التلميذُ المددُ بصدرٍ عارٍ أمام سارية علم …
عبدالله ونوس
في الملمات … وكما يحصل دائماً يزورني الطفل الذي كنتهُ في أيامٍ ولّت … في المحن أغطّي عُريي بمريلةِ المدرسة بصفوفها الأولى .. لها لون الوحل وجيوبها الخاوية مبقّعة بالحبر الأزرق .. لها صفٌ من الأزرار ـ كلّما تذكّرت تلك الدوائر الخرافية بثقبيها أُصاب بكآبة .. لا يخرجني منها سوى النوم على وسادةٍ من عرق ..
من السهل علينا التعلّق بالتفاصيل … ولكن هاوية الجنون أن تتذكر المرحلة كحالة كاملة ..
بالأمس أستيقظت مرعوباً بعد أن طرق رأسي حلماً إستعاديّاً … المذهل في الحالة أنني لم أكن نائماً إطلاقاً … كيف يباغتك كابوسك وأنت متيقّظٌ كسيفِ الخائف .. كدوريٍ يلتقطُ فتاتاً عن رصيفٍ في وضح الأقدام .. يباغتني شئٌ كان حسابي على زواله هو 23 سنة بالضبط … وكان لي من سنوات الندم على مقاعد الدرس عشرُ سنينٍ بالتمام والكمال ..
لا اتذكر اليوم ولا الشهر ولكن كحساب البدوي أتذكر أن الصقيع حينها كان معطف الأرض .. وأن مطراً جاء قبل أسابيع وترك بركاً من الجليد لم تجف في باحة المدرسة في قسمها الترابي… أحاول ألاّ أستفيض ولكن أن تلعب دور راوية البؤس فلا بدّ من التفاصيل …
قبل انتهاء يومٍ ما في المدرسة أخبرنا ما يسمى حينها أستاذ التربية العسكرية أو أتذكر أننا كنا نقول عنه ( مدرّب ) بأن اليوم مساءاً سنقوم بمسيرة مشاعل … وعليكم الحضور بمشاعلكم إلى الملعب البلدي المجاور للإنطلاق من هناك … وللتوضيح المشعل هنا لا يشبه أبداً ذلك الشيء الأنيق الذي كنا نراه في بوسترات الحزب .. فهو كان عبارة عن صفيحة معدنية لمادة غذائية ما مملوءة بالتراب المشبع بالمازوت ويدق لها عصا بشكل جانبي لكي يُحمل بها .. ما فاتني ذكره أن مناسبةً وطنية كانت السبب لمسيرتنا تلك .. ولربما كانت استثنائية حينها .. لأن المناسبات المجدولة على التقويم كانت تعطّل في أيام القر .. فآخرها كان 16 تشرين الثاني .. وأوّلها كان 8 آذار .. ولكن ما بين التاريخين كان ثمة العديد من الاستثناءات والسوريين يعرفونها بالضبط في تلك الأيّام …
لا أدري لماذا حضرت إلى المكان والزمان المحددين ولم أصنع مشعلاً لآخذه معي … ظنّاً مني أنني الوحيد الذي سيحضر بلا مشعل ولن يلاحظ ذلك أولي الأمر .. لكن المفاجأة أن عدد الحاضرين بلا مشاعل كان كبيراً .. فالأسماء التي دونت ملأت صفحتين على دفتر ذلك المدرب الذي أتذكره الآن باسمه الثلاثي وسحنته الكلبية وصوته الرفيع كسلكٍ معدني .. ولربما لو نسيته للحظة فلن أنسى مسدسهُ المدسوس تحت نطاقهِ العريض .. والذي حينها كنت أظن أنَّ مسدسه يساوي وزنه تماماً ..
تمت مسيرة الدخان الأسود ورائحة المازوت كما خُطط لها .. حيث انطلقنا من الملعب البلدي المجاور للثانوية إلى ساحة البلدة والتي ربما زوراً تسمى ساحة .. وتفرقنا هناك كجيشٍ مهزوم بوجوه سوداء من أثر دخان المشاعل وثياب المدرسة المبقعة بالوقود .. نضحك ولا نلوي على شئ ..
لم أرى ما رويته في كابوسي ذاك ، فهو تقديم للرؤية التي ستبدأ الآن ..
الدرس الأول من اليوم الثاني .. ولا ادري لماذا أذكر أنّه كان فلسفة ..
الباب يفتح دون أن يقرع .. صاحب السحنة الكلبية يدخل ويقول لمدرس الفلسفة ودون أدنى تهذيب .. لو سمحت أستاذ نريد فلان وفلان ….. إلخ ..
بعد قليل وعلى البلاط الكالح لساحة تحية العلم في المدرسة .. كنّا ما يزيد على الخمسين تلميذاً ممدين بصدورٍ عارية على معطف الصقيع وبأيدٍ مشبوكةٍ خلف الظهر وأصحاب السحن الكلبية كانوا أربعة يدورون بيننا ويكيلون لنا الشتائم والتهم .. وواحدٌ منهم كان يحمل مكبر صوتٍ بلونٍ أحمرٍ وأبيض وهو صاحب الصوت السلكي ويصرخ به …
الآن لا أتذكر ما كان يقول .. ما أتذكره بالضبط أننا بقينا نحن التلاميذ على بلاطٍ بدرجة التجمد ، عراة الصدر ، مُمدين في ساحةٍ أمام ساريةٍ سوداء لعلمٍ ممزق نُعاقبُ في ذلك الصباح المبارك .. لأننا حضرنا مسيرة الظلام بدون مشاعل !!!