الثورات العربية من منظور ديمغرافي
غسان العزي
يقيم بعض الباحثين أوجه شبه ما بين التحولات الديمغرافية والثقافية في المجتمعات العربية، التي قادت إلى ثورات العام 2011 وبين انتفاضة مايو/ أيار 1968 الفرنسية التي اعتبرت انتفاضة جيل شاب من أجل الحداثة الثقافية في فرنسا . من هذا المنظور فإن الشباب العربي الذي وصل إلى مرحلة نضج حداثي ليبرالي كان اللاعب السوسيولوجي لهذه الثورات، التي قامت أصلاً على يد شباب وشابات طالبوا بحق اختيار قادتهم ونظامهم السياسي وإنهاء الفساد المستشري ومكافحة البطالة وتحسين شروط الحياة وغيرها . هكذا أرادوا الالتحاق بالديمقراطيات الليبرالية والمجتمعات المتقدمة والعولمة العادلة وليس تلك النيوليبرالية التي يثور عليها الشباب في الغرب نفسه .
والمعروف أن المجتمعات العربية عموماً مجتمعات فتية . فالشريحة العمرية تحت العشرين سنة تمثل أكثر من نصف عدد السكان، والشريحة بين 15-24 سنة تمثل ربع السكان . كما يعرف العالم العربي تراجعاً في نسبة الخصوبة التي انخفضت إلى النصف عما كانت عليه في العام 1960 (بين 5 و7 وقتها إلى بين 2 و3 اليوم) . وفي تونس يبلغ معدل الخصوبة 1،71 أي أقل من المعدل الفرنسي (1،91) .
وبحسب الباحث الديمغرافي الفرنسي ايمانويل تود فإن المجتمع الذي يسيطر على الخصوبة هو مجتمع تتغير فيه العلاقة بين الرجل والمرأة . فالنساء اللواتي يتعلمن يدخلن إلى سوق العمل، الأمر الذي يجبرهنّ على استخدام وسائل منع الحمل بموافقة الرجل الذي يحتاج إلى عمل زوجته . هذه الظاهرة بتنا نشاهدها في الشرق الأوسط . والمرأة التي تعمل تتعلم وتدخل الجامعة وتعلّم أولادها فينشأ جيل كامل أكثر علماً وثقافةً ممن سبقه وأقل قبولاً بالاستبداد والخنوع وأكثر طموحاً إلى حياة كريمة . إضافة إلى ذلك فإن الاسباب الاقتصادية (البطالة، الفقر) تحد من زواج الشباب فنجد ظاهرة العزوبية والزواج المتأخر، وهذا يساهم بدوره في لجم الانفجار السكاني الذي طالما حذّر منه المالتوسيون .
من جهة أخرى كانت نسبة الأمية في العالم العربي في العام ،1970 تقارب السبعين في المئة قبل أن تتقلص إلى 38 في المائة في العام 2000 (مع ملاحظة الفوارق بين بلد عربي وآخر) . في السنوات الثلاث السابقة للثورة بلغ عدد الطلاب الجامعيين في تونس 350 ألفاً وفي مصر أكثر من مليونين ونصف وفي ليبيا 300 ألف وفي اليمن 352 ألفاً . وهذا يعني عملياً الخروج من دائرة الجهل والوعي بالأنا وبحقوق الفرد وتأثيره في مجتمعه . هؤلاء الطلاب الجامعيون سيحملون شهادات عليا وهم في مقتبل العمر، إذ تبلغ نسبة الشباب في تونس أكثر من 42 في المئة وفي مصر أكثر من 54 في المئة وفي ليبيا أكثر من 47 في المئة، في حين أن نسبة البطالة بينهم تبلغ في تونس واليمن ومصر وليبيا والبحرين وسوريا بين 25 و30 في المئة .
عن الفقر والجوع تشير الدراسات إلى أن المنطقة العربية هي واحدة من منطقتين في العالم ارتفعت فيهما نسبة المصابين بسوء التغذية حيث بلغ هؤلاء 19،8 مليون في العام 1990 ليرتفع العدد إلى 25 مليوناً عام 2004 من بينهم 2،5 مليون في كل من ليبيا النفطية الغنية وتونس . كما يشير تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2009 إلى أن واحداً من كل خمسة أشخاص في العالم العربي يعيش تحت الخط الدولي للفقر (أقل من دولارين في اليوم) . في مصر وحدها يصل العدد إلى 14 مليوناً وفي اليمن سبعة ملايين .
في مقابل هذا الوضع وبدل أن تسعى الدولة للتصدي لهذه المشاكل نشأت طبقة أقلوية محيطة بالحكام راحت تستفيد وحدها من حسنات العولمة وتترك الشعب يتأثر بسلبياتها . وشاع مصطلح “تغوّل الدولة الأمنية” في العالم العربي خلال الثلاثين سنة الماضية وهذا يعني سيطرة الأنظمة على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والنقابية والثقافية وحتى الرياضية . لقد تحولت تونس إلى معتقل كبير يقوم على تخصيص رجل أمن لكل 150 مواطناً . في مصر تخطى عدد البلطجية ال500 ألف أي أكثر من تعداد الجيش المصري نفسه (468000)، إضافة إلى 350 ألف رجل أمن مركزي . أما في ليبيا فلم يكن من جيش بمعنى الكلمة بل ميليشيات ومرتزقة ولجان ثورية تابعة للنظام وألوية عسكرية يقودها أولاد القذافي . والوضع نفسه نجده في سوريا واليمن .
من جهة أخرى تبين الإحصاءات أن أكثر من خمسين في المئة من الشباب العربي يسعون للهجرة إلى الغرب . حوالي عشرة في المئة من سكان مصر وتونس واليمن وسوريا والبحرين يعيشون في الغرب، أي أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا . ولا يدخل الطلاب في هذا التعداد وعددهم كبير نسبياً .
للهجرة سيئات كثيرة لاسيما هجرة الأدمغة، لكن لها في المقابل حسنات منها الأموال التي يرسلها المهاجرون والأهم احتكاك هؤلاء مع الآخرين المختلفين الذين يعيشون في دول متقدمة، الأمر الذي يعكس نفسه على أنماط التفكير للمقيمين في الوطن الذين يعانون الاختناق السياسي والاقتصادي والحقوقي ويدركون حالة الفقر والظلم والاستبداد التي يعيشونها . ففي ظل انسداد الآفاق السياسية والاقتصادية لا يملك هؤلاء الشباب حتى حرية التعبير عن أنفسهم بل إنهم مجبرون على الخضوع لنظام بوليسي أمني وإعلان ولائهم للقائد من دون الحق في الانتقاد أو الاستياء أو الرفض وقد دلت استطلاعات الرأي قبل العام 2011 أن 77 في المئة من الشباب يؤمنون بالديمقراطية ويتوقون للعيش في نظام ديمقراطي، وارتفعت هذه النسبة إلى 92 في المئة بعد نجاح ثورتي تونس ومصر . في تونس 75 في المئة من الشباب يؤيدون الأسلوب القائم على التظاهر للتعبير عن أنفسهم (أي الثورة الشعبية) وفي مصر بلغت هذه النسبة 81 في المئة لقد وفّرت الثورات العربية مادة دسمة لعلماء الديمغرافيا الذين انكبوا على دراستها آملين التوصل إلى نتائج تغني هذا العلم وتساهم في فهم أعمق لهذه الثورات .
الخليج