنواع اللوم، أو العتاب، أو حتى التلميح بهذا كلّه. فالشرعية الثورية تبزّ ما عداها، والثورة “مقدسة”، وأين أنت (المقصود أنت المنتقد) من تضحيات من تنتقدهم؟ وأين كنت (أنت أيضا أيها المنتقد)، عندما كان الثوار في أرض المعركة، أو في التظاهرات، أو في التجمعات السرية؟ فالصمت، إذن، ملاذٌ آمن من القصف الكلامي، أو الاستعجال الشتائمي، وهو ممرٌ إنساني إلى ما يمكن أن يسمى “السترة”، في زمن أصبحت فيه الاتهامات رائجة بكثرة، وبضاعة سهلة وسريعة التداول عبر الفسابكة والتواترة.
ولكن، هل يمنع هذا الضغط النفسي، وهذا “الإرهاب” الأخلاقي، من الإشارة بوضوح، إلى نقاط الضعف، أو إلى الانتهاكات؟ هل على المراقب الذي يجلس خارج التشكيلات السياسية، أو العسكرية، أو الإغاثية، أو الإعمارية، أن يصمت حمايةً لمفهوم مشوه للنضال الوطني؟ هل عليه أن يعتمد مبدأ السلطة في ضرورة الابتعاد عن القيام بأي عمل، أو قول، يساهمان في “وهن عزيمة الأمة/ الثورة”؟ معتبراً أن الوقت لم يحن، لتوجيه الانتقاد لوجود أولويات؟
في المقابل، هل سيستهين بالأمور، ويتبنى سياسة التجني والتخوين بسيطة المنال، والتي ساعدت الشبكات التواصلية في ترسيخها، بعيداً عن أي منطقٍ علمي، مستندٍ إلى دلائل موثّقة؟ وينبري من خلالها الناقد/ الشاتم إلى الاتيان باتهاماتٍ، لا حدود لها في حق من ينخرط في المؤسسات الثورية، بمختلف أشكالها؟ أو أنه يفتخر شامتاً بعبارة “سبق وقلت لكم”؟
هناك، بالتأكيد طريقة للابتعاد عن طرفي النقيض من المسألة الثورية. ولكن المراجعة النقدية الهادفة إلى تصحيح المسار، أو حتى تحليله، ليست أمراً محظوراً في كل الأعراف. وما يُعاب على “النخب” الثورية، سياسياً أَم فكرياً، صمتها عن كثير من هذه الأشكال، المشوّهة لأي حراك وطني، مهما كانت تعريفاته، أو مهما تنوّعت ميوله العقائدية. فعندما تطرّق بعضهم مشيراً، وبعد سنة من قيام الثورة السلمية في سوريا، أو بعد أشهر من التحولات العسكرية في ثناياها، إلى دخول “أشكال”، غريبة المنبت والعقيدة والأخلاق والانتماء على خط العمل الثوري، واجهه متصدرو المشهد الإعلامي، ذوو “الشعبية والشرعية”، بأن ما يهرف به، ما هو إلا أوهام، أو مبالغات، لا تستحق التوقف عندها.
وعندما أطيح برأس تمثال المعري في مدينته المعرة، رفض الأشخاص أنفسهم، علمانيين كانوا أم دينيين، إدانة الممارسة الفاجعة، وألقوا باللائمة على الطرف الآخر السيء حتماً. ورفضت النخب نفسها النقد، والتنبيه عندما ظهرت الممارسات الشاذة فقهياً من متعممين، جهلة بألف باء الأخلاق، قبل أن يكونوا مستولين على التعبير الديني الشعبي، نتيجة إخضاع حقل العلماء من السلطة خلال عقود، وفتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب الذقون حديثة المنبت، أو مشبوهة المنشأ.
وتم رفض أي اعتراض على قبول جزءٍ من هذه النخب، ذات “الشرعية” الثورية والشعبية “الجارفة”، المصادقة على شهادات تخرّج لمن نصّب حاله قاضياً “شرعياً”، خضع لدورة في الجهل والتجهيل، في أقل من أسبوع، ليحكم ويتحكم في العباد، بعيداً عن أي معايير قانونية وطنية. وسُكت عن انتهاكات قانونية وإنسانية، ارتكبتها هيئات منبثقة من هذا التكوين “القضائي” العجيب.
وفي وقت اقتصرت التغطية الإعلامية الداخلية على وسائل إعلام رسمية، معروفة بغوغائيتها منذ عقود، أو على إعلام ثوري غير مهني، يستنبط أحياناً عبراً من مدرسة الإعلام الرسمي، سعى قليل من صحافيي الغرب إلى القيام بعملهم، في سرد ما يحصل داخل النفق السوري، إلا أن عدداً لا بأس منهم تعرّض الى الخطف من عصاباتٍ، تحمل أسماء دينية متعددة. وتبيّن، بعد تحرير بعضهم بأن من سلّمهم، أو باعهم، هم “ثوّار” تنطحوا لمرافقتهم، وتسهيل أمورهم في الداخل “المحرّر”. وقبض هؤلاء المرتزقة ثمن تسليم الصحفيين الأجانب إلى إرهابيين غرباء. وإن أدانت بعض الأصوات الخاطفين، إلا أنها صمتت عمن سهّل لهم جريمتهم.
رموز ثورية، كالأب باولو دالوليو، والمحامية رزان زيتونة، ورفاقها، ما زالوا مخطوفين من إرهابيين بلبوس متنوعة. والسعي إلى المواربة في الحديث عمن قام بهذه الجرائم لا يفيد أي قضية وطنية. وقتل الأب فرانس، الذي رفض أن يغادر حمص المحاصرة، ليستمر في مساعدة مدنييها، كانت إدانته خجولة ومقتضبة. وأخيراً، وليس آخراً للأسف، تم اغتيال أبو عدنان الفليطاني، السياسي الوطني في دوما “المحررة”، اغتاله مجهولون كما دائماً.
آخر السقطات، تصريحٌ رسميٌ معارض، يحصر سرقة ونهب وتدمير المواقع الأثرية بأجهزة النظام. ما يبرئ ذمّة أمراء الحرب الذين يعيثون فساداً وتنقيباً بجرافاتهم في المواقع الأثرية، الواقعة تحت سيطرتهم. عاش السوريون طويلاً في ظل أكاذيب، محلية وإقليمية، سعت إلى إخضاعهم، وهم إن ثاروا يوماً عليها، فليس ليعيدوا إنتاجها من صلبهم.
العربي الجديد