الثورة التونسية: نتائج وتحديات في الأفق/ أكرم البني
ثلاثة تحديات لا تزال تعترض الثورة التونسية بعد فوز العلمانيين في الانتخابات الأخيرة، كي يصح القول إن تونس البوعزيزي التي ألهمت الشعوب العربية التمرد ضد الطغيان والاستبداد والفساد، تلهمهم أيضاً المسار الأقل آلاماً لتحقيق شعارات الربيع العربي في الحرية والكرامة وبناء المجتمع الديموقراطي ودولة المواطنة المدنية.
التحدي الأول، هو الحفاظ على النهج السلمي للثورة، إن لجهة استمرار حياد الأجهزة الأمنية والعسكرية وثباتها على مهمتها الأساس في ضمان الاستقرار واحترام المسافة بينها وبين الدولة، وبينهما وبين السلطة بصفتها المسؤولة عن قيادة البلاد بين محطتين انتخابيتين، وإن لجهة تعزيز التوافق بين القوى السياسية والمدنية والالتزام بآليات العمل الديموقراطي وطرق الحوار في إدارة خلافاتها.
ثمة عوامل عدة ساعدت التونسيين في تمكين ثورتهم سلمياً، منها خصوصية تكوين جيشهم بعيداً من الدور السياسي الذي لعبته الجيوش المعبأة ايديولوجياً، ومنها يقظة المجتمع المدني المدعوم بحضور فاعل للمرأة التونسية في الدفاع عن مكانتها وحقوقها، وبالخوف من استجرار النتائج المأسوية التي خلفها العنف في الثورات العربية الأخرى، ومنها التجانس الطائفي الذي أهلّ المجتمع التونسي للانتماء إلى صف المجتمعات المعتدلة التي لا تميل الى دفع الأمور نحو حدها الأقصى، الأمر الذي ينعكس على بنية النخب السياسية والثقافية وطابع مواقفها، ويفسر مرونة حركة النهضة، التي من دون إرادتها التوافقية ما كانت تونس لتصل الى ما وصلت اليه. فقد تعاملت مع مجريات الصراع بموضوعية لافتة وآثرت تقديم التنازلات على حساب خياراتها الايديولوجية والسياسية الخاصة، ورضخت تالياً لإرادة المجتمع حين قبلت بدستور مدني تحصنه المبادئ العليا لحقوق الانسان ودولة تقوم على المواطنة وضمان الحريات وسيادة القانون وتداول السلطة، وحين آثرت عدم اللجوء إلى ما تملكه من قوة ونفوذ للاستئثار بالسلطة بخلاف ما عودتنا عليه الأحزاب العربية التي تستحوذ على الحكم وترفض التنازل والاستجابة لمطالب الناس حتى لو كان الثمن تدمير الوطن ومستقبل أجياله، ليصح الاستنتاج أن حركة النهضة تبدو اليوم كنموذج يحتذى لتيار من الاسلام السياسي يجسد المصالحة الجريئة بين الدين والديموقراطية والعلمانية، ولا تضعف صحة هذا الاستنتاج الإشارة إلى خصوصية تكوين حركة النهضة وبأنها تضم قيادات عاشت في الغرب وتأثرت بحضارته ودأبت على تربية النفس على احترام إرادة الشعب والخيار الديموقراطي، أو تفسير مرونة استجابتها بسرعة تمثلها لتجربة إخوان مصر وخشيتها من تكرار مصيرهم.
ثاني التحديات يتعلق بتركيز الجهود على نجاح خطط التنمية الاقتصادية والبرامج القادرة على معالجة أزمات المجتمع وانتشال الشباب من حالة البطالة والفقر، وما عزوف الشباب التونسي عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة كما دلت الإحصاءات ثم التحاق أعداد لافتة منهم بقوى الارهاب في سورية والعراق، إلا مؤشران مهمان على تنامي حالة اليأس والإحباط في صفوفهم، وعلى انحسار ثقتهم بثورتهم طالما لم تحقق تطلعاتهم ببناء مجتمع يضمن لهم حقوقهم وعيشهم الكريم.
ولكن نجاح خطط التنمية الاقتصادية في مجتمع عانى طويلاً من الفساد وسوء توزيع الثروة يتطلب سلطة توافقية واسعة التمثيل، وتالياً تعاوناً وتشاركاً بين التيارين السياسيين الرئيسين العلماني والإسلامي، وعيانياً بين حركتي نداء تونس والنهضة بما يساعد هذه السلطة على نيل ثقة الجمهور عموماً والشباب خصوصاً، ويمكنها ليس فقط من ضمان الأمن والاستقرار ومواجهة ما يعترض البلاد من مخاطر، وإنما أيضاً من تمرير اصلاحات ضرورية ومؤلمة لإعادة الحياة إلى الاقتصاد وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال.
الخبز والحرية صنوان لا ينفصلان ولا يمكن ضمان تقدم العملية السياسية الديمقراطية من دون التقدم في معالجة أزمات المجتمع التونسي الاقتصادية، إن لجهة حفز العمل والإنتاج وإن لجهة الاهتمام الجدي بشروط حياة الناس الذين تحملوا وطأة المصاعب الاقتصادية منذ اندلاع الثورة، هذه الحقيقة أكدتها البلدان المتطورة التي لم تحقق نجاحاتها في إرساء دعائم التنوير والديموقراطية إلا عندما اقترنت ببرامج تنموية تلبي حاجات المجتمع ومستلزمات العيش الكريم للمواطنين.
أما التحدي الثالث، فهو الحذر والتحسب الشديدان من أهداف مضمرة لدول اقليمية وعالمية تسعى بالأسنان والأظافر إلى إجهاض هذه التجربة الفريدة، إن عبر إفشال مساراتها التنموية وإن عبر تشويهها وبث الفرقة في صفوفها وإن عبر تنشيط العنف والجماعات الارهابية للنيل من أمنها واستقرارها.
وإذ تميزت التجربة التونسية بضعف تأثير الخارج، العالمي والعربي، في مجريات ثورتها، ربما بسبب انشغاله بأوضاع الثورات الأخرى الأكثر خطراً على مصالحه مقارنة بوضع لا يحظى بأهمية إستراتيجية وحيوية في حسابات الهيمنة على المنطقة، فإنها ستواجه بعد نجاحها في عبور المرحلة الانتقالية، ذئاباً ضارية كثيرة، بعضهم يتحسب من تحول الديمقراطية التونسية إلى مثال يحتذى يعيد الروح والأمل بالربيع العربي، وبعضهم لأن ما يهمه من تدمير هذه التجربة هو الطعن بالطريق السلمي الذي اختارته كي يسوغ ما استخدمه من وسائل فتك وتنكيل ضد ابناء شعبه، وبعضهم لأنه يستند في استمرار استبداده وفساده الى مقولات مغرضة عن حرية تجلب العنف والفوضى، وعن شعوب عربية متخلفة لم ترتق بعد إلى مصاف القيم الديموقراطية.
والحال، ثمة عشرات النماذج في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا توصلت بعد دورات من المعاناة والآلام إلى أن الديموقراطية هي طريق خلاصها الوحيد من أزماتها والسلاح الناجع لتجاوز ضعفها وتخلفها، لكن أمورها لم تنتظم في المسار الديمقراطي الصحيح إلا بعد مكابدة قاسية من صعوبات المرحلة الانتقالية وهزاتها، ويبدو أن مجتمعاتنا العربية ليست خارج التاريخ، بدليل قوة انطلاق ربيعها على رغم هذا التكالب غير المسبوق لوأده، وبدليل هذا الاحتفاء بما أحرزته الثورة التونسية حيث يسود الالتزام بمبادئ الديموقراطية وبمنطق الاعتدال والعقلانية، وحيث يخضع الحكم لإرادة الناس بصفته المسؤول عن تنمية المجتمع وضمان حقوق أبنائه وحاجاتهم.
* كاتب سوري
الحياة