الثقافي في مواجهة الطائفي
حمود حمود
في مجتمع تُهيكله فسيفساء إثنية وطائفية متنوعة، من أخطر ما يحوّل حراكه الشعبي واحتجاجاته في سبيل مطالبه (كما شهدنا ونشهد الآن في بعض البلدان العربية)، هو سعي السلطة المتحكمة به إلى حرف هذا الحراك الشعبي عن مساره، وجره إلى أتون حرب داخلية بين أطيافه، وبالتالي حصره أو محاصرته ضمن زاوية محددة، ليسهل تالياً القضاء على الحراك الشعبي. هذا أخطر سيناريو يمكن أن يتحول إليه الشارع العفوي والمنتفض. وإذا كنا لا نريد أن نفصّل كثيراً في طبائع سلوك الأنظمة العربية في التعامل مع مثل هكذا قضايا، فكلنا يدرك سلوك هذه الأنظمة؛ لكن السؤال ما هو موقف المثقف العربي من ذلك؟ هل الدور الذي يقوم به هو في حجم ما يجري على الأرض؟
بداية لا نستطيع لكي نحل المشاكل الطائفية التي بدأت تعصف ببعض البلدان العربية أن نقفز فوق المجتمع ونتجاهل مكوناته ونقول إن مصطلح “طوائف” و”الطائفية” هما مصطلحان صناعيان قاما بعد نشوء الدولة الحديثة، ويستغلهما الخطاب السلطوي الآن للحفاظ على مكاسبه، ولا أن نكتفي بالقول والاستمرار بالشجب أيضاً أن هذه الطوائف هي أساس البلاء لروح الطائفية التي تهب من فينة إلى أخرى ببعض المجتمعات…الخ. فقد تميزت كتابات كثير من المثقفين عندنا وخاصة في المرحلة الحالية- على التنديد بالطائفية ونتائجها المدمرة، لكن معظمها بقي على مستوى السطح، ولم يستطع الدخول إلى عمق الإشكال الطائفي، سوى إعادة الكرة برفع الشعارات بوجوه مجتمعاتها من غير القبض على آليات اعتمال الطائفية ومحاولة فهمها من أجل حلها. هذا الأمر نفسه يمارسه فريق السلطة ومن لفّ لفيفها من مثقفيها وكهنتها. وكأننا أصبحنا أمام خطاب طائفي لطائفتين متقابلتين تتنازعان على هذا الشارع:
طائفة السلطة، وهي تبدو متماسكة في خطابها، طبعاً مقارنة بالطائفة الأخرى أي طائفة المثقفين، والتي من المفترض أن تكون مصدر قلق دائم للسلطة. لكن ما نلحظه الآن في بعض البلدان العربية التي تدحرجت كرة الثورات العربية إلى بلادها، أن قلق المثقفين لم يعد يهدد كيان الخطاب السلطوي، بقدر ما أصبح هذا القلق يتهدد المثقفين في ما بينهم. فأصبح بالتالي المشهد الثقافي في مسألة تفسير الحراك الشعبي ليس مسألة رأي ورأي آخر، بل عجز مخيف عن فهم ما يجري وما يتطلبه من استحقاق تاريخي أمام المثقف. لذلك بتنا نقرأ ونشاهد أن الكل يرفع في وجه الكل: لا للطائفية، ولا لكذا…، في الوقت الذي تأكل فيه نار البارود والاحتقان المجتمع.
وهكذا، لم يتجاوز الخطاب الثقافي إلى الآن (في أغلب أطروحاته) سطحية الخطاب السلطوي ذاك. فكلا الخطابين يقرّ من حيث المبدأ بمحاربة الطائفية، ولكن أيضاً كلا الخطابين يمارس نوعاً من الخطاب الطائفي على المجتمع، وذلك في الشكل الذي يحارب من خلاله طائفية هذا المجتمع. هذا الخطاب سواء السلطوي أو الثقافوي منفصل للأسف عن المجتمع ولا علاقة له بطائفية الطوائف، بالرغم من أن كليهما يقول إنه ضد الطائفية! والمشكلة قائمة أيضاً في إعادة طرح هذا النوع من الشعارات أن أغلبها لا يرفع بوجه المجتمع فقط كدواء مخدر لبعض الوقت استجابة للضغوط الطائفية التي تهدد سلامة أمن المجتمع، بل تُرفع في سياق السجال بين ذينك الطرفين، وكأنّ المشكلة الطائفية عندهم وليست في القاع الاجتماعي!
طبعاً توحي هذه النقطة بأمرين مترابطين:
أولاً: إفلاس الخطاب الثقافي عن أن يقدم أي شيء ولو صغير للمجتمع الطائفي، ولا نقول النزول لشارع المجتمع والاستماع إليه. وهذا يعبر أيضاً عن إعفاء المثقف نفسه من المسؤولية أمام مجتمعه وخاصة الآن في ظل تشوش الرؤية التي تعصف بمجتمعاتنا (هذه الرؤية التي كشفت عن خواء الأدلوجات الثقافية المتهالكة أمام الشارع). لذلك ليس غريباً أن نتلمس إدانة ضمنية من مثقف ما لهذا المجتمع. لماذا؟ لأنه طائفي، لأنه متعدد الطوائف، لأن خطابه لم يرق لمستوى خطاب حضرة المثقف. وعلى مدار السنين السابقة كما نعلم، لم يستطع الخطاب الإيديولوجي (خاصة الذي يقول إنه علماني) من تمكين رؤيته في الحقل الاجتماعي، وأهم الأسباب في ذلك هو حالة الفصام التاريخي بينه وبين مجتمعه، والتي يعود أحد أسبابها إلى النرجسية والعاجية، وإلى المرجعيات نفسها التي يطرح بها الخطاب المثقف نفسه على الجمهور والتي تناقض مرجعيات ثقافة المجتمع وسلوكه، الأمر الذي أدى وما زال يؤدي إلى حالة انعدام الثقة بهذا الخطاب وازدياد الفجوة بينهما، وتعزيز الطائفية أكثر بينه وبين مجتمعه.
والأمر الثاني: هو عجز المثقف عن فهم الآليات العاملة في سيكولوجيا الديني المنغلق التي جعلت منه طائفياً، وذلك بالتضافر مع آليات العامل السياسي المباشر. ويعود سبب هذا العجز إلى الافتقار للآليات النقدية والسوسيولوجية في فهم الظاهرة الدينية والطائفية، هذا إضافة إلى عامل مهم هو الكانتونات الإيديولوجية الثقافوية المحتجز داخلها المثقف، والتي لا تقل طائفية عن طائفية المكونات الاجتماعية، عدا عن أن هذا الخطاب هو خطاب فوقي مازال المثقف يمارسه على مجتمعه: من دون إذن ولا دستور يرفع الآن بوجهه شعارات منددة بالطائفية والأقوامية والإثنية…الخ، وكأن هذا النوع من الشعارات يمثل عصا موسى الإلهية ستحل مباشرة الإشكالات الطائفية للمجتمع. ما زال هذا النوع من الخطاب يستمر في أخطائه، بحيث يعبر عن عجز أساسي هو عدم فهمه أنّ هذا المجتمع، قبل أن يكون مجتمعاً طائفياً هو مجتمع “ديني”، يحتكم إلى براديغمات ثقافية ومرجعيات تختلف تماماً عن مرجعيات المثقف ونواظمه الإيديولوجية من جهة، وأن الطائفية التي تظهر آثارها منه الآن ليست هي نتاج الطوائف بنحو مباشر للكلمة، وإنما نتاج الطائفية السياسية للسلطة وسلوكها، والتي مارستهما على مدار السنين السابقة على المجتمع (مثلاً بالتخويف الدائم لهذه الطائفة من تلك) من جهة أخرى.
وبالتالي، إنّ طرحاً يريد حلاً للمعوقات الطائفية في سبيل تأسيس شعور وطني، لن يكتب له النجاح إلا بمعالجة حقيقية للأسس الدينية التي تعتمل في داخل ميدان الحقل أو المجال الطائفي، وبمعالجة السُلط السياسية الداخلية، والأجندات الخارجية التي لها مصلحة هي الأخرى في تأجيج وتطييف الطوائف على بعضها البعض. أما أن يلجأ هذا الخطاب إلى أسلوب السلطة نفسه في رفع الشعارات المقولبة والجاهزة من دون فهم هذه الطوائف المتجذرة في التاريخ، فأعتقد أن هذا الأسلوب لن يعمل على التهدئة والمعالجة، بقدر ما يعمل على تأجيج الطائفية ما دمنا بعيدين عن محركاتها وآليات الأنظمة العربية التي تحتويها.
المستقبل