التوافقية والسفير السوري
زياد ماجد
يَعتبر منظّر”الديمقراطية التوافقية” وأبوها الفكري أ. ليبهارت أن موقف الدول التي تعتمد التوافقَ فلسفةَ حكم في ما خصّ السياسة الخارجية يكونُ الحيادَ كلّ ما سبّب الخلاف تجاه قضايا هذه السياسة انقسامات حادة بين جماعات المواطنين. وبما أن التوافقية لا تُعتمد إلا في الدول حيث السمة الغالبة على الانقسامات المجتمعية هي عمودية (إثنية أو عرقية أو دينية أو لغوية…)، فإنه من المرجّح إِنْ احتدّت الخلافات أن تتّخذ الطابع العامودي نفسه، مع ما يعنيه الأمر من تحوّلها خطراً على الاستقرار وعلى استمرار التعاقد السياسي نفسه.
ولمتابع الشأن اللبناني، حيث التوافقية قائمة (ولَو على وهن) منذ دستور العام 1926 وميثاق العام 1943، أن يتذكّر أن الخلاف بين اللبنانيين حول التموضع الخارجي لطالما كان منطلقاً لصراعات مريرة تعكس هشاشة الإجماعات الوطنية من جهة، وتتّخذ حدود الانقسامات حول المسائل الداخلية من جهة ثانية.
هكذا، كان للنّزاع حول الانخراط في حلف بغداد مقابل تأييد الحلف الناصري أن أطاح بالاستقرار وتسبّب بأول اقتتال أهلي بين مناصري الرئيس شمعون ومعارضيه العام 1958. وهكذا أيضاً تحوّل النزاع حول سلاح المقاومة الفلسطينية وشكل الانخراط في الصراع مع إسرائيل في أواخر الستينات من القرن الماضي الى عنصر تفجير للتناقضات الداخلية بين دعاة تغيير النظام وخصومهم الرافضين المسّ بصيغته وبقسمته التوافقية، وما كانت تتيحه لهم من مكاسب. ولا حاجة لسرد قصص “الخلاف الخارجي” بين اللبنانيين منذ العام 2004، ومواقفهم تجاه أحلاف المنطقة ومشاغلها النووية. فهي ما زالت حيّة، مع فارق أساسي داخلي هذه المرة، هو تبدّل ديموغرافي كبير وفائض قوةِ طرفٍ مذهبي بحاله (حزب الله) مدجّج بالسلاح والإيديولوجيا.
وإن حاولنا اليوم تقييم الموقف “الرسمي” اللبناني تجاه الوضع السوري المستجدّ منذ انطلاق الثورة قبل 18 شهراً، على أساس المنطلق التوافقي، لوجدنا أن الدولة اللبنانية غالباً ما تجنح نحو انتهاكه، وتعيد إنتاج العوامل التي غذّت أزمة العام 1958، أو وسّعت التوتّرات التي سبقت حرب العام 1975، ثم عمّقت الانقسامات منذ العام 2004.
فالنأي بالنفس لم يُطبّق على الدوام كما يدّعي أهل الحكم، لأن الاستمرار بالاعتراف بشرعية النظام السوري مثلاً، في وقت صارت الشرعية هذه ساقطة (أو على الأقل متداعية) داخل سوريا ومعدومة في معظم دول العالم ومُتنازَعٌ حولها لبنانياً، يُعدّ موقفاً ينتهك الحياد، كون الأخير يفترض تجميداً لعمل السفارة (وللخلافات حولها) بانتظار انتهاء “الأزمة” في سوريا.
والحياد يفترض أيضاً وقف كل أشكال التعاون الأمني والمخابراتي ورفض تسليم أي سوري أو سورية الى سلطات النظام في دمشق بمعزل عن الاتفاقيات السابقة، لا سيّما وأنها تتناقض في الظرف الراهن مع اتفاقيات ومعاهدات دولية لها الأسبقية على كل أشكال التعاون الثنائي.
وهو يفترض أيضاً وأيضاً التمنّع عن كل تصويت لصالح النظام السوري في أي اجتماع عربي أو دولي، وبمعزل عن الموضوع المطروح.
أما المواقف السياسية والثقافية وحرية التعبير والرأي الفردية والجماعية والمبادرات المواطنية أو أشكال الإعلان عن انحيازات هذا الطرف اللبناني السياسي أو ذاك الى نظام الأسد أو الثورة، فشؤون لا علاقة للسياسة الخارجية بها، طالما أن غياب الإجماع يُلزِمها في “المحصّلة الرسمية” أن تكون محايدة…
مغادرة السفير السوري إذن وإقفال السفارة هما من شروط “الديمقراطية التوافقية” في السياسة الخارجية اللبنانية. وربما يجدر بالمطالبين بهما التركيز على هذا الأمر، عوَض التسابق على رفع الأعلام الحزبية وغضّ الطرف عن الشعارات العنصرية، وتحويل قضية هامة ودقيقة الى ما يشبه تصفية الحسابات المحلّية…
لبنان الآن