صفحات الرأي

الثورات العربية: في «الشكل»

حسام عيتاني

وسط الاضطراب الشديد الذي أطلقته الثورات العربية، تسلط الأضواء على ظواهر تنتزع غالباً من سياقاتها الاجتماعية والسياسية وتقدم إلى جمهور وسائل الإعلام العريضة بصفتها ظواهر مفاجئة تفتقر إلى الجذور.

تغلب النزعة الشكلية في التناول السريع لما يجري في العالم العربي منذ عامين على نحو يجعل من العسير إعادة وضع الأحداث في مساراتها، تمهيداً لإداركها إدراكاً عقلانياً ينأى بها عن الاستغلال الشعبوي والتوظيف الأداتي المباشر والسهل.

وقدمت المجتمعات العربية في العامين ونيف الماضيين مجموعة جديرة بالاهتمام الدقيق من جانب كل من يكترث بالمآلات التي تمضي هذه المنطقة إليها، من ظواهر وممارسات وشعارات وأعمال فنية، توزع منتجوها ومستهلكوها على أطياف المجتمعات العربية كافة. وثمة ما يدعو إلى تخصيص الثورة المصرية بمقدار يتجاوز هذه الأسطر من التمعن، من تحركات «الألتراس» المناهضة لأجهزة الدولة، خصوصاً لأجهزتها القمعية، الأمنية والسياسية والثقافية، إلى العصيان المدني في بورسعيد كحركة اعتراض على التهميش والإقصاء اللذين تعاني منهما هذه المدينة منذ عهد حسني مبارك. وهي معاناة تتشارك فيها مع عدد كبير من المدن خارج القاهرة والإسكندرية.

إذا ألقينا نظرة على أمثلة أخرى، أثارت مقداراً من الصخب ثم اختفت تحت ركام الأحداث، نجد أن أياً منها لم يخرج من آلية تراكم الاحتجاج والـرفض للواقع الذي يبدو سـادته عازمين على إعادة تكريسه على النحو الذي كان عليه في أيام مبارك مع رتق بعض الثغرات هنا وهناك. فحالات الاغتصاب العلنية في الشوارع والاعتصامات، والتي أطلقت هلعاً عاماً في مصر قبل أسابيع قليلة، اختفت فجأة مثلما ظهرت، عن شاشة المتابعة العامة. لا يقول الاختفاء أن علاجاً ناجعاً قد وجد للظاهرة الفظيعة هذه، بل على العكس، أنه ينبئ بأن اغتصاب الناشطات في الشوارع قد تكرس سلاحاً سياسياً في يد فئة بعينها، على نحو لم يجد له المجتمع المصري دواء غير فرض مزيد من القمع على نصفه النسائي ورميه بحظر غير معلن من العمل السياسي.

ومن يحاول التقدم في تفحص هذه المشكلة لا يتأخر عن العثور على تفسيراتها المضمرة في تحالف بين ناشطي التيارات الرافضة في العمق لأي تغيير جدي بنية النظام الاجتماعي والسياسي في مصر. من هنا يمكن فهم هذا التركيز على افتعال الاعتداءات على المتظاهرات في النشاطات التي يدعو إليها معارضو الحكم الحالي وهم من المنددين، في الوقت ذاته، بإعادة الاعتبار للمؤسسة الأمنية المتهمة بغض النظر عن حالات الاغتصاب العلني، مؤدية بذلك دورها ضمن التحالف المذكور.

يحصل ذلك في بلد يفترض أن يكون خطا خطوات واسعة في تحقيق المساواة بين المرأة والرجل، في حين يبدو أن النزعة المحافظة التي جاءت بجماعات الإسلام السياسي إلى السلطة في مصر، قد وقفت إلى جانب تقليص مشاركة النساء في الحياة السياسية ولو عبر هذا النوع من الممارسات.

يجوز هنا قول بعض كلمات عن الشابة علياء المهدي التي تشكل ظاهرة يساء في الغالب تفسيرها، ويفرض الكلام عنها انقساماً عمودياً بين أنصار تحطيم المحرّمات وبين رافضي تحدي القيم التقليدية.

نزعم أن ثمة مقاربة أخرى ممكنة. فالشابة التي نشرت صورها عارية على مدونتها ثم تظاهرت منذ بضعة أشهر مع مجموعة من العاريات أمام سفارة بلادها في دولة أوروبية، كانت تعلن رفضها للقمع الممارس عليها وعلى حريتها في التعـامل مـع جـسـدها. بيـد أن تـحدي «التـابـو» يـقف هـنا لتـبدأ عملية أكثر تعقيداً. فعلـياء اعترفت بعملها، بأن جسد المرأة يختلف عن جسد الرجل، وهو اختلاف قد يحيل إلى تمييز سلبي أو إيجابـي. لكنه اختلاف يستدعي التمييز. وبداهة سيكون تمييزاً سـلبياً في مـجتـمـعاتنا ومـحمولاتـها الـذكوريـة. كان يمكن الأحداث أن تسير في طريق شديد الاختلاف لو ظهرت عارية إلى جانب صديقها العاري، مثلاً. لكن وقوفها وحيدة أو مع نساء عاريات أخريات، كان بمثابة إخراج المحرّمات من الباب وفتح النافذة مشرّعة أمام عودتها منها.

تعيد هذه المقاربة طرح سؤال عن العلاقة بين الشكلي والفـعلي في مـجتمعاتنا. عن مـضمون الـحراكات الاجـتماعـية وتـمثـيلاتـها العمـيقــة التي لا تـرغـب وسائل الإعلام في الإشــارة إليـها في مـوجـزاتهـا السـريعـة وأخـبارهـا الـعاجـلة.

بالانتقال إلى ساحة أخرى من ساحات التعايش المستحيل بين المستويات المختلفة للظاهرة عينها، يجوز القول إن «سلاح المقاومة» في لبنان يمثل واحدة من ذرى اللامعقول في الاجتماع والسياسة في بلادنا.

وتتجاوز المسألة بأشواط حقيقة مصادرة جماعة أهلية لاستراتيجية الدفاع الوطني واسترهانها لمصلحة مهمات إقليمية ودولية، قليلة الصلة بالمصالح الفعلية للبنانيين بمجموعهم كشعب ودولة (على رغم حصول أصحاب السلاح على تغطية سياسية رسمية)، إلى الخلاف العميق بين اللبنانيين، كجماعات وكأفراد، حول معنى وطن ومجتمع يساهم السلاح المنتشر بين أيدي مواطنيه، بعد تفعيل آليات الخوف المتبادل، في إعاقة أي تبلور لمشروعه أولاً ولمؤسساته، بالتالي لمجتمعه المحتجز ضمن هوياته الطائفية المغلقة.

ولا يصح هنا إنكار تراجع أدوات المعرفة الضرورية لفهم ما جرى في الدول العربية في الأعوام القليلة الماضية، وانكفاء الأدوات التي بين أيدي الباحثين العرب إلى مجموعة من المقولات التي باتت تحتاج إلى إعادة تقويم جذرية لمدى مطابقتها للواقع المستجد ولقدرتها على اللحاق، مجرد اللحاق، بما حققته المجتمعات العربية. قد نكون تراجعنا مرة جديدة على الطريق من تغيير العالم إلى تفسيره، ومن دون نجاح باهر حتى في المهمة هذه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى