الثورات العربية: الانهيارات المتتالية للنظم السياسية العربية
خالد حنفي علي
لم تكن الأنظمة السياسية العربية تدرك أن واقعة إحراق الشاب محمد بوعزيزي لنفسه، احتجاجا علي مصادرة السلطات المحلية لعربته لبيع الخضار، بداية لمرحلة من الانتفاضات والثورات الشعبية في المنطقة بدأت في تونس، وانتقلت إلي مصر، ثم ليبيا، واليمن، والأردن، والبحرين، وغيرها.
ولئن استطاعت ثورتا تونس ومصر إجبار رئيسيهما علي التنحي بعد حشد شعبي متوال، وإصرار لافت علي دفع ضريبة التغيير بالشهداء في مواجهة آلة القمع الأمني الحكومية، فإن الانتفاضات الشعبية الأخري واجهت ظروفا مغايرة متأثرة، إما تارة بالمركبات القبلية والعسكرية كما في اليمن وليبيا، وتارة أخري بالمركب الطائفي، كما في البحرين.
إن الأنظمة العربية تواجه لحظة فارقة في عمرها، منذ الاستقلال عن الاستعمار، إذ بدا أنها تدفع ضريبة تباطؤ الإصلاح السياسي، واستشراء الفساد، وهيمنة الدولة البوليسية، وتهميش كيانات اجتماعية ودينية. ذلك أنه لم يعد مجديا في نظر الجماهير بقاؤها، ولذا بات الشعار الموحد لاحتجاجات العرب ’الشعب يريد إسقاط النظام’.
لقد كشفت الانتفاضات ضد النظم العربية عن ’عقل جمعي عربي’، تشكلت ملامحه في استنساخ آليات ومطالب الاحتجاج، ونقل الخبرات عبر الشبكات الاجتماعية علي الإنترنت (الفيس بوك، تويتر) في مواجهة هذه النظم، وهو ما سقطت معها مقولة فرادة حالة تونس، التي ما لبثت أن انتقلت عدواها إلي مصر وليبيا وغيرها.
غير أن الفرادة الحقيقية ظهرت في طبيعة استجابة كل نظام عربي لمطالب التغيير ومآلاته. فبينما بدت الدولة في مصر وتونس أكثر تماسكا، رغم سقوط قواعد اللعبة في النظامين عبر انحياز الجيش لمطالب الثورتين، فإن الانتفاضة علي الزعيم الليبي معمر القذافي تمت ’عسكرتها’ داخليا، لاسيما مع تماهي الدولة والنظام في شخص الزعيم الليبي. وبدا العامل الخارجي أكثر بروزا مع فرض حظر طيران جوي من قبل مجلس الأمن الدولي لحماية المدنيين، إثر العنف المفرط لكتائب القذافي ضد الثوار.
وبينما لجأ النظام اليمني إلي سيناريو ’القمع الأمني’ في ساحة التغيير ضد المحتجين، بما قد يدفع الأوضاع إلي انهيار متوقع، وتشتت مناطقي ينال من وحدة الدولة ذاتها، فإن السمت الطائفي الشيعي للانتفاضة في البحرين دفع بالعامل الخارجي، المتمثل في قوات درع الجزيرة، إلي التدخل لانقاذ الأسرة الحاكمة ’السنية’ من السقوط.
في المقابل، فإن تفاعل النظامين الملكيين في المغرب والأردن مع الاحتجاجات انطوي علي محاولة عدم تحويلهما إلي ثورة عارمة، عبر الإعلان عن إصلاحات سياسية واقتصادية.
ورغم أن السعودية شهدت احتجاجات محدودة، فإنها سعت لتجنب توسيعها عبر حزمة من القرارات التنموية للملك عبد الله بن عبد العزيز لتلافي حالة الغضب، بينما لجأ النظام السوري الذي ظل لفترة بعيدا عن الاحتجاجات إلي ’الأداة الأمنية الصارمة’ لمواجهة بروز الاحتجاجات في ’درعا’ جنوبي البلاد.
إن ملف ’السياسة الدولية’ يرصد ويحلل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تفجر وانهيار الأنظمة السياسية العربية من الداخل، باتجاه إعادة تشكيل مجمل الخريطة السياسية الداخلية وموازين القوي في المنطقة.
ولعل صعوبة فهم المرحلة التاريخية التي نعيشها في المنطقة تكمن في أننا نعالج لحظة راهنة تتشكل وتتطور بسرعة أكبر أحيان من قدرات التحليل السياسي ذاته علي التوقف لتفسير أبعادها ودلالاتها ومآلاتها. إذ تنشأ معادلات تغيير جديدة، ظلت غائبة عن إدراك النخبة الأكاديمية العربية التي عانت ’تجريفا سياسيا’، مما دفعها للاستسلام لمقولات ’قوة الأنظمة (أمنيا)())) ولامبالاة الشعوب’، الأمر الذي ثبت مع الانتفاضات العربية أنها لا تعدو سوي ’هيبة هشة’ للأنظمة، بلغت إلي حد التساؤل عن مدي قدرة بعض الدول علي البقاء من عدمه.
إن حالة الانهيار السريع لبعض الأنظمة العربية تستدعي إعادة النظر في مناهج التحليل السياسي التي ظلت تهمل حركات التغيير الكامنة غير المنظمة في المجتمعات العربية، وتعظم في الوقت ذاته من قدرات وأدوات الأنظمة السياسية العربية علي استيعاب أي تغيير ظاهري، بما يدعم بقاءها.
لقد سعي الملف إلي طرح أسئلة مركزية ذات طابع بنيوي عن انهيار النظم العربية، مع عدم إغفال خصوصية وفرادة الحالة الانتفاضية في كل دولة، وما إذا كانت بلغت ذروة الثورة أم لا، وطبيعة نموذج التغيير واستجابة الأنظمة العربية. ومن أبرز هذه الاستفهامات:
أولا- عوامل انهيار النظام السياسي في الدولة العربية موضع التحليل. وفي هذا السياق، بدا أن هناك نوعين من العوامل، بعضها هيكلية ساهمت في الانتفاضات والثورات، والأخري ظرفية مباشرة وفرت للجماهير دوافع الخروج إلي الشارع، ومواجهة ’ثقافة التخويف’.
إن ثمة اتفاقا بين الخبراء في الحالات العربية المختلفة علي عدة عوامل بنيوية وراء الانتفاضات، من أبرزها ’مأسسة’ النظم العربية للفساد، والقمع الأمني، وهيكلة الانسداد السياسي بأطر سياسية لا تسمح بالتعبير بالحر، وفشل القوي التقليدية في استيعاب وفهم الحركات الشبابية الجديدة، والفجوات التنموية بين المناطق المختلفة داخل البلد الواحد، واستئثار فئة قليلة بموارد الدولة، عبر تكريس معادلة ’زواج السلطة ورأس المال’، وانتشار الإفقار، والبطالة في المجتمعات العربية كأحد مخلفات الإصلاح الاقتصادي الذي عظم من قيمة المؤشرات المالية علي حساب التهميش التنموي لفئات مجتمعية وقبلية ودينية، فضلا عن جمود النخبة وتماهيها مع مصالح النظام السياسي.
كل هذه عوامل تضافرت وتشابهت في تآكل الأنظمة العربية ودخولها مرحلة الانهيار، وخلفت في الوقت ذاته احتقانا كان ينقصه فقط عوامل ظرفية محفزة، كالفعل المفجر لمحمد بوعزيزي في تونس، وتعذيب خالد سعيد في مصر، ليثور المواطنون علي ’مأسسة الإهانة’ التي تعرضوا لها من الشرطة لعقود، واعتقال الناشط فتحي تربل في ليبيا، وسريان فعل العدوي الاحتجاجية إلي الأردن والمغرب والبحرين والجزائر وغيرها.
ثانيا- ’نموذج التغيير الانتفاضي’، إذ حملت كل دولة عربية خصوصية في التعبير عن التغيير، ما بين سقوط سريع لرئيسي مصر وتونس، ورفض التنازل والإصرار علي اللجوء للعنف في اليمن وليبيا والبحرين.
إلا أن هناك اتفاقا في بعض آليات التغيير التي عبرت عن حالة نفاذية عربية، كاستنساخ الشعارات المطالبة بإسقاط النظام، وعدم التوقف عند تنازل النظام، والضغط عليه لإدخاله في حلقة مفرغة من التراجعات حتي يسقط، وتوظيف أدوات الإنترنت الشبكية في التواصل والدعوة للاحتجاجات، وإطلاق أوصاف علي أيام الاعتصام والمسيرات (جمعة الغضب أو التحدي أو الرحيل) في ميادين عامة لها رمزيتها كميدان التحرير في القاهرة، وساحة التغيير باليمن، ودوار اللؤلؤة في البحرين، وساحة الجامع الحسيني في الأردن.
كما أن ثمة تشابها في آليات تأمين المتظاهرات (لجان شعبية)، وإعاشتهم في مواقع الاحتجاجات، فضلا عن غياب القوي السياسية التقليدية في بدء التظاهرات، ثم انضمامها لاحقا، وبناء اصطفاف طبقي بعد التوهج الثوري.
لقد تشابهت بعض النظم العربية في التعامل بالقوة مع المتظاهرين لمواجهة المطالبات بالتغيير، حيث سقط الشهداء في تونس ومصر واليمن والبحرين وسوريا، وإن كان مستوي العنف وحدته تفاوتت من حالة إلي أخري. وكلما زاد مستوي العنف، أدي ذلك إلي التفكك، وبدء وقوع انشقاقات، كما بدا واضحا في ليبيا واليمن .
وفي الوقت الذي انحازت فيه المؤسسة العسكرية لمطالب التغيير في مصر وتونس، فإنها بدت مساندة للأنظمة في اليمن والبحرين، فيما اعتراها التفكك في ليبيا، مما أسهم في ’عسكرة الانتفاضة’، وفتح الباب علي مصراعيه للعامل الخارجي، الذي تراجع تأثيره في حالتي مصر وتونس.
ثالثا- ’ما بعد التغيير’، إذ إن نموذج التغيير ومستوي العنف ودور المؤسسة العسكرية .. كلها أمور لعبت دورا في صياغة مرحلة ما بعد التغيير. إذ أعقب تغيير رأس النظام في مصر إصرار علي الإطاحة برموز النظام السابق، واقتحام مقار جهاز أمن الدولة التي مثلت أداة القمع، ثم إلغاؤه في مرحلة لاحقة، واستبدل به جهاز الأمن الوطني، بينما تم حل الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) في تونس، والتمسك بمطلب إقالة حكومة محمد الغنوشي الذي خلفه الباجي قائد السبسي.
وفيما تتجه مصر بقيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة في المرحلة الانتقالية إلي انتخابات برلمانية، ثم رئاسية بعد موافقة غالبية من المصريين علي التعديلات الدستورية، فإن سيناريوهات التغيير في حالات عربية أخري لا تزال مفتوحة، كما الحال في ليبيا، بعد تدخل العامل الخارجي.
وفي الوقت الذي يصطدم فيه التغيير في الأردن بمعادلة ’الثنائية الديموجرافية’ المكونة لبنيان الدولة (بين الأردنيين من أصول أردنية، والأردنيين من أصول فلسطينية)، فضلا عن قدرة النظام الملكي علي التخلي عن الممانعة تجاه مطالب التغيير، فإن ’طائفية الاحتجاج’ في البحرين قد تحول دون اكتمال المشهد الثوري الذي تحول خليجيا في أحد ملامحه لصراع خليجي سني في مواجهة المد الشيعي الإيراني.
بينما تتراوح سيناريوهات التغيير في اليمن ما بين حرب أهلية محدودة، وتشتت مناطقي، أو رضوخ الرئيس علي عبد الله صالح لمطالب المحتجين بالتنحي. فيما يبدو المشهد المغربي أكثر تدريجية إلي جهة الإصلاح السياسي، إثر محاولة من الملك محمد الخامس للاستجابة لبعض مطالب المحتجين في حركة 20 فبراير 2011 . وإن كان الوضع يبدو أكثر تحصينا، فإنه لا يزال مشرعا علي احتمالات عدة تتعلق بمدي قدرة حركات التغيير المغربية علي استثمار الزخم الاحتجاجي في المنطقة.
ومما يلاحظ في مرحلة ’ما بعد التغيير’ وجود علاقة طردية بين قوة الدولة ذاتها ومدي قدرتها علي إدارة مرحلة ما بعد التغيير. فالدولة المصرية التي تتسم برسوخها وجغرافيتها المركزية المتماسكة، رغم سقوط النظام، أكثر قدرة علي التعاطي مع إمكانات بناء نظام جديد، بينما التماهي بين النظام والدولة وشخص القذافي قد يفتح الطريق أمام سيناريو ’الانشطار المناطقي’.
ولعل البنية الطائفية المنقسمة تهدد كيان دولة كالبحرين. ولا يختلف الأمر كثيرا في الأردن واليمن، مع وجود بنية سكانية وقبلية غير متماسكة، ولاؤها الأول ليس للدولة، وإنما لمصالحها الضيقة.
إن هذه الأسئلة المركزية التي سعي الملف للإجابة عليها، عبر خبراء من دول عربية مختلفة، توخي فيها تعبير الكتاب عن خصوصية مجتمعاتهم، ومفرداتهم في التعبير السياسي. إذ إن أحد ملامح الانتفاضات والثورات العربية كسر ’الوعي القطري’، وتشكيل ’وعي جمعي عربي’ يتبني مفردات الحرية، ورفض الاستبداد، أيا كان شكله.
عن مجلة السياسة الدولية