التقدميون السوريون وأولويات إسقاط بشار/ دلال البزري
ثمة نموذجان فاشلان في التعاطي مع الأولويات: النموذج المصري، حيث جرت المعركة الأمنية والدموية ضد “الإخوان المسلمين” منذ ثلاث سنوات، وتُوّج عبد الفتاح السياسي قائداً أعلى لها، ومعها أولوية واحدة، هي تصفية “الإخوان”، كنقطة انطلاق نحو بناء الدولة المدنية الديموقراطية الخ. طبعا السيسي بقي محافظاً على الخطاب الإسلامي، السلفي، وربما الاخواني، وفي طريقه كرَّس الدولة الأمنية الفاسدة والفاشلة، إقتصادياً خصوصاً. بعضٌ من الجماعات التقدمية، وأعني هنا الليبرالية والعلمانية واليسارية والمدنية، وحتى النسوية… بعضٌ منها إنحاز إلى السيسي، تمسّك به بناء على أولوية محاربة العدو رقم واحد، “الإخوان”، فتحول إلى بوق منظّم، يمجد خطواته وقراراته.
النموذج الثاني هو اللبناني؛ حيث إلتفت حول “حزب الله”، الحزب الأصولي، المذهبي، الإيراني… مجموعات تقدمية متنوعة، لأن هذا الحزب حرّر لبنان من اسرائيل، و”انتصر” عليها بعدما طردها. نقطة الأولوية هنا مقلوبة، ولكنها تعمل بالمنطق نفسه: انها تريح التقدميين المتمسكين بها من عواقب التفكير خارج السرب المهيمن، او إستنباط مسائل التقدم من الميدان المباشر. فأصبحوا بذلك أسرى أولوية “محاربة العدو الإسرائيلي”، يزنّرون خطبهم بما يلزم من حديد لكي لا يخرج عن نطاق “سلاح المقاومة”، أو “الممانعة”.
نموذجان بائسان، يستدعيان التفكير في المجال السوري، حيث يعطي التقدميون السوريون، أو لنقل غالبيتهم الناطقة، الأولوية لمقاتلة بشار الأسد وحلفائه، فيخرجون بمواقف ايجابية عن الفصائل الجهادية المقاتلة، ويهنئونها، ويباركون نجاحاتها في القتال، زارعين بذلك بذور ما سوف يكونون عليه بعد برهة من الإنتصارات أو المعارك الاضافية. مثلهم مثل اللبنانيين والمصريين، سوف يجدون أنفسهم وقد بنوا حول عقلهم أسواراً من الممنوعات الفكرية، انصرفوا من اجلها عما كان يمكن ان يتطور من فكرهم وممارساتهم، معدمين مستقبل توجهاتهم بسلاسل الأولوية التي أعطوها للذين حرّروهم من بشار.
لا تقل الوقت غير مناسب، واننا في معركة، وعلينا إسكات الأصوات النشاز: هذه كانت، وما زالت حجة المستبدين، وأصحاب شعار “لا صوت يعلو…”. وقد رأينا ما خربوا من عقول وأفئدة.
الآن، “النصرة” تتحول إلى “جبهة فتح الشام”، ولا يتغير شيئ من برنامجها الإسلامي، ولا نقطة “مدنية” واحدة جديرة باسكات أي تساؤل؛ السعودي عبد الله المحيسني، طارد “الرافضة” (الشيعة، باللغة المذهبية)، والعامل على بناء كيان سني، “مقابل الكيان الشيعي”، هو القاضي العام لـ”جيش الفتح”، يجند الأطفال، ويخطب بحوريات الجنة أمام مشاريع الإنتحاريين… ياسر اليوسف، إبن ابراهيم اليوسف، قائد مجزرة حماه عام 1979 الطائفية، التي اطلقت الوحش الطائفي من العرين البعثي… هو الآن قائد “حركة نور الدين الزنكي”. بعد “جبهة فتح الشام”، و”جيش الفتح”، و”أحرار الشام”، وغيرها العشرات… يأتي المنظرون الاسلاميون، والقادة الكاريزماتيون الاسلاميون، وما لا يُحصى من المؤشرات الطائفية، الظلامية، العنفية، لا بل الإرهابية… التي يفترض أن تقلق العقول التقدمية. ولكن أبداً، هذه الأخيرة تتغزل بهم، ترحب بانعطافاتهم الوهمية، تداري “حساسياتهم”… وهي مرتاحة الضمير، على أساس أولوية “محاربة بشار”.
مع ان الأمر مقلق، بالنسبة لمن إنتمى إلى واحدة من الإتجاهات التقدمية. لماذا لم تنوجد مجموعات مقاتلة تنتمي إلى واحدة من الإتجاهات التقدمية؟ على غرار الفيتكونغ مثلاً، أو البلاشفة الروس، الذين بلغوا أهدافهم، مهما كانت النتائج الكارثية لثوراتهم. هل هو مجرد “الدعم الخارجي”، كما يُردَّد بلا هوادة؟ أم انها “البيئة الحاضنة”؟ أم تفاعل الإثنين معاً؟ وفي هذه الحالة، كيف تتعامل هذه الإتجاهات مع ضعفها الميداني؟ هل يعود هذا الضعف إلى العهد السابق، عندما تحول الإلتباس العلماني للدولة السورية إلى واجهة رقيقة، كاذبة، لكل محاولات الأسلمة التي كانت تتورّط بها هذه الدولة؟ هلى يعود إلى روح العصر المهيمن، الديني الإسلامي؟ وفي هذه الحالة كيف تتعامل هذه الاتجاهات مع هذه الهيمنة؟
خلال مراحل الفوضى الهائلة التي تلي الثورات، هناك صيرورة جديدة تمرّ بها المجموعات السياسية المختلفة؛ هي غنية بمفاجآتها وتقلباتها وصدماتها. ومن الطبيعي ان تكون هذه المجموعات متفاعلة مع الصيرورة، تسأل نفسها، تعيد النظر بثوابتها، تراجع مسبقاتها، تدقّق بمفاهيمها وأفكارها. لكي تكون هي أيضا تغيرت مع تغير أوجه بلادها. أحسب ان سوريا لا تخرج عن هذا النطاق. وان امام السوريين التقدميين الكثير مما يفكرو به ليرافقوا الوتيرة المجنونة لثورتهم.
المدن