التقسيم خيار إيران المفضل.. وبشار يشترط “سورية المفيدة”/ إبراهيم العلبي
منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الثورة السورية، ومع وضوح إصرار المتظاهرين على التظاهر والاعتصام في الساحات واتساع رقعة الاحتجاجات، رغم محاولات قمعها أمنيا وعسكريا، كان سيناريو تقسيم البلاد حاضرا في ذهن الأسد ومطروحا، إما كتهديد أو كخيار أخير يمكن اللجوء إليه إذا استعصى الموقف على الحل، إلا أن هذا الخيار بدا أكثر جاذبية منذ نهاية عام 2012 وبداية 2013، نظرا لفقدان نظام الأسد السيطرة على مساحات واسعة من البلاد، وخروج عدة معابر حدودية عن سلطته، وتضييق الخناق عليه في معركة حلب، واتباعه استراتيجية عسكرية تقوم على عدم التمسك بأراض يعتبرها رأس النظام غير ذات أهمية، والتخلي عنها حال وقوع هجوم من المعارضة، مقابل التركيز على تعزيز السيطرة على المناطق الحيوية والتي تمثل خطوط الدفاع الأولى عن العمق الديمغرافي لحاضنة النظام، وكذلك العمق الاقتصادي والاجتماعي لسورية التاريخية، في حمص ودمشق وحلب.
سورية المفيدة
ومع تعمق سياسة التخلي السريع عن المناطق الهامشية رغم اتساعها، بدأ يظهر للسطح مصطلح “سورية المفيدة”، أي المناطق التي يركز النظام فيها جهوده ودفاعه، ويبدي استعداده للقتال فيها حتى النفس الأخير، ولم يكن حديث بشار الأسد، في خطابه بدمشق قبل شهر عن الأولويات العسكرية وسبب الانسحاب من منطقة دون أخرى سوى تعبير متأخر عن سياسة مطبقة منذ مدة طويلة، وبرزت معها دعوات بعضها معلن وبعضها الآخر لاحتفاظ نظام الأسد “بسورية المفيدة”، والتفاوض على كل شيء ماعدا التخلي عن حدودها.
التقسيم إذن، فيما لو كان سيناريو حتميا، منوط بـ”سورية المفيدة” بالنسبة لنظام الأسد، وهو على كل حال الخيار الأسوأ الذي يمكن أن يقبل به النظام في نهاية المطاف، وكان هذا يقتضي إحكام السيطرة على القلمون، التي أتاحت له السيطرة على معظمها تأمين الامتداد الجغرافي للعاصمة دمشق مع الحدود اللبنانية، حيث مقر حلفائه من حزب الله والجماعات اللبنانية الموالية للحزب، لكن “معركة القلمون الكبرى” التي كان يعد لها حزب الله ومليشيات أخرى، سبقها سلسلة هزائم وخسائر فادحة لحقت بالنظام في إدلب، حيث أصبحت القوى العلوية في اللاذقية في مرمى نيران الثوار، ودرعا التي اقترب ثوارها من دمشق، ولما أراد حزب الله استعجال معركة القلمون تحت وطأة تلك الهزائم فوجئ بإعداد مسبق لدى ثوار المنطقة، وحكمت المعركة بين الطرفين قاعدة الكر والفر، ولم يفلح في التقدم نحو الجرود التي تحجز ريف دمشق عن الحدود اللبنانية، والتي أصبحت معقلا للثوار السوريين.
وعلى وقع معارك القلمون، قام نظام الأسد في أبريل/ نيسان الماضي بإيفاد وزير الدفاع، فهد جاسم الفريج إلى طهران، لمناشدتها زيادة دعمها الجيش والزج بأعداد أكبر من المليشيات والقوات الإيرانية لحماية العاصمة من السقوط، وهو مطلب لم تتحمس له إيران كثيرا، بل ذهب أبعد من ذلك، فقد اقترحت على بشار الخروج من العاصمة إذا اندلعت معركتها المنتظرة، والانسحاب إلى العمق الجغرافي للحاضنة الشعبية للأسد، لقطع الطريق على استنزافه واستنزافها، بعد أن أثقلت كاهل اقتصادها عقوبات دولية قاسية.
دولة مضمونة الولاء
الرؤية الإيرانية في مقترحها هذا تتلخص في أنه لا ضرورة للتمسك والإنفاق الهائل على كل المناطق التي يريد النظام التمسك بها من باب الاحتفاظ بـ”سورية المفيدة”، بل يمكن له الانكفاء في دويلة علوية، في محافظات اللاذقية وطرطوس والقسم الأكبر من ريفي حمص وحماة، علما بأن مدينة حمص خاضعة أساسا لسلطة النظام ولم يبق فيها سوى حي الوعر الذي لا تمر عبره الطريق الدولية خارج سيطرته، وبالنسبة لمدينة حماة فهي خاضعة بالكلية لسلطة النظام، ما يوفر أضلاع المربع الذي يمكن أن تقوم عليه دولة قابلة للحياة، ومن ثم يمكن فهم قيام وفد إيراني، لا سوري، بالتفاوض مع قوات المعارضة في حمص العام الماضي لخروجهم من أحياء حمص القديمة، مقابل تأمين خروجهم وعائلاتهم وعدم التعرض لهم بالأذى نحو الريف الشمالي للمحافظة، وهي عملية سعت إيران لاحقا لتكرارها في مناطق أخرى.
أمير الموسوي، المحلل الإيراني المعروف بمواقفه التي تعبر عن التوجهات الإيرانية الرسمية، كتب على صفحته في فيسبوك، بالتزامن مع مطالبة دمشق لطهران بدعم إضافي، ما مفاده أن بإمكان “القيادة السورية” ترك دمشق، لقطع الطريق على محاولات استنزافها هناك، ونقل العاصمة إلى مدينة طرطوس (المدينة السورية الوحيدة ذات الغالبية العلوية) مؤقتا، ريثما تستعد جيدا لاستعادة زمام المبادرة في البلاد، وترافق هذا مع إعلان طهران عن افتتاحها قريبا خطا بحريا مع مدينة طرطوس لزيادة التبادل التجاري بين “البلدين”، وذلك خلال وجود وزير خارجية الأسد وليد المعلم في إيران، في محاولة يائسة للحصول على دعم أكبر لتعزيز السيطرة على دمشق وتأمينها في وجه أي معركة قد تندلع في أي لحظة، بعد فشل زيارة الفريج في ذلك.
الدولة العلوية، أو ذات الحكم العلوي، الذي لا يضم دمشق، هو السيناريو الواقعي، بل والأمثل إيرانيا، فهي دولة لا يمكن لها الخروج مستقبلا عن قيد التبعية لطهران، فهي مضمونة الولاء ويمكن تسويق الاعتراف بها في بعض المحافل ولدى بعض الدول العظمى، ولكن هذا السيناريو لا يعدو سوى مغامرة صعبة وخطرا محدقا بالنسبة للطائفة العلوية المحيطة ببشار الأسد، ودائرة حكمه الضيقة، فهي دولة لن تحظى باستقرار مضمون ما دامت تقع في محيط معاد، ولا تبدو التجربة التاريخية غداة الاحتلال الفرنسي مغرية لتكرارها اليوم، ومن ثم فهو مرفوض بالنسبة للأسد والعلويين من حوله ما لم يدفع إليه عملا بسياسة “حافة الهاوية”.
الحصان السوري
وبعد عودة وزير الدفاع في حكومة الأسد من طهران بخفي حنين، برزت حالة من الاستياء، في الأوساط الصحافية الموالية للأسد ونظامه، من الرفض الإيراني لفكرة الاحتفاظ بالعاصمة وغيرها من المناطق، وتفضيل طهران التركيز على الدويلة العلوية في الساحل ومحيطه، باعتبارها الخيار الوحيد الذي يمكن لطهران أن تراهن عليه. وفي هذا الصدد كتب الصحافي الأردني المعروف بقربه من نظام بشار الأسد في صحيفة الأخبار اللبنانية المحسوبة على حزب الله مقالة عنونها بـ”سورية؛ لا تتركوا الحصان وحيداً”، معبرا فيها عن استيائه من تركيز إيران على الملف اليمني، وغض النظر عن “التدخل التركي” في الشمال السوري، قاصدا تحرير إدلب، منذ أواخر مارس/ آذار.
وفي إشارة منه إلى مطالبة طهران لحليفها الأسد باللجوء إلى خيار الدولة العلوية، ورفض النظام لهذه المطالبة، قال حتر في مقاله المنشور بتاريخ 29 أبريل/ نيسان: “القوات المسلحة السورية -التي أثبتت كفاءة وبطولة غير مسبوقتين خلال أربع سنوات من حرب ضروس- ليست في وارد الاستسلام أو الانكفاء. كما أن القيادة السورية ليست في وارد تقديم تنازلات تمس السيادة السورية ونهجها السياسي”، خاتما مقالته بالقول: “الجيش الباسل، حصان أصيل، يجرّ وراءه، وحيداً، عربات محور المقاومة كلها؛ لا تتركوا الحصان وحيداً!”.
وكشفت المفاوضات التي خاضتها إيران مع حركة أحرار الشام التي يتبع لها معظم المقاتلين في مدينة الزبداني، عن معطيات جديدة تؤكد مساعي التقسيم لدى إيران، واستعدادها لتقديم تنازلات من قبيل التخلي عن قرى شيعية في إدلب (كفريا والفوعة) مقابل استكمال خارطة الدويلة المطلوبة. فقد اشتعلت في الزبداني منذ أسابيع أحدث المعارك في ريف دمشق، بعد أن سدت أبواب القلمون عن المزيد منها، في محاولة جديدة لإثبات أن النظام ما زال قادرا على حماية محيطة الحيوي، بل والإمساك بزمام المبادرة، وعدم وجود ضرورة للدخول في سيناريو الانكفاء عن دمشق، وعرضت طهران خلال المفاوضات على أحرار الشام خروج مقاتليهم بسلام وعائلاتهم من المدينة، وهم جل من بقي فيها، مقابل إخلاء قريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين، الجيب الوحيد المتبقي للنظام في محافظة إدلب، وهو عرض رفضه الثوار.
العرض الإيراني كشف عن استعداد طهران لمساعدة حليفها في إثبات نفسه من جديد في دمشق ومحيطها، لكنه كشف أيضا عن أمرين؛ مقدار تأثيرها في قرار حليفها بل واستعدادها لاتخاذ القرار عنه إن لزم الأمر، والآخر استحضار سيناريو التقسيم خلال أي عملية تفاوض قد تدخل فيها إيران، وإن لم تكن مقتنعة تماما بجدوى التمسك بدمشق، على المديين المتوسط والبعيد.
(سورية)