الثوثيق وتحديات الحياد
وليد بركسية
فرضت الأزمة التي تعصف بسوريا منذ عامين، ضرورة إيجاد وسائل إعلام جديدة أو بديلة من تلك التقليدية التي سجل الكثير منها سقطات مهنية، وربما ساهم في التحريض وإزكاء الحرب.
الخروقات لأخلاقيات المهنة، صدرت عن وسائل إعلام موالية ومعارضة على حد سواء، وشكلت حافزاً أساسياً لنوع جديد من وسائل الإعلام، يكرس جهوده لتغطية الأنباء من كافة الاتجاهات السياسية، ومن دون انحياز نافر لأحد. هكذا استطاع “المركز السوري للتوثيق” الذي وجد في الفضاء الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، بيئة مثالية لاحتضان أسلوبه الخاص في العمل الإعلامي.
إنه أسلوب يعتمد بالدرجة الأولى على نشر الأنباء الصادرة من مختلف الأطراف، بعد التأكد منها عبر مقارنتها في الصفحات الإلكترونية الموالية للنظام والمعارضة له. إضافة إلى الاتصال بشبكة المراسلين والأصدقاء المنتشرين في المحافظات لمزيد من المصداقية.
ويصدر المركز يومياً نشرات تتناول ابرز الأحداث في كل محافظة سورية على حدة، مع نشرة أخيرة شاملة يتكثّف فيها الخبر السوري اليومي متكاملاً، ونشرات موازية بالانكليزية، إضافة إلى أخبار عاجلة ومقاطع فيديو تبث على “يوتيوب”، وأرشيف كامل يُولّف بالتزامن مع تطورات الأزمة السورية منذ تاريخ إنشاء المركز. وهناك أيضاً خريطة محدّثة بإستمرار، توضح الأماكن الساخنة في سوريا لحظة بلحظة.
لا يتوقف المركز عند هذا فحسب، بل يتعداه إلى توثيق أكبر قدر ممكن من أسماء الضحايا الذين قضوا خلال الأحداث، من مدنيين وعسكريين، بدءاً من 15 آذار 2011، مع إمكان البحث في أسمائهم وظروف موتهم، ويتيح المركز تواصلاً دائماً مع فريق عمله، عبر “فايسبوك” و”تويتر” والبريد الإلكتروني وخطوط الهاتف الساخنة، لتزويد المركز بأي أنباء عاجلة من قبل المواطن السوري نفسه.
بدأ المركز عمله مطلع تشرين الثاني 2011. وتقول لـ”المدن” الإعلامية يارا توما، وهي إحدى المؤسسين، إن فكرة المركز تولدت أساساً من رغبتها وصديقتها، عبير ديبة، “في إطلاق نشاط توثيقي لما يجري في سوريا، فتواتي الظروف لاحقاً تلك الرغبة، بالتعاون مع مجموعة من الأصدقاء، بينهم الصحافي والمدوّن السوري ماهر المونس، والإعلامي أسبيد وانيس”، لكنها تحفظت على ذكر أسماء العاملين في الإدارة، خصوصاً أنها تركت عملها في المركز منتصف حزيران 2012.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الغموض يكتنف التفاصيل الأساس في المركز. إذ لا تعلن أسماء العاملين فيه، من محررين ومراسلين، ولا تعطى معلومات عن كوادر إدارته ومصادر تمويله. ويُكتفى بالقول (في خانة “من نحن” على الصفحة الالكترونية) أن المركز مشروع إعلامي شبابي مستقل، أعضاؤه صحافيون وإعلاميون سوريون، من دون تفاصيل إضافية.
تعزو توما هذه النقطة إلى “أسباب أمنية بالدرجة الأولى، في ظل تهديدات لا تنتهي يُلاحق بها الإعلاميون في سوريا على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية”، إضافة إلى “رغبة المركز في الحفاظ على سرية أسمائهم منعاً لأي تصنيفات قد تصدر بحقهم من الواقع المحيط (موالاة ومعارضة)”. أما مراسلو المركز فهم “شبكة العلاقات الاجتماعية لكادر المركز، والتي أتت من فكرة المراسل المتطوع وصحافة المواطن التي أفرزتها عالمياً شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات، وهو سبب آخر للتحفظ على التعريف بهم”، بحسب توما.
لكن، من جهة ثانية، يثير بعض الأداء في المركز إشكاليات مهنية، من النوع الذي قد يراه متابعون خدشاً للحيادية والموضوعية المفترضة في مركز يصبو القيمون عليه إلى ألا يُحسبوا على أي من الأطراف. فيطلق المركز مثلاً صفة “الميليشيا” على مقاتلي “الجيش الحر”ن في حين أن التوصيف الأكثر حيادية قد يكون “مجموعات مسلحة” أو ببساطة “مقاتلو الجيش الحر” (الجيش الحر كتسمية أطلقها المقاتلون على أنفسهم لا كتوصيف قيمي).
يوضح أحد كوادر المركز، ماهر المونس، هذه النقطة بالإشارة إلى أن “التصنيف يتبع معايير عالمية كمدرسة “بي بي سي”، التي تسمح بإطلاق صفة الميليشيا على الجماعات المسلحة المناهضة لأي حكومة قائمة”. وينفي المونس عن المركز “شبهة الميل إلى النظام”، مشيراً إلى “ضرورة وجود عدد من القيود على السياسة التحريرية، اتقاءً لأي مضايقة محتملة من قبل السلطات الأمنية في البلاد، كون المركز يعمل يعمل من قلب العاصمة دمشق، بخلاف المراكز الأخرى المنتشرة خارج الحدود”.
وبالمقارنة مع مراكز التوثيق، الناشطة خارج سوريا، مثل “المركز الإعلامي السوري SMC”، و”المركز السوري الوطني للإعلام – صدى”، يلاحظ أنها تتخذ موقفاً واضحاً مما يجري في سوريا، وتنحاز إلى المعارضة السورية بل تتحدث باسمها (ضمن نشراتها الإخبارية). ويعكس هذا أيضاً خللاً في التعاطي مع مفهوم التغطية الإخبارية.
هكذا، يبدو المركز السوري للتوثيق الأبرز والأكثر لفتاً للانتباه على هذا المستوى. فقد يكون الوحيد الذي يبث أنباء من كافة المصادر، على اختلاف توجهاتها، بما فيها الجماعات الإسلامية التكفيرية الناشطة في سوريا، إضافة إلى ابتعاده عن مواد الرأي في منشوراته اليومية، وحياده النسبي، وتقنيات التوثيق.
المدن