صفحات الرأي

الثورات والرضّات


حازم صاغيّة

بـ «قاعدة» في مدينة بنغازي أو من دونها، جاءت الأفعال الشنيعة للأيّام القليلة الماضية تقول إنّ مجتمعاتنا مرضوضة أكثر ممّا تستطيع الثورات أن توفّر الإشباع له. وربّما صحّت فينا، ما بين رضّاتنا العميقة والثورات، قصّة ذاك الصبيّ الذي لم يهتمّ أبوه، عاماً بعد عام، بإطعامه أو إكسائه أو تعليمه، إذ كان ذاك الأب لا يفعل إلاّ ضربه وإهانته. وذات مرّة قرّر الصبيّ المقهور أن يتمرّد على السلطة الجائرة للأب، وهو تمرّد لا يمكن، أخلاقيّاً، إلاّ تأييده ودعمه. مع ذلك فالصبيّ، صاحب الحقّ المطلق، مرضوض على نحو عميق. وهو، بفعل المعاملة المديدة التي تلقّاها، لا يمكن إلاّ أن يكون مرضوضاً.

هناك منطق أوّل يقول: دعوا الأوضاع كما هي واتركوا الصبيّ خاضعاً للسلطة الجائرة كي لا نواجه عوارض رضّاته وتداعياتها. هذا المنطق المؤيّد للاستبداد هو، في أحسن أحواله، تأجيل لانفجار لا بدّ من أن يأتي لاحقاً على نحو أسوأ وأشدّ هولاً.

هناك منطق ثانٍ يقول: الصبيّ رائع وعظيم لأنّه يثور. هذا المنطق الشعبويّ يستغني بـ «روعة» الثورة عن وعي وسلوك ليسا دائماً رائعين يصدران عن صبيّ مرضوض.

وأخيراً هناك منطق ثالث مفاده إنّنا ندخل مرحلة امتحان صعب سيكون الهمّ الأساسيّ فيها النجاح في تحرير الصبيّ من الأب والسعي إلى خفض ردود فعله السيّئة. خلف هذا المنطق يقيم عداء مُرّ للأنظمة يفوق الحبّ لـ «الجماهير» بالمعنى الذي استقرّت عليه، كما لا يقع بتاتاً في تمجيدها. بيد أنّ عداءه للأنظمة ينبع أساساً من مدى إساءتها وتخريبها لتلك «الجماهير».

وامتحان كهذا يقرّر في النهاية أيّة ثورات سوف تستقرّ عليها ثوراتنا. وهناك مروحة واسعة تقيم في أحد طرفيها الثورة الفرنسيّة وفي الطرف الآخر الثورة الإيرانيّة: الحرّيّة والإخاء والمساواة وردع رجال الدين عن الشأن العامّ وإزالة التراتُب الهرميّ في حقوق البشر، أم ولاية الفقيه وتمكين رجال الدين من الشأن العامّ وتثبيت الهرميّات وتمكينها في ما بين الأجناس والأديان والطوائف والإثنيّات.

وربّما كمن المدخل الراهن لاختيارنا أيّةَ ثورات نريد، في كيفيّة تصويرنا التناقض الحاكم في منطقتنا: هل هو ذاك الذي يفصل بين الشعوب وبين أنظمة الاستبداد وقواه، أم ذاك الذي يفصل بين الغرب والإسلام. وكلّ نقص في أيّ من التناقضين هو امتلاء في التناقض الآخر، كما أنّ كلّ انكماش وتردّد في إعلان الولاء إلى العالم والاندماج فيه يساعد في رسم الصراع كما لو أنّه بين الغرب والإسلام.

لقد بات واضحاً جدّاً أنّ الاستبداد يستفيد، أكثر ما يستفيد، من ارتسام التناقض الحاكم على أنّه مع الغرب، وهذا ما فعله قبل يومين أمين عامّ «حزب الله» بحماسة ومزايدة بالغتين. والسلوك هذا، أكان صادراً عن نصر الله أو عن سواه، إنّما يريد ضبط الصراع بين الشعوب والاستبداد لمصلحة نزاع متوهّم بين الإسلام والغرب، أي أنّهم يريدون تخليد الرضّة وجعلها مرضاً لا شفاء منه. لكنّ الدعابة المصريّة الرائعة فنّدت ما يستند إليه هذا المنطق حين قالت إنّ الشبّان الذين يحرقون السفارات والقنصليّات الأميركيّة يملأون قسائم الهجرة التي يجدونها هناك قبل أن يُشعلوا تلك المباني.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى