صفحات العالم

الثمن السوري … سقوط النظام وبقاء رأسه

 العلّامة هاني فحص

لو فرضنا جدلاً ان النظام السوري الذي سقط في دم الشعب وغبار المدن المدكوكة بمنازلها وقلاعها وتواريخها وشجيرات الورد الجوري والياسمين والبيلسان، في حدائقها المنزلية.. لو فرضنا أن هذا النظام غير الناظم والذي سقط، لم يسقط معه، ولا أدري كيف ولماذا؟ رئيسه الآتي من رئاسة مزمنة، فهل يشعر المواطن السوري أو العربي أو اي مواطن في الدنيا نزع العصبة عن عينيه، متأخراً أو مبكراً، بالخسارة؟

يجيب الحصيف يقول: بلى أشعر كأني خسرت شيئاً زهيداً، ولكني أحاول إحصاء خسائر بشار الأسد وحزب الله التي سوف تترتب على الانتصار الأشبه بالإنكسار، قياساً، مع الفارق الكبير، على حال دول التحالف الغربية، التي انتصرت في الحربين الكونيتين، ولكن خسائرها الفعلية كانت باهظة أكثر من خسائر الدول المهزومة، وفي حين تراجعت بريطانيا المنتصرة كثيراً وعميقاً وطويلاً، في الحياة والدور، تراجعت بقية الدول الحليفة، نهضت الولايات المتحدة من بينها، لأنها لم تندفع ولم تقصر وراهنت منحازة من خارج السياق، فتمكنت من الإمساك بالزمام الذي سقط من أيدي الجميع (قد تكون الصين شبيهة لها في موقفها النصفي من سوريا).. هذا في حين نهضت اليابان كثيراً كما نهضت ألمانيا الغربية طبعاً، وعوضت اسبانيا وإيطاليا بنسبة مجزية. تماماً كما سقط العراق المنتصر، باحتلال الكويت، ونهضت الكويت المحتلة، من تحت الركام.

وباهتمام وجدية، نحب وسوف نعمل على معرفة التنازلات والتواطؤات، التي قدمت لواشنطن، ثمناً لبقاء الرئيس كما قدمت التنازلات في سبيل بقاء صدام الى حين، بناء على ما هو معروف من ضخامة وعمق التنازلات التي قدمها نظام الرئيس الأب، من أيلول/ سبتمبر 1970، والتي حافظ عليها وكأنها مقدسات، نظام الرئيس الإبن.. ولم نلاحظ إلا تغييراً لفظياً في المشاكسة مع واشنطن، على طريقة طهران، التي تستخدم مفردات الهجاء في سياق الإغراء، والغزل العذري وغير العذري.. وتقطع مع من تتفق في العمق معهم، لغاية في نفس يعقوب، ولأجل مسمى، قد يطول عقداً من الزمان أو أكثر.. وقد يقصر الى لحظة.. لحظة تأتي الغمزة من البيت الأبيض مباشرة أو بالواسطة! غاية الأمر ان الظروف الآن قد اختلفت كثيراً، فأصبحت روسيا شريكاً مضارباً كبيراً، ولذا فهي سوف تسهم في ترتيب التواطؤات بما يحفظ مصالحها مع واشنطن خصوصاً والغرب عموماً، خارج سوريا طبعاً، لأنها سوف تتملص من الكثير الذي قد يترتب على عاتقها في إعمار سوريا المخرَّبة، لتترك هذا العبء أو المقدار الأعظم منه، اي إعادة إعمار سوريا الصعبة والمكلفة، والتي قد لا تكون ميسورة مهما تكن إمكانات الأطراف المتولية لها والمستولية على مخرجاتها في المحصلة.. هذا العبء تتركه روسيا لإيران التي يتيح لها تركيب سلطتها وقدرتها المكتسبة على التصرف في مأمن من المحاسبة، وإن كانت تبالغ في هذا الأمر لأن الحساب وإن تأخر فإنه لا بد أن يأتي وقد يكون عسيراً كما هو محتمل الآن بعد التورط في سوريا، والجانب الإيراني في تحمل مترتبات الحرب، يعطي إيران ايضاً حقاً وفرصة في ترتيب شؤونها النووية والاقتصادية مع واشنطن والعالم من دون أن يعفيها ذلك من الضرائب.

الى ذلك فإن أعباء اخرى سوف تترتب على حزب الله جراء شراكته وظهوره كمعني أول في سورية، وظهور ما تبقى من النظام وكأنه يناصر الحزب ويسنده، وجراء نصر أو غلبة، يتخيلها ولن نصدّق بها، إلا إذا لمسناها باليد، لنلمس بالضرورة الأعباء المترتبة عليها، والتي قد تكون مساوية أو زائدة أو ناقصة عن أعباء الهزيمة قليلاً ليس إلا.. وقليلاً جداً..

أما المعارضة، إذا انهزمت، فلأسباب من داخلها ومن خارجها، ومن اصدقائها وأعدائها معاً، وإن كان ما يزال بإمكانها أن تتلافى ذلك أو تقصره، على حد أدنى من الهزيمة، انتظاراً لفرصة آتية قطعاً، جراء قصور النظام وتقصيره في إعادة بناء الدولة والمجتمع والعمران، وجراء ارتهاناته المعقدة ورهاناته المتهورة.. وعلى تقدير هزيمة المعارضة، وإن كان احتمالاً اضعف من احتمال هزيمة النظام، الذي انهزم ولم يبقَ منه إلا رأسه، مركباً على جسد مادي ومعنوي، ملفق من اخشاب روسية وإيرانية، فقد يكون بإمكان المعارضة أن تستفيد من هزيمتها أو انكسارها، الذي نحتمله ويحلم به النظام وحزب الله، أكثر من استفادة النظام أو حزب الله من انتصاره المشكوك والمفخخ، تشبيهاً للمعارضة بالمانيا واليابان بعد الحرب الأولى، والنظام وحزب الله مع الفارق الكمي والنوعي، ببريطانيا المنتصرة والتي خسرت نفوذها الإمبريالي وأقطارها التي لم تكن تغيب عنها الشمس مفسحة في المجال لنظرية الفراغ الأميركية ومعبرها في مشروع (مارشال).. هذا لو كان بإمكان المعارضة السورية أن تثبت لاحقاً بأنها تملك عقلاً يأتي من الشراكة بين حساسياتها المختلفة، ما عدا شواهد البؤس الديني المكمل للبؤس الدنيوي الذي تجسد في مواقف مبتذلة في تأييد النظام.

هذا واذكر حزب الله والنظام السوري،بأنهم لا بد ان يدققوا في دلالات انتخاب الشيخ حسن روحاني، بهذا الزخم الشعبي المدني في ايران، وانعكاساته المحتملة، خاصة على حزب الله، من دون مبالغة مني في توقع الانقلاب الايراني الشامل، ومن دون طمأنينة مبالغ فيها من حزب الله، وكأن شيئا لم يكن، لأن هذا غرور قاتل يؤدي الى مضاعفة الخسائر.

إني احب الشعب الايراني وأفرح لفرحه، وعندي لوائح آمال تتراوح بين حد ادنى كاف كشروع في التغيير الهادئ والمندرج ولو ببطء في المستقبل المتوسط المدى والحد الوسط، المندرج ببطء أقل، نحو المستقبل، البعيد نسبيا ولكنه منظور، والحد الاعلى الذي قد يقف بايران على حافة الشروع في تغيير جذري للنظام، وهذا الحد قد لا يكون حدا تغييريا بل تدميري، لأن النظام ليس مترديا، وان كان مربكا جدا، ويحتاج الى صبر وحكمة وتطوير من الداخل، باتجاه التغيير الجذري غير الانقلابي، لأن الانقلابية المتسرعة سوف تكون مقدمة لنكسة كبرى تعيد انتاج النظام من دون حسنات ابداً، وبكل ما يملكه تصوره من السيئات التي ظهر مثيل لها في تصرفات النظام السوري تجاه التاريخ والافكار والقيم والاجتماع والدولة والذاكرة والاحلام والعمران والانسان.

انا مرتاح لانتخاب روحاني بهذه الارادة الشعبية، كما كان يرتاح الفلاحون وعموم اهل ضيعتنا، عندما ينبت القمح ويستعرض خضرته ووعوده بالغلال الوفيرة.. من دون ان ينسوا خوفهم بناء على التجربة من انقطاع المطر طويلا والجفاف ويباس الزرع في اول عمره، او عدم انعقاد حبوبه في الوسط بسبب الجفاف، او عطشه بعد الانعقاد، وتضاعف حاجته للمطر والري، ثم يعاودهم الخوف اذا ما هطل مطر متأخر وشديد، فيسبب تعفنا للقش والحب. وهناك خوف على الحصاد وعلى الدراسة، وحتى التذرية وفصل التبن العادي عن الحب والزؤان والتبن شديد النعومة وشديد الخشونة.. ألخ.

ان حقوق الشعوب، في الحرية والعدالة اي الكرامة، لا ترتبط بانتصارها او هزيمتها بل بأهليتها لبناء دولة او نظام افضل من نظام الاستبداد، ولا في كون القوى التي تختلف على حراكها الاعتراضي او تقوده، متقدمة او متأخرة عن النظام او غيره… هي حقوق لانها حقوق لا يلغيها احد من اعداء الشعب المتفقين او المختلفين، لأن الاختلاف ليس كافيا في منح شرف الصواب الى طرف دون آخر، فقد يتقاسم الخصمان الخطأ، خصوصا اذا كانوا ايديولوجيين قومويين او اسلامويين، والطريق الوسطى هي الجادة، ولكن الوسطية تعني الافضلية، وليست تلفيقا بين باطلين او تطرفين، وليست رمادا. وليس بامكان الفوضى ان تكون مجالا لتأسيس الوسطية الفاعلة والراقية، والوسطية مكان جامع لا لأمزجة متنافرة وامراض عضوية، حزبية وفردية، مزمنة ومعضلة، ولا شهوات سلطة بدل ان تعد بالخبز والحرية تتوعد المظلوم بأن تعيد انتاج الظلم والظالم بشكل ابشع. الوسطية التي توقعناها من التيارات المدنية السورية فجعنا بها، وما زال لدينا امل بانتاجها، لا منعا للخسائر التي تَحقق قسم كبير منها، بل لتفادي المزيد منها… لعلّ وعسى.

مع تحذيرنا الى كل الذين تزدهيهم الانتصارات الملوثة في مقابل المهزومين المستحقين للهزيمة لانهم لم يُعِدّوا أنفسهم إعدادا نظيفاً وواعياً وملائماً ليصبحوا قادرين بكفاءة وامانة على حمل آمال الشعوب وتضميد جراحها وبناء اوطانها ودولها. وإن كانت هزائمهم هي لهم حصراً، الا اذا كفوا عن الكسل والبلادة واستغلال الحق العام في تحقيق المأرب الخاص، الفردي أو الفئوي، اي الباطل، وإن كانت هزائمهم موجعة ولكنها مؤقتة في سيرة حياة الشعب التي تعرف كيف تضرب مواعيد متكررة للنهوض والتصحيح والتغيير.

هناك حساسية بشرية عامة وتاريخية ومشرقية ايمانية واسلامية وعربية ومعرفية وروحية، توجعها الانتصارات الرخيصة والهزائم المجانية ولكنها تصرّ على الحق والحقيقة اي الانسان وفي كنف الرحمن على موعد مع النصر ولو بعد حين، وقراءة من دون مكابرة وغرور، تؤكد ذلك، كما تؤكده آيات كريمات في التزيل الجميل العظيم: «حتى اذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا»، هذه سنن تاريخية وانتصار الرسل ليس شخصياً بل هو انتصار شعوبهم او انتصار الحق على الباطل «ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان منهم ما كانوا يحذرون» صدق الله العظيم.

هذا الكلام هو دعوة الى تجديد وتسليح الامل بالعقل والحوار والعمل.

أختم بافتراض أقرب الى المحال، ولكن فرض المحال ليس محالاً كما يقول أرباب علم المنطق.. وافتراضي هو ان سوريا أصبحت في قبضة إيران وتحت حكم مفوضها السامي حزب الله، المباشر أو غير المباشر، المقنّع أو السافر، وبرئاسة اسد أو نمر أو غيرهما، دائماً أو موقتاً على الأرجح والأكيد، فهل هذا يعدّل أو يعادل، ذلك الكم الهائل والنوعي من الكراهية، التي فتح حزب الله، وباسم أهل البيت والشيعة أبوابها على مستقبله القريب، ومستقبل الشيعة العميق القريب والبعيد والطويل، وأسسها على الأوجاع والجراح والأعطاب التي لا علاج لها ولا تندمل ولا تجلب إلا مقتاً وذكريات مجرّحة وجارحة وعصبيات قاتلة.. خاصة وان في الضفة الأخرى للنهر الاسلامي الذي تطفو على سطحه كل الأوشاب وأنواع غثاء السيل الغُثاء، بفعل الإعصار، في هذه الضفة السنية، كهوف أخرى فيها خزين من الكراهية ينتظر من يستفزه ليملأ الدنيا توتراً وعنفاً معنوياً ومادياً، باسم الله والرسول أيضاً، والصحابة!

هل بإمكان حزب الله، وهل يقوى الجسم الشيعي، والجسم الاسلامي عموماً، على تحمّل هذه الحالة الموعودة من تبادل المظالم، التي يمسحها البعض بأهل البيت الذين مسحوا وجوهنا بأفكار التوحيد وقيم الوحدة والسلام، والميل الى اختيار أن يكونوا مظلومين، إذا كان البديل هو أن يكونوا ظالمين ولو لنملة يسلبونها جُلب (أي قشر) شعيرة كما يقول علي بن أبي طالب.. ويمسحها البعض الآخر بالخلفاء الراشدين والصحابة المنتجبين والصالحين وأهل التقوى من السلف الصالح.

أما إيران فهي كيان تام لا يخلو من احتمالات تصدع، وكيان تام يستطيع الإكتفاء بذاته وأن يتنصل منا إذا لزم ذلك لسلامته، ويقبع أهله وسلطته وحكامه، وراء حدود بلدهم وأنظمة مصالحهم، و(العثرة) علينا!!

وحتى لا ننسى طرح السؤال حول مكان تجسيد النصر المسموح به بين اسرائيل وواشنطن وموسكو، اذا اتفقوا، على التصدق به على الدكتور بشار الأسد، فان هناك ميلاً لدى الخبراء بأن حمص (الخرابة) ربما كانت عاصمة لكيان مسخ، ولذلك خربها النظام بالتعاون مع حزب الله وإيران وروسيا، لفرض واقع ديموغرافي مريح! لحاكم وحكومة الكيان الممسوخ، تحكم منه مناطق الجبل من مصياف الى صافيتا، والساحل من بانياس وجبلة واللاذقية وطرطوس الى كسب وحدود تركيا، ما قد يعني انه قد تترتب ضرائب أخرى في صراع يومي قائم على الكراهية التي بذر بذورها النظام في كل سورية، بين العلويين والسنّة والمسيحيين والاسماعيليين، فيتحول الكيان المفتعل، الى سلة سرطانات مجرَّحة ومتوترة، وجاهزة للفتك، عندما تحركها الذراع التي تحملها لغاية في أنفس يعاقيب عدة، ما عدا يعاقيب الجماعات المكونة للإجتماع السوري، والتي كانت الدولة الديموقراطية الوطنية الحديثة حلاً لها، فحلت عليها بدلاً من ذلك لعنة البعث التي استدعت لعنات التطرف الديني، وبانسجام بعثي اسلاموي عميق جداً جـداً.. كـــأن أحزابنا تصنع من مادة واحدة (!)

ختاماً.. أمام هذه اللوحة المعتمة، هل يجوز لنا أن نيأس؟ بلى يجب أن نيأس من جدوى وديمومة القهر والغلبة وأن نعمل معاً على تشغيل ما تبقى من عقولنا. ولعلنا بحاجة ماسة الى عقلاء محايدين منحازين للبنان، يتضافرون من أجل إغراء ما تبقى من عقلاء الأطراف السياسية بأن يستخدموا ما تبقى من عقولهم بالشراكة.

الرأي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى