صفحات العالم

الثورةُ السوريةُ.. بطولةُ شعبٍ


عبدالله خليفة

تتناثر النداءاتُ وصرخاتُ الاحتجاج وإستعراضاتُ القوةِ والتهديداتُ للنظام السوري في الهواء، وبقيتْ رأسمالياتُ الدولِ الدكتاتورية العسكرية في روسيا وإيران والصين وغيرها تقوي النظامَ الدموي على الأرض وفوق جثثِ الناس.

ليس هو صراعٌ طائفي، هو صراعٌ اجتماعي بين شعبٍ أُفقر وديس وهوجم بالمدافع وبين نظامٍ وأنظمةٍ آسيوية عاجزة عن مقاربة الليبرالية والديمقراطية والإنسانية.

في تنامي رأسمالية الدولة السورية العسكرية فقدتْ قوميتَها وعروبتَها وبصيصَ العقلانيةِ والليبرالية التي كانت ترتعشُ منطفئةً في عهدِ الأسد الأب.

عدم المقاربة لتلك المبادئ والقيم كانت تعني تفاقم القبضة العسكرية وشيوع الفساد وزوال القومية ووعي العروبة والتداخل مع أنظمةٍ تعيشُ شموليةَ التطرفِ التي لا تقبل سوى هيمنة فئوية تنامت فوق تعصب قومي محافظ لا يقدر على تطوير الدول الواسعة الكبيرة المتعددة القوميات والأعراق والأديان ديمقراطياً، ولم تعد لدى هذه الأنظمة سوى القبضات العسكرية البوليسية.

وصلت بعضُ رأسمالياتِ الدول العسكرية في آسيا إلى مفترق طرق ومثّل النظامُ السوري نموذجَها المنهار تحت ضربات الجماهير الفقيرة الكادحة التي زعم الغربُ والشرقُ مساعدتَها وإنقاذها بوعودٍ خلابة كاذبة.

قطعَ النظامُ خلال عقوده الأخيرة الخيوطَ الواهية مع الليبرالية فلم يجعل القوى السياسية الوطنية تنتجُ أفكاراً ديمقراطية جماهيرية، وبعضها جثم تحت مظلة الفساد، والآخر أُجهزَ عليه وتلاشتْ خلاياهُ وعظامه ولم يبق سوى القليل ذي الإرادة العظيمة.

لهذا فإن مظلةَ الجمهور المذهبية السياسية هي آخر جدار أيديولوجي يمكن أن يجمعَ صفوفَه وتلك المظلة واسعة وتشمل الأغلبية وكان الحراك منها، وكانت المقاومة الأولى قبل سنوات فيها.

هي شعاراتٌ وآراءٌ محافظةٌ لا تمثل غنى تطور الشعب السوري على مدى قرن من النهضة، ولكن انتهازية التيارات (اليسارية) و(القومية) جعلتْ من تلك المذهبية السياسية اليمينية سائدةً.

لم تتم معارضة رأسماليات الدول الشمولية العسكرية في تلك البلدان بعمق ديمقراطي وحشد نهضوي، وانعكس ذلك في سوريا، وتفاقمت الجماعاتُ الطائفيةُ وأرادت أن تشكل (محوراً).

وبدا النزاعُ طائفياً وهو ليس بطائفي وربما يتحول لنظام طائفي إذا لم تُصعد القوى الديمقراطية والعلمانية نشاطَها وحضورها، حيث لابد من دستور وطني يفصل الأديان عن النظام السياسي، ويجعل التنظيمات غيرَ مذهبيةٍ وغير ذلك لا ينتج سوى نسخ أخرى من الشمولية وبنفس المبنى الاجتماعي وإن لبسَ لباساً آخر.

مثلما يتجسد هذا المضمون الاجتماعي في نضال الشعب البطولي الذي يتحركُ بأشكال وطنية منصهرةٍ لا يعترف بالتفريق بين منطقة وأخرى، في حين يقوم النظامُ بمحاولات جنونية لذبحِ فئاتٍ من طوائف مختلفة ليزرع الصراع الطائفي ويحرفه عن الصراع الاجتماعي بين شعبٍ ودكتاتورية.

إذا لم تنصهرْ الفئاتُ السياسية السورية في فكر ديمقراطي وطني علماني فسوف تكرر أخطاء الثورات السابقة وتصعّد تياراً مذهبياً سياسياً واحداً، في حين أن الشعبَ مشغولٌ بسكبِ دمه من أجل الخريطة الجديدة، وعيب أن ينشغل السياسيون منذ الآن بالحصص والكراسي القادمة.

ومن هنا أهمية اللجان الشعبية التي تصيرُ هيكلاً للسلطة الجديدة، وتكون منتخبة، وبالتالي سوف تكونها التضحيات ومعرفة الواقع الحقيقي وشخوص المضحين وتكونُ السلطة الجديدة محاطةً بالناس يحمونها ويصعدون وجودها.

هذا درسٌ كبيرٌ للشعب السوري الذي تُرك وحيداً أمام الجزارين يذبحونه ليل نهار، ليدرك بأن الوطنية هي صمام وجوده الآن وغداً، ولا يستقيمُ هذا مع لافتاتِ سني وشيعي ودرزي ومسيحي، وتنظيماتِ عربي وكردي، بل وطني سوري فقط.

بقاء هذه اللافتات وعدم إلغائها وتبديلها ببطاقةٍ واحدة، بطاقة الوطنية السورية يعني الاختلاف والصراع على الفتات، وعدم تكون تجربة توحيدية وطنية منصهرة وهو توجه لتفكير أناني، مناطقي، ممزق للخريطة الجغرافية الوطنية.

إن بطولة الشعب في الدماء لا تقل عن بطولة الشعب في الأفكار والنظر للقادم، لابد أن تحمي الدماءُ الخريطةَ وتنظفها من جماعات الاحتكار والتعالي، ولابد أن تحمي الأفكارُ الوطنَ من المحاصصة والطائفية.

لا يجب الرد على دكتاتورية طائفة بدكتاتورية طائفة أخرى، ولا استبدال طغيان مذهب بطغيان مذهب آخر، ولا رأسمالية دولة شمولية برأسمالية خاصة فوضوية، ولا قومية متعصبة بقومية متعصبة أخرى.

من واجب المجلس الوطني السوري إصدار وثيقة سياسية تاريخية يفصلُ فيها جسمَ الدولة القادم عن المذاهب والأديان والقوميات، ويحددُ الحكمَ وطرقَه العقلانية القانونية، ويرفضُ فيه لغةَ الثأر والانتقام، وسواء كان ذلك تجاه القوى الداخلية أو الدول والحركات الخارجية التي ساندت النظام، ويعلن عدم تدخله في شئون الدول العربية المجاورة واحترامه لها، بحيث تكون الوثيقة دستوراً مقترحاً كذلك ومحدداً لخطوط تطور النظام القادم، ليكون السياسيون المسئولون المثقفون هم مثالٌ آخر على تضحيات هذا الشعب العظيم.

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى