الثورات العربيّة: ماذا لو…؟/ سامر فرنجية
في الحديث عن الثورات، غالباً ما يُقرأ هذا الحدث كخاتمة وتكثيف لمسارات مختلفة، تقاطعت في لحظة لتختم مرحلة من التاريخ بانفجار شعبي نقل العالم العربي إلى مرحلة أخرى. ومن بين هذه السيرورات التي ختمها محمد بوعزيزي بجسده، مسار الانفتاح الاقتصادي والسياسات النيو – ليبرالية الذي وسّع الفروقات الاجتماعية وحوّل اقتصاد المنطقة إلى بزار ريعي، وكذلك مسار الأنظمة القمعية وانسداد أفق أي حركة إصلاح سياسي، ومسار تخلخل المنظومة الدولية وتوازناتها في المنطقة، وغير ذلك من سيرورات. الثورات العربية، وفق هذا التصوّر، حدث مفصلي حوّل التقاء الكم إلى تغيّر نوعي، وفصل بين عالمين. وحتى الكلام المتزايد عن فشل الثورات إنما يقوم على فرضية مفصلية هذا الحدث، إمّا من خلال التأكيد على فشل الانتقال إلى مرحلة جديدة أو فشل المرحلة التي افتتحتها الثورات. لكن ماذا لو لم تشكّل الثورات، مهما استثمرنا فيها سياسياً ونظرياً وعاطفياً، حدثاً مفصلياً وانحرافاً في التاريخ، بل كانت مجرّد محطة في سيرورة أوسع، لا تختم وتفصل وتنقل؟ بكلام آخر، ماذا لو انتقلنا إلى مرحلة جديدة بعد حدث مفصلي لم يلاحظه أحد، والثورات ليست إلا محاولة لاعتبار أنّنا ما زلنا نحكم التاريخ؟
في الحديث عن الثورات، غالباً ما يُفترض أنّ الثوار نجحوا في مرحلة إسقاط النظام، ولكن فشلوا في مرحلة الاستيلاء على السلطة، كون أدواتهم السياسية غير مؤهلة لمهمة كهذه، مهمةٍ تحتاج الى أحزاب وبرامج واستراتيجيات تعبوية. فمع انتهاء اللحظة «السلبية» للثورات، عادت السياسة في شكلها التقليدي الذي لا يلخّص بصيحات «الشعب يريد»، وقضت على محاولات الثوار الانتقال إلى الطور الإيجابي، أي ابتكار نظام حكم بديل. فرضيّة هذا التصوّر أنّ «استثناء» لحظة الثورات لم يطاول منطق السياسة، الذي بقي أسير القوانين المؤسسية والاجتماعية والدولية الممانع للثورات. ولكن ماذا لو لم تكمن المشكلة في الطور الثاني من الثورات، بل طاولت لحظتها الجماهرية الأولى، التي على رغم استثنائيتها، بقيت أسيرة مفاهيم، كالدولة والسلطة والشعب والوطن والحرية والإرادة، تنتمي إلى عالم ولّى؟ بكلام آخر، ماذا لو لم تشكّل الثورات إشارة إلى «جديد» بل أحد إرهاصات ماض لم يعترف بأنّه ماض، ولم تكن إلا محاولة للتكلّم بلغة باتت ميتة؟
في الحديث عن الثورات، غالباً ما يُقارن بين تقنيات «الشباب» (وقد تكون من أسوأ التصنيفات التي مرت على تاريخ السياسة) السلمية والحديثة، وتلك التي تتبعها الجماعات الجهادية، العنفية و«المتخلفة». الثورة والديموقراطية والشباب فئات ومعانٍ «تراجيدية»، يخونها الواقع لتمسّكها بمبادئ لا مكان لها في عالم أسود. فوفق هذا التصوّر، أكثر ما يمكن نقده هو سذاجة الشباب الذين رفضوا الانصياع لمتطلبات الحاضر باسم طهارة مفقودة، وهي اعتبارات لم تعقْ عمل منافسيهم الجهاديين. ولكن ماذا لو لم يكمن ضعف هؤلاء الشباب في سلمية تقنياتهم وتعالي مشاعرهم، بل في انتمائها إلى عالم ولّى، شكّل الحاضنة لتلك التقنيات، فيما نجاح الجهاديين، بهذا المعنى، ليس نابعاً من عنف محض بل من تطابقهم مع الحاضر، على رغم «تخلّفهم»؟ بكلام آخر، من هو الأكثر «حداثة»: هذا الكائن الذي يعيش في عالم الشبكات، ويتراقص حول حدود الدول، ويتعايش مع التقنيات الحديثة، ويبني عالمه في منطقة رمادية، يتداخل فيها النفط مع الأقمار الصناعية والشركات العابرة للحدود، أو ذاك «الفرد» الذي يمضي عريضة ويكتب مقالة (كالتي تتمّ قراءتها حالياً) ويقوم بوقفة سلمية؟
في الحديث عن الثورات، غالباً ما يُعتبر العالم العربي تابعاً لتحوّلات حدثت سابقاً في دول أخرى، في تاريخانية لا تريد الزوال ولو كانت خارج التاريخ. فالثورات أعادت العالم العربي الى التاريخ، وفق هذا التصوّر، وألحقته بموجات الديموقراطية وثورة الاتصالات والعولمة وغيرها من السيرورات التي بدأت وغالباً انتهت في مكان آخر من الكوكب. الثورات لم تقدّم جديداً، بل سرّعت الزمان للالتحاق بهذا القطار الذي لم يتوقّف في محطة العالم العربي. أما فشلها، فهو السير مجدداً عكس التيار، كمن ركب القطار الخطأ وعاد إلى حيث كان. ولكن ماذا لو كان العالم العربي، في ثوراته وفي فشلها، سبّاقاً هذه المرة في الإفصاح عن بوادر عالم جديد، شكّل أحد مختبرات تطوير تقنياته؟ بكلام آخر، ماذا لو تأخّر العالم العربي في سباق عالم الأفكار ولكنّه بات متقدماً في عالم التقنيات العنفية، والثورات، بهذا المعنى، ليست إلا محاولة لاعادة الاعتبار لدور الأفكار في عالم تحكمه تقنيات لا تعترف بثنائية القرن العشرين؟
في ختام المقدمات هذه، ماذا لو كانت الثورات إحدى حيل التاريخ، التي أوهمتنا بأنّنا أبدينا رغبة في العالم الجديد في اللحظة نفسها التي كنّا فيها ضحايا حنين لعالم ولّى، تشكّل الثورة ذروته؟ وماذا لو لم تكن الثورات إلاّ آخر محاولة فاشلة لتنظيم التاريخ أفقياً في سيرورة ذات معنى، ولإنقاذ حقيبة المفاهيم، كالشعب والدولة والأمة والمثقف والحزب والرأي العام والفرد والكرامة والخبز والحرية، من غرق عالم مضى، وللتمسّك بتقنيات وهويات وخطابات لم تعد أكثر من كلام عاطفي عن تراجيديا البطل المعزول، وللحفاظ على تقدّم الغرب كضمانة لمستقبل محميّ من فشلنا؟ بكلام آخر، ماذا لو لم تكن الثورات ثورات، ليس لأنّها فشلت أو لم تفشل، بل لأنّها، بخروجها من جوامع أو مصانع أو صالونات، باتت مفهوماً لا مكان له في زماننا؟ ربّما استعجلنا نقد مقولة «نهاية الأيديولوجيات»، التي على رغم سوء تفسيرها لهذه الظاهرة، باتت تلتقط جانباً من الواقع، مفاده أنّ اللغة السياسية السائدة لم تعد تتطابق وحاضرها. فماذا لو لم تعد الثورات تنذر بجديد لا حدود له، بل تشير إلى حنين إلى سياسة ولّت؟
الحياة