التوريث: ضعف الأب أمام تسلط الابن!
غسان الإمام
في مطلع تسعينات القرن الماضي، بدت أعصاب حافظ الأسد مستريحة. وقبضته مسترخية. وهامته عالية. فقد وطد الأمن. والاستقرار. والاستمرار، في الداخل. وسجل انتصارات كبيرة في الخارج. عادت قواته من الخليج (14 ألفا بقيادة اللواء علي حبيب وزير الدفاع الحالي)، بعدما شاركت، تحت القيادة الأميركية، في إخراج قوات صدام من الكويت.
بعد هزيمة صدام المهينة (1990)، بدا حافظ الأسد اللاعب الأكبر. والأهم. والأذكى، في المنطقة. فقد وثق علاقته الخليجية. وحكم محور علاقته بالسعودية ومصر توجهات السياسة العربية. وتجلت حنكته السياسية بعلاقة سوريا متكافئة مع إيران، بحيث لم تُثِر في ذلك الحين، اعتراض محوره الثلاثي العربي.
كان لبنان النصر السوري الأكبر. بعد نفي العماد ميشال عون إلى فرنسا، أحكم الأسد قبضته على هذا البلد الصغير المجاور. فقد أنهت القوات السورية الحرب الأهلية فيه. وتهربت من الانسحاب منه، وفق اتفاق الطائف (1989) الذي أعاد ترتيب العلاقة الرسمية والسياسية، على قدم المساواة، بين الطوائف الثلاث الكبرى فيه.
فرض الأسد النائب (الزحلاوي) المخضرم إلياس هراوي رئيسا على لبنان، ضامنا عدم اعتراضه على تورم قوة حزب الله بالأسلحة الإيرانية/السورية، فيما تم تجريد سائر الميليشيات الأخرى من السلاح. وأدخل سمير جعجع قائد ميليشيا «القوات اللبنانية» المارونية السجن. وتم تنصيب رفيق الحريري المقرب من السعودية رئيسا لحكومة وفاق وطني.
في هذه الأجواء المريحة، كان أمل السوريين كبيرا في تحقيق انفتاح سياسي تاقوا إليه، بعد عشرين سنة من التدجين في قفص الأسد المغلق. غير أنهم أصيبوا بخيبة كبيرة بلغة ناعمة، وصوت خفيض أقرب إلى الحشرجة، أبلغهم الأسد (1992) في الاحتفال بالتجديد لنفسه للمرة الرابعة (كل مرة سبع سنوات) أن الديمقراطية الغربية لا تصلح لهم! وأن عليهم ألا يتوقعوا «تغييرات» جذرية.
وبالفعل، أعيد تكليف الحزبي (الحوراني) محمود الزعبي تشكيل الحكومة، محتفظا بباقة الوجوه القديمة. وفي مقدمتها الوزيران السنيان العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع. والحوراني الآخر فاروق الشرع وزير الخارجية.
الواقع أن الأسد، في إعراضه عن إشراك الأغلبية السنية (80 في المائة من السكان) في صنع قراره، اعتمد مبدأ الاستعانة بوجوه سنية حزبية، هي دون المستوى العادي للذكاء والكفاءة، وجوه مطيعة أتقنت فن البقاء على الهامش، في نظام تحكمه، بقوة الأمر الواقع، أقلية طائفية علوية.
لكن زواج المتعة بالسلطة، ما لبث أن تخللته الأحزان العائلية القاسية على الأسد الذي بقي له من الحياة عشر سنوات فقط (مات في عام 2000). في عام 1999، قتل نجله باسل الذي كان يعده لوراثته، خلال ممارسته هواية قيادة سيارة (سبور). وكانت سيارات السبور الغالية الثمن قد أصبحت منهل المتعة اللذيذة، لأبناء النخبة، وفخا لموتهم، اعتبر المقدم باسل «شهيدا»! وخطب الأب داعيا السوريين إلى الحفاظ على خيوله (في إصطبلات مكلفة)، في وقت كان المعدمون منهم ينبشون لقمة العيش من فضلات صناديق النفايات.
تتابعت الأحزان. في عام 1992، ماتت السيدة ناعسة والدة الرئيس الأسد، بعدما أنجبت للطائفة 11 ولدا. لم يبق منهم حيا سوى أصغرهم رفعت (74 سنة). الأحزان والأحداث تركت بصمات واضحة على صحة الرئيس وجسده. في التسعينات، راحت صحته تتدهور، بفعل جملة أمراض مزمنة: أزمات قلبية متلاحقة منذ عام 1982. مرض السكر. سرطان البروستات (عملية استئصال 1996). وربما أيضا سرطان في الدم. متاعب في القدمين بعد محاولة اغتيال (إخوانية) في أوائل الثمانينات.
