الثورات العربية والخيار الكوني
حازم صاغية
شهد القرن العشرون العديد من الثورات والتحولات الثورية الممتدة ما بين ثورة أكتوبر الروسية الشيوعية في 1917 والثورة الخمينية في إيران في 1979. ففي هذه الفسحة الزمنية التي تواصلت على مدى ستة عقود، وصل الفاشيون في إيطاليا وألمانيا إلى السلطة، في العشرينيات والثلاثينيات، وانتصرت الثورة الصينية في 1949 ثم الثورة الثقافية الماوية في الستينيات. كما توزع العمل الثوري على مناطق عدة ما بين فيتنام وكمبوديا وكوريا في آسيا، وكوبا في أميركا اللاتينية، وأنجولا والموزمبيق في أفريقيا، واليمن الجنوبي في العالم العربي.
والقواسم المشتركة بين هذه التطورات الكبرى، على اختلاف ذرائعها الأيديولوجية ومهودها الجغرافية، كثيرة نكتفي منها هنا، بثلاثة نظنها الأهم:
فأوّلاً، كان هناك استسهال لإحداث التغيير عن طريق العنف، وهو استسهال كان يرقى أحياناً إلى رفع العنف إلى سوية الغرض النبيل بذاته، فيما صير في المقابل، إلى هجاء المؤسسات السياسية والدستورية القائمة وتخوينها.
وثانياً، جرى في الحالات السابقة جميعها توسيع لدور الدولة الاقتصادي والسياسي والثقافي على حساب الأفراد والجماعات الذين يُحال بينهم وبين تعبيرهم المستقل عن مصالحهم أو أفكارهم. وغالباً ما رُبط هذا التعبير الممنوع بمصالح استعمارية وإمبريالية معادية للشعب والوطن.
وثالثاً، ومنذ إقامة ستالين «الاشتراكية في بلد واحد»، تم إحكام العزلة على البلد الذي يعصف به التحول الثوري كما جرى إغلاقه عن العالم الخارجي؛ مرة بحجة إخراجه من السوق العالمية، ومرة أخرى بحجة تخليصه من الغزو الثقافي أو من التلويث العرقي.. إلخ.
على أن سقوط النازية نتيجة للحرب العالمية الثانية أطلق موجة من التحولات الثورية الكبرى التي تختلف عميق الاختلاف عن التحولات المذكورة أعلاه. فبعد الانتقال إلى الديمقراطية الذي عرفته ألمانيا وإيطاليا واليابان ابتداءً من أواخر الأربعينيات، شهدت أواسط السبعينيات عملية دمقرطة طالت بلدان أوروبا الجنوبية الثلاثة: إسبانيا (إثر رحيل فرانكو وتهاوي ديكتاتوريته)، والبرتغال (إثر «ثورة القرنفل» على كايتانو والتركة السالازارية)، واليونان (مع سقوط الحكم العسكري). لكن أواخر الثمانينيات وأواخر التسعينيات هي التي شكلت ذروة هذا التحول الثوري والكوني العظيم، على ما تجسد في ثورات روسيا وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى ضد الحكم الشيوعي والإمبراطورية السوفييتية. وقد واكبت ذلك تحولات عرفتها أميركا اللاتينية التي انقضت على ديكتاتورياتها العسكرية، بينما انقضت جنوب أفريقيا، في الفترة نفسها، على نظام الفصل العنصري.
وهذه التحولات جمعت بينها، هي الأخرى، قواسم مشتركة تُعد نقيضاً للقواسم التي جمعت بين التحولات الأولى. وقد كان من أهمها:
أولا، تم توكيد السلمية ونبذ العنف، إلا في حالات اضطرارية قصوى واستثنائية. ولم يكن بلا دلالة أن وجوهاً مثل فاكلاف هافل ونيلسون مانديلا شرعت تطرد الوجوه الماوية والجيفارية من ساحات المخيلة الثورية.
ثانياً، عُمل على ترشيق الدولة ومحاصرة أخطبوطيتها السياسية والاقتصادية والثقافية لصالح توسيع هوامش الأفراد والمجتمعات المدنية. هكذا كادت التجارب الجديدة كلها تتبنى الديمقراطية البرلمانية واقتصاد السوق، مع جرعات محدودة من التدخل الحكومي.
ثالثاً، صير إلى كسر عزلة البلد المعني، أكانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية، وإحداث أكبر انفتاح على العالم الخارجي، لاسيما منه بلدان الديمقراطيات الرأسمالية المتطورة التي غالباً ما ناهضتها موجات التغيير الأولى واعتبرت الانفصال عنها طريقاً إلى الخلاص.
والمقارنة بين الوجهتين هاتين كفيلة بأن تقول لنا الكثير عن جديد عالمنا المعاصر: عن القوى والأفكار التي تصعد وتلك التي تهبط وتأفل، لاسيما في ما خص معنى الثورة والتحول التاريخي.
وبطبيعة الحال ليس من الحكمة تقديم هاتين الوجهتين على نحو خطي ومغلق. ففي الحقبة نفسها التي شهدت التحولات الديمقراطية في أوروبا الجنوبية، شهدت تشيلي، في أميركا الجنوبية، انقلاب بينوشيه على الديمقراطية عام 1973. كما أن بلدان أفريقيا لا تزال تبدي الكثير من الحيرة ما بين الديمقراطية والانقلاب العسكري، إلى جوار شهية مفتوحة للحروب الأهلية. بيد أن هذا لا يلغي الملمح العام المشار إليه أعلاه، بحيث أن القوى والأحزاب الاشتراكية في أميركا اللاتينية حسمت، هي نفسها، أمر وصولها إلى السلطة عن طريق البرلمان. وهو ما سبق أن عرفته إيطاليا التي تحول حزبها الشيوعي الكبير حزباً اشتراكياً ديمقراطياً، فيما تضاءل كثيراً حضور الحزب الشيوعي الفرنسي ونفوذه بعد اتضاح عجزه عن إحداث ذاك التحول.
والحال أن ثورات «الربيع العربي»، بما فيها من تفاوت، تملك الخاصيتين معاً: فمن الوجهة الجديدة، تبنت هذه الثورات مبدأ السلمية الذي رفعه شبانها وناشطوها الأوائل، وهي لم تؤكد على أي اقتصاد موجّه أو على أي تطلّب للعسكر، كما لم تُبد أي تعلق بالقضايا «المصيرية» القديمة التي تتجاوز حدود الدول وقدراتها (الوحدة العربية، تحرير فلسطين.. إلخ). وهذا فضلاً عن أن نبرة العداء للغرب بقيت لديها هامشية ومحدودة الأثر، بل ظلت أضعف كثيراً من مطالبة الغرب بالتدخل، على ما حصل فعلا في ليبيا وما قد يحصل في سوريا.
أما الوجهة القديمة فتحضر، هي الأخرى في الثورات العربية، عن طريق بروز تنظيمات الإسلام السياسي التي تحمل من الأفكار والتصورات التوتاليتارية ما يجيز تشبيهها بأحزاب الوجهة الثورية القديمة. وإذا كان عداء الإسلاميين للثقافة الحديثة والأقليات والنساء والإبداع، سبباً لقلق مؤكد، فأغلب الظن أنهم لن يستطيعوا، في القرن الحادي والعشرين ومع التشابك الاقتصادي والثقافي الهائل لعالمنا، أن يطبقوا ما طبقته حركات العزلة والاستبداد السالفة. غير أن تقاطع قوى الإسلام السياسي مع الولاءات الأهلية، الطائفية والجهوية والإثنية، لاسيما في بلدان كسوريا وليبيا، قد يمنحها الزخم الذي تسعى إليه.
وعلى العموم، يُرجح أن تتكفل الأشهر المقبلة، والسنوات القليلة المقبلة في حالة سوريا، بتوضيح الوجهة التي ستسلكها ثوراتنا وبلورتها: استعادة كوابيس العزلة والتدخل والقسر أم الانتساب إلى فضاءات الحرية في مسارها الكوني.
الاتحاد