الثرثرة باعتبارها رواية/ أمجد ناصر
على الرغم من أن لا وصفة مسبقة للرواية، ولا خلطة جاهزة تفيد من يستأنس في نفسه القدرة على “خوض غمارها”، فإن الثرثرة ليست بالتأكيد الطريق إلى الرواية. هذا فن محكمٌ، بقدر ما يحاول توسيع حدوده والإغارة على الحقول الأدبية المجاورة له، والتهامها، يظلّ محكوماً ببنيةٍ لا مجال للثرثرة فيها. تريد أن تحكي حودايت وتثرثر وتؤنس مجالسيك، لا حرج عليك. افعل ذلك، لكن لا تسمّه رواية. تريد أن تكتب روايةً، وأنت لا تكاد تملك ذيل اللغة (ناهيك عن ناصيتها)، أفعل، فليست هناك شرطة خاصة “تذود عن حياضها”. ها هي دور النشر أكثر من الهم على قلب العربي، ومعظمها ليس أكثر من وسيط طباعيّ، إن لم يكن مطبعة فقط تسمّي نفسها دار نشر، ففي زمن عربيٍّ تتشابه فيه البقر، وتختلط على الناس الصور، يجوز أي شيء، وربما كل شيء. ولكل فولةٍ كيَّال، كما يقولون.
لا حرج على أحد. لا مانع. في الآونة الإلكترونية، يمكنك أن تصبح روائياً، شاعراً، طبيباً، عالم فلك، دجالاً من طراز رفيع. من سيقول لك لا، لا تفعل، أو ممنوع. أنت الآن حر. وأنا مع هذه الحرية، ولكن لا تفرض نفسك عليّ، باسم هذه الحرية، كاتباً. لا “تدقّ” بـ”التابوهات”، باسم الأدب، وأضطر، غصباً عن الذي جابني إلى الدنيا، أن أدافع عن حقك في كسر التابو، في مساءلة المقدّس، أو المدَّنس. أنت حرٌّ. أنا مع حريّتك على كل صعيد. لكن أرجوك لا تسم تفاهاتك هذه روايةً، لا تسمّها شعراً، لا تسمّها أدباً. قل إني أريد أن أكون حراً في التعبير وأكتب ما أشاء، لكن لا تحرجني، وغيري، بوضعك لاصقةً على “تعبيرك” تقول: رواية. خصوصاً رواية، لأن الشعر لا تدافعَ عليه، اليوم، كما يتدافع الآكلون على القصعة، فالتدافع يكون على الرائج والماشي في السوق، ولا شيء أفضل مما تسمى “رواية” عند عرب الربع الأول من القرن العشرين. أما حيال هذه الركاكة اللغوية، التدهور التام للقدرة على التعبير والأخطاء الفادحة، فلا تقل لي إنها لغة الشارع. الركاكة ليست لغة الشارع. لا تقل لي إنها لغة النثر. للنثر لغات وليس من بينها الثرثرة التي لا تكرج على السطح.
قبل بضع سنين، صدرت في بلد عربي واحد، وفي سنة واحدة، 500 رواية! هذا يعني أن هذا البلد العربي، الذي لا تقاليد روائية معروفة فيه، ولا تراكم عنده في هذا الفن الكتابي، لديه أكثر من 500 روائي! هل هذا معقول؟ ولكن أي شيء كانت هذه “الروايات”؟ طبعاً، ومن دون تردّد: أشباه حكايات وأشباه سير، وأشباه يومياتٍ تتنطع لفن أدبي مخيف اسمه: الرواية.
مئات الأشجار قطعت من أجل هذه “الطفرة” الأدبية، وعشرات المطابع دارت، وسفحت حبرها الأسود، في سبيل أن يرى هؤلاء أسماءهم على أغلفةٍ صقيلة. لو كان الأمر يتعلق بإنتاج حليب، طوب، حديد مسلح، أو قمر دين لكان خضع لفحص “مطابقة المواصفات”، فما كان منه مستوفياً “المواصفات” ذهب إلى الأسواق، وما لم يكن يُرمى في حاويات النفايات، أو يُعاد إلى منتجه الأول ليتدبر أمره. لكن أين هي مختبرات الأدب؟ الطبيعي أن تكون عند الجهة الناشرة. وهذا ما يحدث، بالضبط، في دور النشر الغربية التي تحيل المصنفات الأدبية إلى نقاد وخبراء في النوع الأدبي. وهذا لا يعني أن هؤلاء منزلون، ولا يعني أنهم لا يُخطئون في الحكم. بلى يُخطئون، وتمر من بين أيديهم دررٌ أدبية لا ينتبهون لها. لكن مع ذلك يظل هناك الحد الأدنى من المعرفة والقدرة على فحص النتاج.
العربي الجديد