حياة الأسد المتقشفة. عمله المتواصل 16 ساعة يوميا، في ضوء مائة سيجارة كل 24 ساعة. كل ذلك سرع التدهور، بحيث بات 11 طبيبا يلازمونه، في غدوه ورواحه، مع منع صارم له من التدخين، واتباع نظام غذائي مناسب. وفي سنواته الأخيرة، بات يجد صعوبة في تركيز وتجميع أفكاره، ويتلعثم في التعبير عنها بدقة.
على أية حال، صمم الأسد على متابعة عملية التوريث، مع نفيها تماما أمام الصحافيين. بعد حرمان رفعت الشقيق، ومقتل باسل الابن، استدعى الأب، على عجل من لندن، النجل (الاحتياط) بشار الذي كان يتابع دراسته التخصصية. كطبيب عيون. في انصراف الأب لتدريب وتأهيل باسل للوراثة، لم ينطو بشار على أي طموح سياسي، غير أنه في الانتقال من العلم إلى السلطة، بدأ أكثر تعقيدا من بساطة باسل الفروسية، وأقل منه قدرة على كسب الأقوياء. أو الاختلاط بالناس العاديين.
أظهر «الدكتور» انضباطا وانهماكا في عمله الجديد، كمستشار ومساعد لأبيه. وكان ذلك مصدر راحة للأب الذي أتعبته مزاجية باسل. لكن في المقابل، راح بشار يلح إلحاحا متزايدا على أبيه للتخلص من فريق «الحرس القديم» الذي يتحكم في مفاصل الدولة العسكرية المدنية! وكلما ازداد الابن إلحاحا، ضعف الأب عاطفيا أمام الابن، إلى درجة مسايرته في إزاحة رجاله القدامى، مستخدما حرفته التي لا تبارى، في سحب البساط من تحت إقدامهم، باستمالة أو تحييد مساعديهم.
وهكذا، نجح بشار نجاحا مذهلا في إزاحة الكبار الذين كانوا، في ظنه، يشكلون خطرا وعقبة على توريثه. ثم على ترئيسه. خلال ستة أعوام، تم تسريح اللواء علي الشيخ حيدر قائد القوات الخاصة. وإكراه اللواء علي دوبا مدير المخابرات العسكرية، واللواء محمد الخولي قائد سلاح الطيران على التقاعد. وإزاحة رئيس الأركان العماد حكمت الشهابي الراعي والعراب لرئيس الحكومة محمود الزعبي الذي صرف من الخدمة، قبيل شهور قليلة من وفاة الأب (انتحر الزعبي أو نحر عندما اعترض على توريث بشار).
بل استقال رفعت عم بشار (الذي يعيش في المنفى) من منصبه (1998) كنائب لرئيس الجمهورية. وتمت تصفية المصالح الاقتصادية والتجارية للعمين رفعت وجميل. و«ضبط سلوك» أولادهما.
في إزاحته «للخصوم»، استخدم بشار لدى أبيه المتعب والمرهق، كل الذرائع والاتهامات الصحيحة وغير الصحيحة: التقدم في السن. الترهل في العمل. سوء استخدام السلطة. تجاوز القانون. تحقيق مكاسب مادية. في المقابل، تهافت على بشار أهل الثقة والطاعة في النظام (طلاس. فاروق الشرع. علي حبيب. آصف شوكت. وقادة الأجهزة الأمنية العشرة..) فشكلوا جميعا بساط الريح الذي حمل «الدكتور» إلى رئاسة الدولة والحزب فور وفاة أبيه.
لعلي مسست بالأذى هالة الشعبية «الافتراضية» التي تشكلت، في تصور عام سوري. وعربي. ودولي لبشار، كرئيس إصلاحي. عصري. منفتح. ومالك لبراءة عذرية متطهرة. أمامي 11 سنة رئاسية (2000/2011) لأثبت، بالأدلة والوقائع، على أن هذا الشاب لم يكن على مستوى أبيه في الذكاء. والحنكة. والممارسة.
هذا الحكم (الشخصي) السلبي يسبب ألما وحزنا لديّ. فقد دعاني بشار يوما إلى العودة إلى سوريا. لم أعد. لاعتقادي بأن الأسلوب الذي اختاره، في مواصلة اغتيال السياسة في بلده، وريثا ورئيسا، سيؤدي به يوما إلى أزمة الحاضر: الانتفاضة الشعبية عليه. وعلى طريقته الرهيبة في التعامل معها.
كنت اليوم مع «الدكتور» الوريث، في الثلاثاء المقبل، مع بشار «الرئيس».
الشرق الأوسط