صفحات الرأي

الثورات العربية من منظور طبقي

غسان العزي
قال نجيب محفوظ ذات يوم: “من خلال قراءتي في التاريخ، وبخاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ويفوز بها الجبناء” . أما لينين فكان قد قال ما معناه إن الثورات يحلم بها الفلاسفة وينفذها المقهورون ويستثمرها الانتهازيون . فالثورة الفرنسية على سبيل المثال حلم بها الفلاسفة إلى أن بشّر بها المفكر إيمانويل ساييس، العضو في الجمعية العمومية الفرنسية (في كتابه “الطبقة الثالثة” الذي بيع منه ثلاثون ألف نسخة فور صدوره في العام 1789)، وقامت على أيدي الفقراء قبل أن يستثمرها الانتهازيون الذين عادت على أيديهم الدكتاتورية ثم الإمبراطورية .
يمكن القول إن أبطال الثورة يتميزون عن طبيعة الثورة التي قد تكون بورجوازية، وإن كان أبطالها غير بورجوازيين، كما كانت عليه الثورة الفرنسية عام 1789 . هذه الأخيرة حررت نمط الانتاج الرأسمالي من قيوده الإقطاعية عبر دفعها إلى المقدمة طبقة بورجوازية كان يحتاج إليها النمو الرأسمالي . هناك ثورات حدثت من فوق (ألمانيا وإنجلترا)، وأخرى حدثت من تحت (فرنسا والولايات المتحدة) . هذه الأخيرة شعبية لأن الشعب أتاح مجيء النظام الجديد وسهل سيطرة نمط الإنتاج الجديد من هذه الزاوية لا يمكن تصنيف الثورات العربية على أنها ثورات بورجوازية، كما يرتئي بعض الماركسيين، لأن المجتمع ليس رأسمالياً، وهي ليست ثورات بروليتاريا على خلفية صراع طبقي على الطريقة الماركسية . إنها ثورات شعبية بكل بساطة .
الثورات العربية شعبية لأنها تحالف كل شرائح المجتمع تقريباً في وجه عدو مشترك هو الزمرة الحاكمة . من هؤلاء من يريد تغيير النظام (السيستام) ومنهم من يطالب بالخبز أو العمل أو بأجر أفضل أو بالحرية والعدالة أو بكل ذلك . هناك أيضاً من يريد أن يمارس رأسماليته بشكل نظامي من دون أن يتعرض لاعتداء أو خوّة . هناك رجال أعمال كما هناك عاطلون عن العمل في هذه الثورات . المطلب الذي يجمع ما بين كل هؤلاء هو الكرامة . وهذا من جديد الثورات العربية . إنه مفهوم الكرامة الذي لم يحتل مكانه بعد في علم الاجتماع السياسي .
إنها ثورات شعبية وعفوية لا قائد لها ولا أيديولوجيا ولا حزب ولا تنظيم سياسياً خلفها . في أسفل السلم الاجتماعي هناك الشباب العاطل عن العمل، بروليتاريا موسمية أو تجار صغار ظرفيون . بالطبع أسهمت النقابات وبعض الأحزاب والتيارات الإسلامية والعلمانية واليسارية وحركات الدفاع عن حقوق الإنسان في تأطير وتنظيم التظاهرات، لكنها لم تكن المحرك الفعلي أو المخطط أو المفجر للثورة . وبهذا أيضاً تختلف الثورات العربية عن الثورات الكبرى التي قامت عبر التاريخ على المستوى السوسيولوجي والسياسي تم النظر إلى الثورة كانتفاضة أو كتمرد “تحت-سياسي” سلبي، لأنه يسعى إلى الإسقاط (النظام)، وليس البناء (نظام جديد) . وأحياناً نُظر إليها كحركة سياسية بدائية تطلب في العمق اندماجاً اجتماعياً . فالطابع السلمي للتظاهرات يعكس تطلعاً إلى الديمقراطية الاجتماعية، وغياباً لاعتناقات أيديولوجية راديكالية . فحتى الإسلام السياسي وهو الأيديولوجية التي لم تجرب الحكم، لذلك احتفظت بمصداقيتها لدى كثيرين، اعتنقت الواقعية السياسية وانخرطت في المسار البرلماني عن طريق الانتخابات منذ نهاية القرن الماضي . الإخوان المسلمون أعلنوا عن إيمانهم باللعبة الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وقد انخرطوا فيها لكن السلطة هي التي عمدت إلى استثنائهم وإبعادهم واضطهادهم، وبذلك فإنهم لم يستطيعوا حمل شعارات متطرفة أو دفع التظاهرات لحملها . وفي غياب معتقد جديد أو أيديولوجية جديدة توزّع المتظاهرون بين المعتقدات القائمة التي لا تشدّد فيها على العموم، بل دعت كلها إلى الديمقراطية ورحيل النظام (ارحل) .
من وجهة النظر السوسيولوجية أيضاً، يضم لاعبو الثورات العربية مديري شركات ورجال أعمال دعوا بشكل مباشر أو غير مباشر لانتفاضة، لأن الزمرة الحاكمة كانت تسرقهم وتبتزهم، وتفرض عليهم الخوّة، وتأخذ العقود الدولية من أيديهم لمصلحة أقارب الرئيس (جماعة طرابلسي في تونس، ومبارك في مصر، وصالح في اليمن، ومخلوف في سوريا) . أحياناً كان بعض رجال الأعمال النافذين يؤيد السلطة، لأنها تحتفظ لهم بالامتيازات طمعاً في دعمهم لها (حالة سوريا مثلاً) . بمعنى آخر أراد الكل الاحتفاظ بنمط الإنتاج القائم، أي بالليبرالية الاقتصادية مع تخليصه من الطفيليات الريعية التي تقبع في رأس النظام الاستبدادي . إنها مع إسقاط النظام السياسي وليس الاقتصادي، بل مع إنقاذ هذا الأخير من براثن الأول إنها إذن، ثورات عابرة للطبقات وليست تعبيراً عن صراع طبقي، رغم أن الفقراء هم من قام بها وضحّى لأجلها، ودفع أثمانها قبل أن يقطف ثمارها من يدعي تمثيلهم، عن وجه حق أو من دونه .
الخليج

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى