الثنائي الغريب باوند وييتس… تاريخ من الشعر والعزلة
محمد قنور
بدأ عزرا باوند في نشر «الأغاني» عام1917، القصيدة الطويلة التي تضمنت مقاطع تشير إلى التراتيل القديمة لهوميروس وتاريخ سلالة الشعب الصيني. وقد تركها غير مكتملة في الصفحة 800 محاطةً بالأسوتريكا (كلمات غامضة وغريبة تستعمل من طرف الكاتب من دون شرح معناها، وتسمى بالروحيات، أي علم الغيب والعلوم الغريبة) وهو على فراش الموت.
في القصيدة نقرأ: «تذكرْتُ ضجيج المِدخنة، كأنها الريح تهب هناك. لكنه العم وليم من كان يُنشدُ أسفل الدَّرج في الحقيقة… هناك في كوخ حجري في ساسكس قربَ مُستنقع الخراب». يتذكر باوند فصول الشتاء الثلاثة (من عام 1913إلى عام 1916) التي قضاها مع الشاعر الأيرلندي وليم باتلر ييتس في منطقة نائية قرب قرية «كولمان هاتش» في ضواحي مدينة ساسكس. حين كان يجلسُ في الطابق الثاني للكوخ وهو يسمع ييتس يقرأ قصائده في الغرفة التي أسفلَ الدَّرج، ماشيا ذهابا وجيئةً من مدفئة إلى أخرى ومستمتعا بصوت ييتس، إذ كانت هنالك مِدخنة كبيرة في الكوخ كباقي أكواخ القرية، تفرز دخانا كثيفا. كتب باوند الكلمات هذه في مقطع مطوَّل بعنوان «أغاني بيزا» بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يحتفي بتلك الأعوام السالفة التي قضاها في الكوخ الحجري إلى جانب ييتس، معتبرا إياها: «لقد كانت أوقاتاً مثالية قبل أن يُنهي العالم حروبه».
لم تتم الإشارة إلى اللحظات هذه في الكوخ الحجري كثيراً في التاريخ الأدبي: اثنان من بين أعظم شعراء القرن العشرين، شاعران مختلفا المزاج جمعهما المكان نفسه لمدة من الزمن. كانت فكرة باوند تتمثل في خدمة ييتس سكرتيرا خاصا للاستفادة من تجربته الشّعرية، وقد ساهم كونهما متفرغين للالتزام بالحياة الأدبية في توفرهما على الوقت الكافي والعزلة المناسبة لمواصلة مشاريعهما الأدبية من دون انقطاع. كانا كلما فرغا من وجبة الفطور، يجلسان للعمل معتبرين أن الحياة هي الكتابة فقط.
يستدعي ييتس «ألايس ويلفاير» خادمة المنزل: «لا تزعجيه… السيد باوند يقول إنه لو أراد نفض الغبار سيُناديك، وأنا سأكون في غرفتي الصغيرة أسفل الدرج أقرأ قصائدي». بعد أن يَتناول الشاعران وجبة العشاء، يتمشيان عبر مرج إلى الحانة المحلية لتناول نبيذ التفاح في المساء، يكتب ييتس: «حينما لا تكون السحب المعتمة والكثيفة، يَتَجلى مرجٌ عظيم مكسو بجمال مذهل، وعندما أكون في قرية مثل هذه، يَجيء أحدهم في غمرة ازدحام الأفكار، آنذاك، أجد أن الحياة تَمضي بحماسة كبيرة، وفي النهاية أحدهم يبقى تعيسا حين يذهبُ الآخر إلى لندن».
في صباح من عام1913، ذهب ييتس عبر المرج إلى بريد القرية فوجده مُغلقا وعاد غاضبا، قالت ألايس: «لكن يا سيد وليم، ألا تعلم أنه عيد الميلاد!». مثل هذا الأمر يُظهر مدى عدم اهتمام الثنائي باوند وييتس بالحياة اليومية وأنهما رمياها في الخلف. يوجد الكوخ الحجري في مقاطعة قروية محاطة بالغابات جنوب عاصمة الأدب لندن، ولذلك كان ييتس يعود إلى واقع لندن فقط من أجل لقاءاته المسائية يوم الاثنين، حيث يجتمع أسبوعيا بالشعراء من أجل جلسات أدبية. لأن خصوصيات الطّرفين مألوفة للجميع، فمن السهل التغاضي عن الطابع الفريد لِما حدث في الكوخ. وليم باتلر ييتس الشاعر الايرلندي الذي حقق شهرة عالمية، اختارَ أن يقضي مواسم الشتاء في عُزلة مع الشاعر الأمريكي الذي يصغره بعشرين عاما والذي سبق له نشر القليل من شعره، آنذاك كان عمر ييتس 48 عاما وعمر عزرا باوند 28 عاما في عام 1913- لم يكن هنالك الكثير لدى باوند ليُعلّمَ الشعر لكاتب «الريح بين القصب»، خصوصا أنه تعلم كتابة شعره من خلال تقليد بدايات ييتس. والشخص يجب أن يتساءل لمَ باوند، الذي رحل إلى لندن لإقامة نهضة أدبية، سيأتي ليعيش مع شاعر يكبره سنا وتجربته جد مختلِفة؟ ويوافق على العيش معه في كوخ يوجد قرب مستنقع للنفايات وتغطيه الأدخنة، لكن باوند كان يعرف ما يفعله جيدا، فهو جاء ليَعيش الشّعر. والأكثر من ذلك، أراد أن يتعرف على الرجل الذي اعتبره: «أعظم شاعر حي» في تلك الحقبة. أبحر باوند إلى أوروبا باحثا عن جماعة الشعراء الذين يمكنهم اقتسام أسرار حرفتهم مع بعضهم بعضا، وهكذا وصل إلى لندن في عام 1908. وأخيرا التقى باوند بييتس في إحدى أمسيات الاثنين الشعرية في أيار/مايو عام 1909، بمساعدة أوليفيا شكسبير التي كانت حبيبة ييتس آنذاك والتي اعتبرها باوند أمه ومرشدته الأولى في أوروبا. مذُّ ذلك الحين، بدأ ييتس وباوند في إنشاء الدائرة الأدبية الأكثر تميُّزا في لندن، واتسمت لقاءاتهم الأدبية بالنجاح الكبير. تباهى باوند بتنقيحاته العديدة لقصائد ييتس التي كانت تُنشرُ في مجلة شعرية عام 1912، إلا أن ييتس الهادئ كان يعلق على التغييرات على أنها «مجرد أخطاء مطبعية،» في الحقيقة، طمع باوند كثيراً في شرف منحه فرصة التنقيح من علاقته الوثيقة بييتس. كانت كلمة «النبيل»تستعمل من طرف باوند باستمرار لوصف ييتس، وهو أراد أن يكون جزءا من تلك الأرستقراطية، وقد نجح فعلا في دخول حياة ييتس ومشاركته إياها. كتب باوند لمحرر مجلة الشّعر: «إنه يكتب بعاطفة… إن أمثاله قليلون جدا ممن يعرفون ما تعنيه العاطفة العنيفة حقا». كان ييتس، بِشِدّة، في حاجة إلى هذه النوعية من الثناء أثناء الأعوام التي قضاها في الكوخ الحجري، حين التقى باوند عام 1909 كان قد نشرَ أعماله المختارة للتو؛ فقد كان أغلب أصدقاء شبابه قد ماتوا، وانتشرت شائعة في لندن الأدبية تقول إن ييتس قد انتهى.
على الرغم من أن حياتهما المهنية ستختلف بشكل كبير في وقت لاحق، قدّمَ باوند وييتس الخِدمة المناسبة لبعضهما بعضا بين أعوام 1909 و1916 عندما غادرا الكوخ نهائيا.
كان شتاؤهما الأول في ساسكس فكرة ييتس، الذي اكتشف الكوخ الفارغ أثناء زِيارة لهينري ثاكر أخ حبيبته أوليفيا شكسبير في قرية «بريليود» جنوب لندن. أخبر ييتس صديقته لايدي غريغوري عن المكان قائلا: «إنه جيد تماما، ومكان مناسب للعُزلة، كما أنه يبعد عن لندن فقط حوالي ساعة ونصف الساعة من الزمن». وكان الكوخ أيضا قريبا من القرى الأخرى حيث يمكن الحصول على شابات مؤهلات للخدمة المنزلية.
تزوَّج باوند بدوروثي شكسبير بنت أوليفيا حبيبة ييتس السابِقة في صيف 1914، وتزوج ييتس بغريغوري هايدي ليز بنت خادمته بعد ثلاثة أعوام، وعاد كلا الشاعرين إلى الكوخ الحجري من أجل قضاء شهر العسل بعدما غادراه نهائيا عام 1916. في الأعوام اللاحِقة، وبعدما فقدا التعاطف مع أعمال بعضهما بعضا، ظلَّ باوند وييتس ملتزمين بأواصر الأسرة.
ترجمة وإعداد عن «نيويورك تايمز»
القدس العربي