الثقافة في زقاق ضيق
هنادي زرقه
مدينةُ مقاهٍ. هذا ما يُقال عن اللاذقية، إذ تكاد تتلاصق المقاهي مقهى إثر مقهى، في شارع بعد شارع وداخل زقاق خلف زقاق.
مدينة مقاهٍ. ذلك أول ما يلفت العين في «الشيخ ضاهر»، الساحة المركزية في المدينة، وكذا في مشروع الصليبة الذي اشتُهر فيه مقهى «طابوشة» الذي شهد تظاهرات سنة 2011 نظراً إلى توضّعه الاستراتيجي على مفارق حي الصليبة.
أمّا في الشارع الرئيس 8 آذار – على اسم اليوم الذي صعد فيه البعث إلى سدّة السلطة سنة 1963 قائداً للدولة والمجتمع، كما ظل يقول دستور البلاد ويفعل إلى أن اختفى القول من الدستور في العام 2012 في حين تحول الفعل إلى نهر من الدم لا يتوقف – فقد اشتهر مقهيان «السويس» و«البستان»، كانا معروفين بروّادهما من مثقفي اللاذقية وأدبائها أمثال الياس مرقص وحسن صقر وميشيل كيلو وثائر ديب ووفيق سليطين وغيرهم كثير، لكن مقهى «السويس» أُغلق قبل فترة طويلة من اندلاع التظاهرات، بينما لا يزال «البستان» صامداً رغم غياب كثير من الوجوه التي كانت مألوفة هناك.
في الماضي، ماضي المدينة البحرية الصغيرة قبل أن تغدو مدينة السلطة وموظفيها الفاسدين وتخرب هندستها وعمارتها ويتشوّه مشهدها أيّما تشوّه، كان شاطئ البحر مزدحماً بالمقاهي، لكن توسيع المرفأ وتبليط البحر في بداية ثمانينيات القرن العشرين التهمها جميعاً ولم ينج من الاندثار سوى مقهى «العصافيري»، ربما لاحتمائه بنادي الضباط من جهة الشمال.
بمرور الزمن وتسارع وتيرة التطور، اختلف مفهوم المقهى وغابت الصورة الكلاسيكية للمقهى المتقشّف الذي لا يقدّم سوى النارجيلة والشاي والقهوة. وظهرت المقاهي المجهزة بشاشات العرض الكبيرة والانترنت والمكتبات والوجبات السريعة، وانتشرت في الأحياء الحديثة نسبياً والقريبة من جامعة تشرين، على اسم الانتصار في حرب 1973، وهي تغص بالشباب وطلبة الجامعة.
لم أعد أذكر أين قرأت عبارة تقول إن أوروبا تنتهي حين تنهي المقاهي، في إشارة إلى استقلال المجتمع المدني الأوروبي والدور الثقافي والسياسي الكبير الذي لعبته المقاهي هناك. من الواضح أن صاحب هذه العبارة التي تكاد أن تكون استشراقية وعنصرية، لم يكن يعلم شيئاً عن الدور الذي لعبته وتلعبه المقاهي السورية، سواء كان سلباً أم إيجاباً.
اللافت في تطور مقاهي اللاذقية هو اضطلاعها بدور ثقافي في ظل تراجع وغياب دور المؤسسات الحكومية والمراكز الثقافية الضخمة التي شيدتها الدولة ولا يتردد على منابرها في الغالب سوى مثقفي السلطة ومتنفذيها. غير أنَّ السؤال يبقى: كيف لمقاهٍ صغيرة وضعيفة ومحاصرة في مدينة صغيرة وضعيفة ومحاصرة أن تؤسس ذاكرةً ومخزوناً ثقافيين جمعيين؟ وهل يمكن أن تلعب دوراً معرفياً وثقافياً في مثل هذا المكان؟ كيف للثقافة أن تحيا حيث تُفتقد الحرية والحياة السياسية؟ هل يمكن لكاتب أن يفكر ويكتب بحرية دون خوف من المؤسسات الأمنية؟ ما المسموح قراءته وما الممنوع في أمسية أو ندوة؟ كيف يعيش الكاتب هذا القلق كله ويبدع؟
هناك أسئلة ربما يحسن تركها للحياة تجيب عنها بدل تناولها في الذهن والعقل المسبق. هناك، في الحياة، يبرز شباب مغامرون يحدوهم الجنون، أو لعله الولع بتعكير الجو الثقافي الراكد، ويدفعهم وراء مشاريع ثقافية تتبدى في مقهى هنا، ودار نشر هناك، في مجموعة ثقافية في هذه المحافظة ومنتدى في تلك البلدة، وكلّها ظواهر مستجدّة في سوريا، لا تعود في شكلها الحاليّ على الأقلّ، إلى أبعد من عقد ونصف العقد، رغم ثقتهم بحتمية خسارة هذا المشروع اقتصادياً.
في زقاق ضيق من أزقّة «الشيخ ضاهر»، يقبع مقهى «قصيدة نثر»، تحيط به جدران قديمة مرتفعة، زُيَّن بعضها بعبارات أدبية خطّها أصحاب المقهى.
مقهى ضيق في زقاق ضـــيق، لكن جـــدرانه اتّسعت لصور شعراء الدنيا وروائييها ومثقفــــيها، كما لصور الأمسيات الأدبية التي أقامها المقهى، وزوّاره المواظبـــون، وضيوفه اللافتون (لعلّ أبرزهم مارســيل خليـــفة إلى الآن).
مقهى ضيق، تزيده ضيقاً تلك المكتبة في وسطه بكتبها المُعَدَّة للإعارة والسرقة، وتلك اللوحات على جدرانه بملفّاتها الشعرية التي تُبدَّل كلّ أسبوعين، لكنَّ هذا الضيق لم يَحُل دون إقامة دورات لتعليم اللغات، وأمسيات موسيقية وشعرية دورية (مرام مصري، عادل محمود، منذر مصري، هنادي زرقه، محمد مظلوم، محمد دريوس… شوقي بزيع)، وورشة لكتابة السيناريو أشرف عليها الروائي خالد خليفة، وورشة لكتابة الأطفال أشرف عليها رسام الكاريكاتور عصام حسن وصدرت حصيلتها في كتاب عنوانه «أكره اللون الأحمر» سجَّل فيه الأطفال انطباعاتهم عن العدوان الذي شُنَّ على غزّة، وورشة للعمل مع الشباب بالتعاون مع المكتبة العمومية حملت اسم «عبِّر عن نفسك بالعربي»، وورشة للترجمة أشرف عليها المترجم والكاتب ثائر ديب، وكلّ ذلك مجّاناً ومن دون أن يترتّب على المشاركين شراء أيّ شيء من المقهى إن لم يرغبوا، ومن دون أيّ دعم مهما يكن من أيّ جهة، سوى دعم المثقفين أصدقاء المقهى.
لكن المقهى توقف عن إقامة أي نشاط ثقافي منذ اندلاع الانتفاضة في سوريا، إذ يشعر أصحابه بالحرج وبأن أي نشاط ثقافي في منطقة هادئة نسبياً هو نوع من الترف قياساً إلى ما تعانيه بقية مناطق البلد.
أما مقهى «ناي»، الذي يتوضّع في زقاق من أزقة شارع 8 آذار، بمشروعه السمعي البصري، فقد أقام خلال ثلاث سنوات قبل الأحداث ومن دون توقف ما يقارب خمسين معرضاً تشكيلياً لرسامين معروفين «علي فرزات، وليد قارصلي، رامي صابور، بولس سركو…» ونحو مئة أمسية موسيقية وعمل مسرحي، وورشة عمل للقسم الثقافي في السفارة الأميركية بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، كما أقام مشروع النحت بالإسمنت، وكل ذلك تمّ بمجهود فردي لأن المراكز الثقافية الرسمية بعيدة كل البعد عن نبض المجتمع واحتياجاته الثقافية.
بدوره توقف مقهى «ناي» عن ممارسة أي دور ثقافي في المدينة احتراماً للدم السوري الذي يسيل يومياً كما يقول صاحبها: «أشعر بالخجل.. والناس تموت، أبدّل اللوحات بصمت دون ضجة إعلامية، لا يجوز إقامة أي حالة احتفالية والبلاد تغرق في دمائها».
إزاء مقهى «قصيدة نثر» و«ناي» وسواهما من الظواهر المشابهة، يبرز السؤال: هل كان لمثل هذه المقاهي أي فعل تراكمي في ثقافة المدينة؟ ولكن قبل ذلك، هل يمكن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تحت القصف وبين الطلقات والتراشق الطائفي الذي يندلق حتى من أفواه مثقفين كانوا علمانيين ويساريين حتى البارحة؟ ما سؤال الثقافة في بلد يتصدر نشرة الأخبار على كل القنوات بمعدل القتل اليومي؟ هل للثقافة أن تخفف حقّاً من أهوال الحرب والاحتقان الطائفي؟ هل تحمل الأيام المقبلة كسراً للركاكة الثقافية التي عانت منها البلاد سنوات طويلة؟ هل نشهد إبداعاً متحرراً من القيود والخوف؟ هل تزدهر المقاهي الثقافية من جديد، ويصبح لها ذلك الفعل التراكمي الثقافي أم أنها ستنكفئ على نفسها وتعود مكاناً للهروب من المنزل حيث النرجيلة الشرود.
(كاتبة سورية)
السفير