صفحات الرأي

الثقافة العميقة لا الدولة العميقة/ مصطفى زين

 

 

قياساً على مفهوم الدولة العميقة الذي راج في بداية «الربيع العربي» يمكن أن نطلق على هذه البداية أيضاً اسم «الثقافة العميقة». الدولة العميقة تعني البيروقراطية المتجذرة التي لا يتغير فيها الموظفون مع تغيير الحكومات، ويشكلون عبئاً على أي حركة لتجديد الأجهزة والمؤسسات الرسمية، خصوصاً عندما يرتبط القائمون عليها بالفساد والترهل وعدم الإنتاجية، فأي تغيير يطاول مصالحهم المرتبطة بشبكة معقدة بدءاً من أعلى الهرم إلى قاعدته العريضة، وهم في العادة محميون من الطبقة السياسية.

في مصر، على سبيل المثال، كانت الدولة العميقة مستمرة في عملها، مستغلة حاجة المواطنين إليها، فيما طاول الانهيار أعلى الهرم السياسي ورجالاته، الذين يشكلون مع كبار التجار والعسكر، أوليغارشيا حكمت مصر على مدى عشرات السنين وأسست قواعدها السلطوية والتسلطية في المؤسسات، صغيرها وكبيرها، واستطاع هؤلاء -أو معظمهم- العودة إلى مواقعهم أو تحييد أنفسهم والانحناء أمام العاصفة، مستفيدين من الفوضى التي عمت المجتمع، بحجة تأمين الاستقرار الذي ساد في عهدهم، وخوف الناس من الحروب الداخلية. أما في بقية بلدان «الربيع»، في ليبيا على سبيل المثال، فلم تكن هناك دولة، لا عميقة ولا ضحلة، فانهارت كل المؤسسات، بما فيها مؤسسة الجيش، وعمت الفوضى، وعادت البلاد إلى عصور ما قبل الدولة.

الأخطر من الدولة العميقة الثقافة العميقة، فالأولى تمثل الوجه الحديث لإدارة المجتمع بينما الثانية تمثل بعده الآخر المستعصي على التغيير، ويحتاج إلى قرون لتجديد نفسه، من خلال الديكتاتورية والاستبداد أحياناً، وفرض مفاهيم جديدة تطاول المسلمات والبداهات التي تحولت إلى أوهام و «طواطم» يحرم المس بها. هذه الثقافة ومؤسساتها المعمرة أنتجت «القاعدة» و «داعش» والنصرة» وأخواتها، وأصبح المواطن في العالم العربي بين حدين: الخضوع للديكتاتورية أو الرضوخ لهذه الجماعات التي تمثل عمق المجتمعات، وظهرت إلى السطح لتعبر عن الملايين. وليس صحيحاً أنها ظواهر عابرة يمكن القضاء عليها بالسلاح وحده، فإن لها حواضنها ومؤيديها الغارقين في جهالة يسمونها نمط حياة وموت. هذه المنظمات ليست نتاج مؤامرة حيكت في الظلام، بل أفرزتها أعماق ثقافتنا المنتشرة وسط الأميين والمتعلمين، وبعضهم درس في الدول الديموقراطية الحديثة لكنه في الوقت ذاته بقي حبيس الماضي ورؤى القبيلة. يتصرف ويكتب على أساس أن الإرهاب مستورد، أو هو مرحلة في الطريق إلى الحداثة والتجديد.

والثقافة العميقة لا تقتصر على العرب أو المسلمين وحدهم، بل هي موجودة في كل المجتمعات، تتجلى أحياناً في شكل أحزاب دينية متطرفة، مثل اليمين الفرنسي أو البريطاني أو الصهيونية المسيحية في أميركا. وأهم تجلياتها كان في الدولة الإسرائيلية التي قامت على أساس وعد إلهي بأرض الميعاد. وأطرف ما في الأمر أن علمانيين يهوداً وغربيين يؤمنون بهذه الأوهام ويدافعون عنها، مثلما يؤمن بعض من مثقفينا بأوهام الإرهابيين ويدافعون عنهم.

الثقافة العميقة هي الأساس، ومن دون مناقشتها ونقدها سنبقى غارقين في الإرهاب والاستبداد والديكتاتورية، فهي التي تفرز وتؤبد كل هذه الظواهر.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى