الثقافة في حلب أثناء الحرب.. أين المثقفون؟/ انور محمد
أمام هذا الموت الذي يحصد السوريين على أنهم أضاح، وأضاح تكفيرية منذ أكثر من سنتين ونصف سنة، ماذا تفعل الثقافة/ الفنون والآداب والعلوم، خصوصاً إذا كانت هذه الثقافة مناوئة للحرية، وأنَّها وعلى مدى خمسين سنة عجزت عن خلق مثقفين لها رغم ما تهدره سلطتها على يد موظفي الثقافة من أموال؟
المتتبِّع لحال هذا الفعل سيجد أنَّ الثقافة المُنتجة طيلة هذه المدة كانت ثقافة زينة، انبنت على هيمنة حاكمين لم يؤنسنوها ويسيِّسوها تسييساً ديموقراطياً، فكل ما عشناه من أفعال لم يصل إلى خلق (حالة ثقافية) كما كانت تعيشها القاهرة وبيروت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وحتى لا نكون سوداويين فإنَّنا لا ننكر أنَّ هناك طفرات مهمة لكنَّها غير كافية، لأنَّها كما النباتات البعلية لا تكفي حاجتنا.
ولو قرأنا الفعل الثقافي في حلب خلال هذه الحرب المشتعلة منذ سنتين ونصف سنة وأكثر، سنرى أنَّ هناك أمسيات أدبية وندوات فكرية وعروضاً مسرحية وسينمائية ومعارض فنية، ربَّما من أبرزها في شهري آب وأيلول 2013 الماضيين مسرحية «جلجامش» إخراج إيليا قجميني، وأمسية غنائية لفرقة «سريون» بالتعاون مع الكنيسة الإنجيلية العربية بحلب، ومحاضرة عن العروبة والإسلام، وملتقى حواري حول «دور الهيئة الشعبية للمصالحة الوطنية في الحد من تداعيات الأزمة في سورية»، وفيلمان «صديقي الأخير» لجود سعيد و«حارس الصمت» لسمير ذكرى. وهو فعل يتَّفق مع السياسة النظرية لوزارة الثقافة لأنَّها نشاطات ثقافية لتسليتنا وليس لشفائنا- أنا لا أنكر أنَّ الفيلمين أثارا شجوناً وآلاماً سورية – وهما ليسا للتسلية، وأنَّ اختيارهما للعرض في هذه الأحداث هو اختيار ذكي من قِبل مدير الثقافة ومدير نادي السينما بحلب، لأنَّهما فيلمان في جانب منهما ينتقدان الفساد والجهل الرسمي الذي جرَّ البلاد إلى هذه الحرب، وقد حضرهما جمهور كثير، بينما في غيرهما كان الحضور قليلاً، ما يدفعنا للتساؤل: أين أولئك المثقفون الكُثر الكانوا متواطئين مع الحرية وأيضاً مع السلطة، ولما صارت هذه الحرب خانوا الحرية – حرية النقد والتعبير وليس حرية الرحلات والسهر- وخانوا السلطة، هربوا من سوريا وليس من حلب، تخلُّوا عن امتيازاتهم التي منحتها لهم السلطة في مواقع عملهم من أطباء ومهندسين ومحامين ومعلمين وفنانين، وصاروا يستعطفون الرأي العام على إنَّهم فرُّوا من الموت، أي موت فرُّوا منه؟ ومثل هذه الكائنات هي لمَّا خُلِقت خُلقت لتكون ضد الموت – لا تموت. هذا الرأي ليس رأيي وحدي، فعددٌ من المثقَّفين دون ذكر أسمائهم كانوا مع تصوري هذا، البطل يبقى في الساحة، لا ينهزم، وحسب تعبير أحد المتدينين: إلى أين يفرُّون من قضاء الله؟
في رواية «الطاعون» لألبير كامي – رغم أنَّ الطاعون الإيديولوجي طاغٍ عليها- يستمر الطبيب (ريو) بمعالجة مرضى الطاعون مع أن لا أمل في شفائهم، هو يعرف أنَّ الإنسان مهزوم، لكن الواجب الأخلاقي رغم عبثية ما يفعل، يفرض عليه مداواتهم وتقديم المساعدة لهم. هي النبالة والفروسية، تصوَّر أنَّ ولدك أصيب بمرض (عضال) أو بُترت ساقه أو يداه، هل تتركه ليموت وتسافر؟ هكذا فعل المثقَّفون بسوريا، هذا غير التجَّار والصناعيين وأشباههم! ما يعني أنَّ أي مثقَّف وحتى الوادع في لحظةٍ ما وتحت تأثيرٍ ما وبلمسةٍ ما يتحوَّل إلى جلاَّد واسع الصلاحيات، فتراه يطالع كراهيته وشراسته وبمنتهى القسوة وهو يتعامل معنا كضحايا.
طبعاً نحن لا نلغي الفعل الثقافي. ونقول: لَمْ تتوقَّف النشاطات الرسمية للثقافة، وبالمقابل لم تظهر ثقافة بديلة. فالوعي المعرفي الزائف الممأسس والخرافي هو ما يطفو على سطح الحياة الثقافية، فنكرِّر الكتابة والقراءة والزمن، والرجوع إلى الوراء، فعقلنا الفلسفي/ النقدي مات أو يحتضر، ولا سيما أنَّ البشر تعودوا خمسين سنة من «الجبر» السياسي الذي يغطي إيديولوجيا السلطة ويبرِّر لها ما يبرِّر.
(حلب)
السفير