الثورات “الرّكيكة” نقلة إلى الظلام
ربما القلق العميق الذي ينتابنا في قراءة الثورات العربية مؤشر على الفترة «الغامضة والملتبسة» التي تمر بها المنطقة العربية. فبالرغم من تقديم الثورات أهم نماذج التغيير السياسي منذ زمن بعيد، فإنها بدت في الوقت نفسه أكثر الثورات ركاكة.
لنكن واضحين بالنسبة لسياق هذه الثورات. ما نشهده هو انهيار النظام القديم لا ولادة نظام جديد. يمثل هذا الانهيار فقدان الأنظمة الاستبدادية لشرعيتها بعد كل العقود السابقة بحيث أصبحت فارغة تماماً، نتيجة فشلها في إحقاق الديموقراطية والتنمية. كذلك، يدل هذا الانهيار على ضعف الدور الذي اضطلعت به هذه الأنظمة كجزء من النظام الأميركي ما بعد الحرب الباردة وتراجعها في الترتيب الإقليمي… لا بل كشف انهيار نظام ما بعد الاستعمار فراغاً سياسياً كبيراً تحاول الثورات المختلفة ملأه، لكن يبدو أنها غير قادرة على حث السلطة على فعل ذلك بشكل قاطع على الرغم من الشجاعة التي أظهرها المتظاهرون.
في تجسيد للطبيعة المتناقضة للثورات العربية، فإن جوانب ثلاثة تمنع هذه الثورات من التقدم: أولاً، عدم وجود قيادة حكيمة لها، ثانياً، عدم الالتزام بأي برنامج سياسي تقليدي واضح، ثالثاً، كون الثورات سلمية. (كانت الانتفاضة المصرية أكثر تنظيماً مما كان مفترضاً فيما سارعت ثورة ليبيا في التحوّل إلى تمرد مسلح، ولكن بالرغم من هذه الاستثناءات، تماثلت الثورات على نطاق واسع بكثير من الجوانب المشتركة).
تمثل هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة الحدود الداخلية لهذه الثورات وتأثيرها على فرص نجاحها وقدرتها على تفكيك الأنظمة القديمة واستبدالها بأنظمة ديموقراطية:
– أضعف غياب قيادات قوية وموثوقة قدرة الانتفاضات على «تحديد مطالب متماسكة والرهان الجدي على السلطة». وتجلى ذلك بشكل أكثر وضوحاً في سوريا، حيث قادة المعارضة يترددون في السيطرة على الأوضاع، إذ أن عدم وجود أهداف وأفكار سياسية واضحة يشكل حاجزاً أمام انتشار الانتفاضات وأمام تشجيع المزيد من الناس على الانضمام إليها.
– انعدام الرؤية، هو أقوى حاجز يعيق انتشار السخط الشعبي، لذا يرى العديد من المراقبين حتى الآن أن الثورات بمثابة «نقلة الى الظلام». هذا ما ينطبق على سوريا وعلى العديد من البلدان الأخرى التي لم تشهد حركات احتجاج كبرى بعد، وحيث لا يزال السخط السياسي قيد الطمس.
– كذلك، فإن التشديد على نبذ العنف يحمي الدور الذي يلعبه القمع في الحفاظ على الأنظمة في السلطة، وهي الحالة التي لن تتغير، في حين أن الدولة تحافظ على احتكارها للعنف.. أعطى «القالب» السلمي للثورات والذي طُبق في تونس ومصر، انطباعاً بأن مثل هذا التغيير السلمي ممكن، لكن اتضح بعدها أن زين العابدين بن علي وحسني مبارك قد دفعت بهما المؤسسات العسكرية بهدف الحفاظ على «الستاتيكو» في البلدين.. اكثر من ذلك.
… ما يحدث في موازاة ذلك هو نقل للمسؤولية الى الثورات تحت شعار «يتعين على العالم أن يفعل شيئاً».. في كل من البحرين وسوريا، على سبيل المثال، تعاظم الشعور بالظلم والمعاناة عندما لم يستجب هذا «الخارج» لطلب المساعدة، وهو الشعور الذي جسّده المتظاهرون بشعار «صمتكم يقتلنا».. هذه العقلية بالذات (الاستعانة بالخارج) تتعارض تماماً مع الروح الثورية التي هي تعبير عن الإرادة الشعبية، وليس إرادة «الوكلاء» الخارجيين… يجدر التأكيد مرة أخرى على أن ما يجري ليس بسبب عدم شجاعة معارضي الداخل بل عدم توفر الثقة بالنفس والجرأة لإنجاح انتفاضة شعبية «مستقلة»… فوز الإسلاميين الحديث في انتخابات تونس، الخطاب الفارغ لزعيم المجلس الانتقالي الليبي مع «فسحته الاسلامية»، الاعتداءات على تجمع للقبطيين في القاهرة، كلها إشارات على خروج قطار الثورات عن سكته. قد ينظر إليها على أنها إما علامات اليد الخفية للإسلاميين أو في بعض الحالات دليل تواطؤ بين الغرب والإسلاميين. مثل هذه التفسيرات لا معنى لها، اذ لا تعبّر عن فهمها لديناميات الثورات.
كارل شارو ـ مدوّن مقيم في لندن
ترجمة: دنيز يمين
النهار