صفحات الرأي

الثورات العربية كفرصة ومأزق للإسلام السياسي…

بشير هلال *

حتى لو تبين أن رسالة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري إلى الزعيم السلفي المصري حازم أبو إسماعيل التي قيل إنه وجهها إليه بداية هذا الشهر بالصوت والصورة تعود حقيقة إلى عام انصرم وأنها في ذلك الوقت، وكما يقول أنصار الثاني، لم تكن موجهة إليه تحديداً وإنما إلى مجموع المصريين، فمن الواضح أن محتواها لا يزال يشكل مادة نقاش راهنة.

ووفق الفيديو الذي وُزِّع على يوتيوب ثم سُحب بأمرٍ من إدارة الموقع فإن الظواهري دعا في رسالته إلى «شن حملة شعبية تحريضية دعوية لاستكمال الثورة التي تم إجهاضها والتلاعب بمكاسبها»، وأنه «لا بد من تحقيق طلب شعب مصر من الحكم بالشريعة لتحقيق العزة والكرامة والرفعة لهم، وإجبار القوى الفاسدة في مصر على الرضوخ لمطالب الشعب عبر العمل الشعبي الثوري الدعوي التحريضي»، وأن «على الأمة المسلمة أن تقدم الضحايا والقرابين حتى تعيد لمصر مجدها ولتطهيرها من القوى الفاسدة التي ما زالت تتحكم بها بدعم خارجي». ما اعتبرته غالبية المعارضة دعوة إلى ممارسة العنف لتحقيق الدولة الإسلامية فيما اعتبره بعض الإسلاميين تطوراً في «منهج القاعدة» نحو العمل السياسي.

وفي ما يبدو استكمالاً ضمنياً لرسالته أعلن شقيقه المهندس محمد الظواهري الموصوف بأنه زعيم «السلفية الجهادية» رفضه لدستورٍ «لا يطبق أحكام الإسلام الصحيح» و «يجعل السيادة لغير الله»، ودعا للاسترشاد بما كُتِب من دساتير إسلامية كذلك الباكستاني الذي يشكل «دستورًا شاملاً للشريعة الإسلامية» و «يضم صيغة تستند على الشرع وليس الشعب»، وتبرَّأ من أي دستورٍ «ينازع الله في حقوقه».

وأضاف في بيانٍ جديد بعنوان «الأضواء الجلية لما في دستور الحكومة المصرية من أخطاء شرعية» دعوةً إلى إجراء استفتاء بحرية على نطاق المحافظات حول تطبيق الشريعة أو الدستور ومن ثم من أراد العيش من المواطنين في المحافظات التي تطبق بها الشريعة فليذهب إليها، ومن أراد غير ذلك فليهاجر منها إلى المحافظة الأخرى الأمر الذي يعادل تقسيم مصر بين محافظات «كافرة» و «مؤمنة»، وأسند ذلك إلى أن الديموقراطية أو سيادة الشعب «شركٌ بالله وتأليهٌ للشعب»، ولأن نظام الحكم الشرعي لا يسمح بتداول السلطة ولا بإظهار شعائر أهل الذمة ولا بالمساواة بين المسلمين وغيرهم ولا بين الرجل والمرأة. وختم بالهجوم على الغرب الذي لا «يُعظمون قيمه وقوانينه ولن يقبلوا بالاستفتاء على أحكام الشريعة».

وإذا جمعنا ذلك إلى مظاهر محدودة للعُنفيْن الإخواني والسلفي برزت بمناسبة الإعلان ثم الاستفتاء الدستوري وإعادة صياغة المشهد السياسي المصري حولهما وإلى صعوبات حزب النهضة التونسي في إدارة الدولة والانقسام المجتمعي حول دوره وصلته بالتيار السلفي واستفزازات الأخير ضد حرية الرأي والنقابات والمؤسسات التعليمية وتأخر إنجاز دستور جديد لتجمعت مجموعة من الملاحظات.

الأولى أن صعود الحركات الإسلامية متمثلة بجناحها الإخواني الأقدم والأكثر تنظيماً يتباطأ فيما تبدو سياساته وأيديولوجيته قاصريْن عن الإحاطة بمختلف جوانب الشان العام وعن ضبط التناقضات الداخلية القاتلة فيهما. فلا يمكن على سبيل المثال للإخوان الجمع بين الدستورية والحاكمية وموقف السلفيين الجهاديين إذ يثير هذه النقطة إنما يحرجهم ويشكك بشرعية مواقفهم بينما لا يحرج خصومهم. وإذا كانوا برفعهم شعار «الشرعية والشريعة» قد جربوا المزج بينهما في سلوك شعبوي لتمرير هيمنة دستورية سياسية على الدولة فقد أثبت اتحاد غالبية القوى السياسية والقضائية والكنائس والإسلام المؤسسي والنوبيين أن أرجحية الشريعة كشرط شارط لحشد السلفيين معهم لا يمكنها إلا أن تضر بانفتاحهم على الإسلامَيْن المجتمعي والصوفي وعلى الأقليات، وأنهم بذلك لا قِبَل لهم بجمع أكثرية مستقرة. كما تؤدي هذه السياسة إلى تضخيم التمايزات الجهوية والاجتماعية والهويات الفرعية. ففي تصويت المحافظات العشر الأولى على مشروع الدستور الإخواني برز التمايز الحاد في التصويت بين المدن التي صوت معظمها بالرفض وبين الصعيد الذي تشكل الطائفية أحد أقوى عوامل تشكيل انقساماته. وهو أمرٌ تكرر تقريباً في تونس وجزئياً في ليبيا.

الثانية أن مراوحتهم بين مفهوم الأمة والخلافة وبين المفهوم الوطني الدستوري مع ميلٍ أيديولوجي قوي نحو الأول تجعلهم في تعارضٍ غالب مع هيئات الدولة من إدارة وجيوش وقضاء بما تمثله كأجسامٍ اجتماعية ومع النقابات ومؤسسات المجتمع المدني حيثما وُجِدت. وهو تعارضٌ يتناقض مع جهود الحركات الإخوانية للهيمنة التدريجية «الهادئة» على الدولة واستخدامها في بناء دولة حزبية مما يشير إلى الصعوبة الأصلية التي يضعها الوصول بالطريق الانتخابي أمام نشوء ديكتاتوريات جديدة.

الثالثة، أن أي تهديد بالعنف يستجلب كما في المثالين المصري والتونسي إمكانيات تنظيم عنف مضاد يزيد الاستقطاب الحاد المُهدِّد بانقسامٍ أهلي ولااستقرار مديديْن يمكن أن يشكلا قاعدة لثورات مضادة. وعلى سبيل المثال فإن الحديث عن ميليشيات إخوانية وكتائب سلفية (الحازمون نسبة إلى حازم أبو إسماعيل) شجَّع إعلان ميليشيا نوبية. ويشجع انتشار السلاح وخروجه على الضبط الدقيق مسارات عدنية وفوضوية.

الرابعة، أن تجربة الثورات أدَّت إلى تصعيب إمكانية توظيف أجهزة الدولة في قمع المعارضات والتصدي لشبكات التواصل الاجتماعي و «الفضاء الإعلامي» بسبب المحاسبات ولو محدودة وسقوط ذاكرة الخوف ونشوء مستويات جديدة من الوعي «الحقوقي-السياسي» الديموقراطي.

الخامسة، أن أية تنمية اقتصادية اجتماعية في بلدانٍ تعتمد مواردها الأساسية على المقاولات الصناعية والزراعة والسياحة وموازناتها على المساعدات والقروض وتشهد بالأصل توترات اجتماعية وجيلية حادة ستكون أصعب بتسلط الإسلاميين على الدولة وقلة خبراتهم بما يزيد حذر الهيئات المالية الدولية والمانحين بالتزامن مع تغييبهم خيار الدولة الرعائية التي يُشكل الطلب الضمني عليها أحد محركات الثورات إلى جانب الحرية والمساواة.

وبالتالي فإن التحولات الجارية قدَّمت للإسلام السياسي ولمكونه الإخواني فرصة للتحول إلى قوة تداول سياسي وحكومي ديموقراطي ولكنها قابلة أيضاً للتحول إلى مأزق له وللمجتمعات العربية إذا لم يُعِد النظر بالحاكمية وبخط فرض الدولة الحزبية ولم يتميز عن السلفية الجهادية في النظرة إلى الآخر والمختلِفْ.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى