صفحات العالم

الثورةُ السورية وغيابُ المدينتين الكبيرتين


عبدالله خليفة

يطرح غيابُ المدينتين الكبيرتين دمشق وحلب عن أن تكونا محورين رئيسيين للنضال الشعبي ضد الدكتاتورية العسكرية، أسئلةً كبرى عن طبيعةِ هذا الحراك وآفاقه المستقبلية في ظل هذه المجازرِ المروّعة التي يرتكبها النظام.

حدثني صحفي وكاتب سوري في إمارة الشارقة عبرَ نقاشٍ مطول عن الثورة السورية بأن غياب المدينتين المتحضرتين يعود إلى خوفِ الفئات الوسطى المدنية من اكتساح الدينيين للحياة السياسية الاجتماعية بعد الانتصار المتوقع، وإعادتهم سوريا إلى الوراء بعد عقود الحريات الاقتصادية والاجتماعية وأن الثقل السكاني كبير بالمدينتين وهو يعيشُ في وضع مختلف عما يجري في المدن الصغيرة والمتوسطة والأرياف، ويواصلُ حياتَه العادية من دون انخراط مؤثر في الأحداث ويفعل ذلك ليس لأنه خائف من قوات الدولة بل لتوجسه من الجماعات الدينية المحدودة الوعي والبرامج التي ستهيمن على الحياة السياسية لاحقا.

وهذه الجماعات الدينية ستؤسسُ دكتاتورية أخرى ربما لا تقل سوءا عن دكتاتورية البعث العسكرية، فتكون (البرجوازية) التي استقلتْ بمصالحِها وبمعيشتها ومناخها المدني تجابه قوى معروفة بسقفها الفكري الاجتماعي المحدود وبتدخلها في الاقتصاد والحياة الشخصية للمواطنين واعتمادها العنف حلا لكل المشكلات!

وفي رأيه أن الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني للمعارضة وهو العلماني الديمقراطي ليس سوى واجهة بسيطة لتلك القوى الدينية التي تقودُ العمليةَ السياسية المتصاعدة عنفا.

كلامُ الكاتبِ السوري ذي التجربة في حياة بلده يوضح حقائق مهمة، فإن التنويرَ العربي في القرن التاسع انبثق من سوريا ولبنان، والمطبعة والموسوعات والمسرح والأدب والموسيقى فيهما، وكل هذا تأسس من الريادة السورية الشامية، بحسب التسمية السائدة في ذلك الحين، قبل الانقسام بين البلدين الرائدين.

وكان المسيحيون المثقفون هم الذين لعبوا الدور الطليعي في هذا، وحين حل عليهم الاضطهادُ العثماني فرَ بعضُهم إلى مصر وأسس الصحافةَ وحرك دوائر الثقافة فيها فبدأت النهضة تصبحُ عربية.

ومن الملاحظ أن الأقليات المسيحية والعلوية والاثناعشرية والنهضوية التقدمية والبعثية الديمقراطية هي كلها تتوجس من الحراك خارج المدينتين والمتسم بصبغة سنيّة محافظة، وتخشى مما سوف يسودُ بعد تغيير النظام، وخاصة مع تجاهل هذه القوى مسألةَ فصل الدين عن الدولة وعن السياسة وهو المكسب المهم الذي تكرس بشكلٍ عام خلال التاريخ النهضوي الأسبق والطويل ولم يكن كليا وحاسما في زمنية البعث بطبيعة الحال.

وعدم الفصل هذا يطرح عمليات التجييش السياسية المرتجلة السريعة للعاملين والبسطاء والفلاحين في الأرياف ودفعهم إلى تأييدِ الحراك واستخدامه السياسي المذهبي للصراع مع الحكم وربما مع الحداثة والديمقراطية كذلك.

أي أن النضال من أجل الديمقراطية يجري بشكل دكتاتوري، والحراك السلمي تحول شيئا فشيئا، نظرا إلى بشاعة العنف العسكري من قبل الجيش السوري، إلى حراك عنيف وإلى قيام مؤسسات عسكرية مضادة غير محددة الهوية.

إن الطبقةَ المدنيةَ البرجوازية التي عاشت في حمى النظام الشمولي وتداخلت معه، وكونتْ علمانية مصلحية بلا بُعد فكري ثقافي عميق، نظرا لتآكل الطبقة الحاكمة بجناحيها البعثي المسيطر سياسيا وجناحها الاقتصادي المسيطر تجاريا وماليا واللذين غرقا في النفعية والانتهازية والعامية السوقية، مثل هذه القوى لا يمكن أن تغامرَ بتأييد حراك فلاحين وفقراء وحرفيين يقودوهم رجالُ دينٍ ومثقفين مذهبيين، لم تُكرس ديمقراطيتهم وتحديثيتهم في النضال الطويل ولم يتحولوا إلى رموز لهذا، ولم يعبروا عن وعي إسلامي تحديثي ديمقراطي عميق، وحين يغدو برهان غليون رمزا سياسيا، فهو رمز معلق في الفضاء السوري المجرد، وليس لديه تنظيم جماهيري، بل ليس لديه تنظيم إطلاقا، ولكنه متنور مثقف فردي، ولهذا لن تكون صورته محل التفاف شعبي هائل يمنع ذلك التسطح المذهبي الشعبي الشمولي القادم.

غيابُ الرمزية النضالية التوحيدية، غير المذهبية الجماهيرية التي يلتف عليها الشعب كله، هو سبب التردد والنقص في الثورة السورية وانتقالها إلى عقر دار السلطة وخلق مليونيات كما حدث في مصر.

لكن لا يمكن هنا المقارنة بين قمع نظام حسني مبارك ونظام الرئيس السوري، وخاصة قبضة الأخير الشديدة على العاصمتين، كذلك فإن حراك المدينتين قد بدأ يتصاعد في الأرياف والأحياء الجانبية المختلفة المحيطة بهما رغم كل هذا البطش غير المسبوق.

فلابد هنا، وبشكل سريع، من تطور القيادتين السوريتين المناضلتين، أي جماعة المجلس الوطني، وجماعة لجان التنسيق، عبر توحدهما وطرح الفصل الواضح بين التنظيمات الدينية والسياسة، عبر مقاربة كلتا الجماعتين لعلمانية الحياة السورية ذات التاريخ الطويل، وتطمين مخاوف الطبقة الوسطى المدنية، برفض الانتقام والتدخل في الاقتصاد وفي الحياة الشخصية وبعدم تغيير الطابع الحر للمجتمع المدني، وتحديد السلطة القادمة ومشروع دستورها وخاصة برنامجها السياسي العملي القريب التطبيق والواضح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى