التوثيق الحسي أم التوثيق التاريخي؟
عبد الوهاب عزاوي
كنت أفكر وأنا أقرأ أعمال كونديرا التي تحضر فيها المرحلة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا (سابقاً)، في الفرق بين التوثيق الحسي والتوثيق التاريخي. أليس كل ما نقرأه وندرسه في التاريخ يتكثف في جوهر حسي؟ أليس موقفنا من الإبادة التي تعرّض لها الهنود الحمر موقفاً عاطفياً في الدرجة الأولى؟ أتحدث عن قارئ عادي وليس عن شخص متخصص في التاريخ أو علم الاجتماع مثلاً. أتذكر مقطعاً من رواية تروي قصة إعدام لوركا، حيث يسأله المحقق قبل إعدامه عن مقطع يقول فيه: “أنت غجرية جالسة أمام بيتها وفي يدها ثدياها المقطوعان الموضوعان على طبق”. كان المحقق يسأل لوركا بحقد عما إذا كان قد شاهد هذه الحادثة فعلاً؟ لم أتأكد إن كان المقطع للوركا أصلاً أم نُسب إليه. المهم في الفكرة أنه بغض النظر عن كل ما قرأته حول الحرب الأهلية الإسبانية، يظل هذا المقطع التكثيف الأكثر حضوراً حولها، إنه وثيقة حسية قد تكون متخيلة. لكن هنا يبرز السؤال الأصعب: هل الكاتب موضوعي أم حيادي (مع العلم بعدم وجود حياد في الأدب، كما أن الموضوعية ليست شرطاً فيه)؟ من الممكن أن نداور على ذلك بتحوير السؤال: هل هناك ما يضمن أن الكاتب نزيه في نصه؟ ألم يتم اللعب في السينما لتظهر أميركا على أنها بلد شجاع في الحرب العالمية الثانية، مع العلم أنها أجبن البلدان المشاركة في الحرب وأكثرها تفاهة وانتهازية؟ ألم يتم خلق صورة نمطية بائسة ووضيعة عن العرب في السينما الهوليودية؟ من جهة ثانية هل هناك حيادية أو موضوعية أو نزاهة في كتابة التاريخ القريب أو المعاصر أو اليومي أو ذاك البعيد؟ ألم تتحول الجرائم إلى انتصارات وفتوحات؟ ألم يؤلَّه أشخاص ويُذَلّ آخرون من دون أي نزاهة؟ هنا ينتهي السؤال حول التوثيق الحسي في وجه التوثيق التاريخي إلى لا شيء، إلى حالة عقم وفقدان ثقة. مع ذلك لا يفقد غناه.
النهار