التَّرجَمةُ، قَلْبٌ في ‘نظام’ الأفكار ؟: صلاح بوسريف
يشغلُني كثيراً موضوع الترجمة. ليستِ الترجمة مجرد نقل لِنَصٍّ من لغة إلى أخرى، بل هي نقل لرؤيةٍ فكرية ـ جمالية، من ثقافة إلى أخرى، بما تحمله هذه الرؤية من قِيَم، وتعبيرات، هي، بالضرورة، غير ما هو موجود في ثقافتنا، أو يختلف عنه، من حيث القيمة، ومن حيث المعنى.
ما يعني أنَّ الترجمة، هي جِسْر معرفةٍ، واتِّصال بالآخر، هذا الذي، إمَّا لانعرف لغته، ونرغب في معرفته من خلال فعل الترجمة، أو لا نعرف عنه شيئاً، ونستعمل الترجمة كوسيط لمعرفته، من خلال ما ينتجه من رموز ودلالات فنية ومعرفية، ما قد يُتيح لنا إغناء فكرنا ووعينا، بما قد تتيحه لنا الترجمة من أمور لم نكن نعرفها من قبل.
المُتَرْجِم، بهذا المعنى، هو مبدع أفكار، ومفاهيم، بما يُقْدِم عليه من اختيار، وما يكون اطَّلَع عليه، في اللغة التي يُتَرْجِم عنها من معطيات جديدة، ومن أشياء يرى أنها ستكون ذات أهمية في معرفتنا، وفي ثقافتنا، باعتبار ما ستفتحه أمامنا من آفاق، وما ستسمح به من إضافات، في رؤيتنا لذواتنا، ولهذا الآخر الذي نستضيفه في ثقافتنا، من خلال ترجمته للعربية. فنحن لا ننتقل من أرض إلى أخرى، بقدر ما ننتقل من سياق معرفي وجمالي، لسياق معرفي وجمالي مُغايِر، هو نوع من الحوار، والأخذ والعطاء، ونوع من اختبار معرفتنا، في ضوء معرفة الآخر. وهذا ما يفرض ألا تكون الترجمة، ترجمةَ لُغَةٍ، إلى لغة أخرى، بل ترجمة فكرٍ، ومعرفةٍ، وسياقات تاريخية وحضارية، ومعرفة بِنُظُم معرفة، هذا الذي نجلبه للغتنا، ولثقافتنا.
لكن، حين تكون الترجمة نقلاً لأعمال لا تحمل إضافات، ولا تُساعِد على اكتشاف هذا الآخر، في فكره، وفي معرفته ورؤيته، وفي نظام تفكيره، تحديداً، فالترجمة في مثل هذه الحالة تكون بلا قيمة، وتصبح عبئاً على صاحبها، قبل أن تكون عبئاً على الناشر، وعلى والقاريء أيضاً.
ليست العربيةُ لغةَ مُهْمَلاتٍ، ومُتلاشِياتٍ ثقافية وجمالية، فثمة نصوص وأعمال تُتَرْجَم للعربية، في الشِّعر، وفي الفكر، وفي النقد، وفي السرد، والفن، لم نَكُنْ في حاجة لها، لأنها لا تحمل قيمةَ العمل النوعي، الذي يكون مشروعاً في الفكر ، وفي الإبداع، أو طريقاً نحو المعرفة، بتعبير هايدغر.
هذا كان هو مشروع ‘بيت الحكمة’ في زمن المأمون، وقبله بقليل [الإشارات الأولى لبيت الحكمة تعود إلى هارون الرشيد، وثمة من يُرَجِّح أنه من الممكن أن يكون قائماً أيام المنصور والمهدي]. وكانت العناية بكتب الفلسفة والمنطق، وكتب الري، والزراعة، واستصلاح الأراضي، وغيرها من مجالات العلم والمعرفة، بما فيها علم الفلك والنجوم، وعلم الحِيَل [الميكانيكا]، من قبيل نقل الفكر العربي من مجال الاتباع، إلى مجال الخلق والإبداع.
الذين قرأوا تاريخ الثقافة العربية، خلال هذه المرحلة بالذات، سيلاحظون، أن ازدهار الفلسفة، والمنطق، كان لهما تأثير كبير في فكر، ونظر، ليس الفلاسفة العرب، بل والشُّعراء، وعلماء اللغة، والنُّحاة، وإلا بأي معنى يمكن تفسير نقد بعض الشُّعراء والنقاد، دخول تعابير فلسفية في لغة الشِّعر، التي كانت محصورة في كلام دون غيره، وبناء النحو العربي على المقولات العشر لأرسطو، في المنطق.
ومن الكتب التي تُرْجِمَت في مختلف العلوم، كتاب ‘الإلهيات’ لأرسطو، الذي تكلَّف الكندي الفيلسوف، بتحسين أسلوبه، أو مراجعته، بالتعبير الذي نستعمله اليوم، ومنتخبات من الإنيادات الثلاثة الأخيرة لبلوتينوس، وترجمة أعمال رياضية وفلكية. ما يُشير إلى أن الترجمة، في هذا العصر، وكانت امتدت إلى ما يزيد عن قرنين، في بغداد، كانت لحظة ثقافية، ولم تكن مجرد نقل، واختيار عشوائي لا يقوم على تفكير، أو استراتيجية ثقافية محددة. ولعلَّ في التحريض على الترجمة، آنذاك، ما يُشير إلى معنى القول اللاتيني المأثور ‘إنَّ الكُتُب لهل عقلية خاصة بها، وهي، بعد نقطة معينة، تنتهي بأن تفرض وجهة نظرها’، أو بالأحرى، ما يتركه نظام فكرها من أثر، في الثقافة التي تنتقل إليها.
ولعل في ترجمة كتاب هايدغر، ‘الكينونة والزمان’، للعربية، بما فيه من جُهْد في الترجمة، والمقارنة بالترجمات السابقة في الفرنسية والإنجليزية، قياساً بما كان المترجم يستجلبه من اللغة الأصل للكتاب، هي تعبير عن هذا المعنى المعرفي للترجمة، الذي هو ليس مجرد نقل سطحي، حرفي لأعمال، لا قيمة لها، من حيث ما يمكن أن تضيفه للقاريء العربي، وربما لمن يعي جيداً، معنى أن يقرأ بعض هذه الأعمال المُتَرجَمة.
ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، لأول مرة، هو حَدَثٌ في ذاته، لِما له من قيمة في التأسيس لسياق فكري، هو بين التأسيسات الحديثة التي لا يمكن تفاديها، أو التفكير دون استحضارها، لا من حيث المفهوم، ولا من حيث البناء المعرفي، أو الفكر الفلسفي ذاته.
فالكتاب، في ترجماته للفرنسية والإنجليزية، التي هي أقرب اللغات لنا، كما انتقدها المُتَرْجِم التونسي، فتحي المسكيني، ربما سيحظى بأهمية خاصة، في الترجمة العربية التي هي ذهاب لِلُّغَة الأم، ومراجعة المفاهيم، من خلال المقارنة، والحوار، وأيضاً مراجعة أحد العارفين باللغة الألمانية، وبالفلاسفة الألمان، وبينهم مارتن هايدغر، المغربي أحمد المصدق، الذي ترجم هو الآخر كتاباً مهماً لهايدغر، هو ‘السؤال عن الشيء، حوا المباديء الترنسندنتالية عند كُنْتْ’.
ثمة كُتُب مهمة. شخصياً، وجدتُ فيها أفقاً مهماً لتفكير بعض المفاهيم ومراجعتها، رغم أنني أتحفَّظ على ترجمات كثيرة، خصوصاً حين يكون المُتَرْجِم، شخصاً يعرف لغةً، ويجهل أخرى، أو هو مترجم بلغةٍ واحدة، وكأنه ينظر بعين دون أخرى، ما يمكن قياسُه بقصر النظر، طبعاً.
لا معنى للترجمة، دون استراتيجية ثقافية ـ معرفية، ولا معنى لترجمةٍ تكتفي بمعرفة لغة دون أخرى، أو إتقان لغة، والعَرَج في الأخرى، فالترجمة تفرض معرفةَ اللُّغَتَيْن، بنفس القدر، والقدرة على تعلُّم شعريتهما، أو جماليتهما، باعتبار الإحساس بهذه الشِّعرية، أو الجمالية، هو إحساس بقدرة النص على القول، والتعبير، وصياغة مفهوماته، بغض النظر عن خشبية لغة العلم، حين يكون علماً صرفاً، أو كما يقول ج.جاك لوسركل، لا بُدَّ أن نُمارِس نوعاً من ‘العنف المُتَعَمَّد على اللغة’، أو ‘العنف اللذيذ’ بالتعبير الفرنسي، كون اللغة، خصوصاً في فعل الترجمة، ‘تستنفر وتشجع وتمارس ما يفعله بها ذلك الصائغ المجهول، واللاعب على الكلمات’.
شعرية الترجمة، ليس بالمعنى التحريفي السطحيّ المبتذل، هي بين ما يجعل من الترجمة تتخفَّف من أعباء ‘الأصل’، الذي هو لا في بنيته، ولا في نظامه التعبيري، المجازي بشكل خاص، يمكنه أن يكون مقابلاً صِرْفاً، للعربية، التي هي لغة كثيرة المُراوغة، والزَّوَغان، وحَمَّاة أَوْجُهٍ.
غياب مؤسسات للترجمة، وبقاء الترجمة، في إطارها الفردي، الذي يقوم على اختيارات كُتَّاب ومبدعين، لا يمكنه أن يساعد على بلورة أفق لترجمة تُعِيد بناء مفاهيمنا، ورؤيتنا، ونظام معرفتنا، الذي هو نظام، لا يمكنه الانشراح، أو الانقتاح، إذا كان نظاماً دوغمائياً مغلقاً، يربط المعرفة باللغة، وبالهوية، ويكتفي بذاته، دون افتراض الحوار، كشرط للصيرورة، والانتقال.
القدس العربي