الثورة الثانية ضد مشروع الدولة الدينية، الشعب والجيش في خندق واحد
جورج كتن
ما حدث في مصر يومي الاحد والاثنين ثورة غير مسبوقة في المنطقة العربية، فالملايين خرجت إلى جميع ميادين وشوارع مدن وبلدات الجمهورية خلف شعار واحد “لا نريد مرسي”. هي نوع من “جمعية عمومية” للشعب ينخسف امامها كل من يدعي شرعية مرسي الذي لم ينجح إلا بفارق 1% من الأصوات قبل سنة، حصل بمرورها الكثير الذي اقنع غالبية الشعب أن حكم الإخوان المتستر بالدين لا يليق بمصر وبالشعب المصري ولا بمصلحته في حكم ديمقراطي مدني تعددي علماني.
الرئيس الإخواني حاول منذ البداية تطويع القضاء المصري، المعروف باستقلاليته حتى في عهد مبارك للسلطة التنفيذية كما صدّر دستوراً لا يحظى بإجماع القوى السياسية يمثل وجهة نظر شريحة محددة من المجتمع يمثلها الإخوان والسلفيين، وأطلق العنان لفئات متشددة تحاول تطبيق مفاهيمها الضيقة للأخلاق من العصور الوسطى، وأهمل الاقتصاد والعمل لتحسين الأوضاع المعيشية للشعب متلهياً بتمكين حزبه من الهيمنة الكاملة على البلاد وبدء عملية “أسلمة” للمجتمع مما لا يتلاءم مع العصر.
لم يكن أحد يتوقع أن تحدث هذه الثورة الجديدة على الحكم الديني بمثل هذه السرعة ولكن مقاومة نظام الإخوان بدأت منذ اليوم الأول، ليثبت الشعب المصري ريادته لثورات الربيع العربي وينتقل مباشرة لصف القوى السياسية المصرية الحداثية التي تعمل لمصر مدنية، بالتفافه حول حركة “تمرده” التي اكتسبت شرعية ثورية وأصبحت ممثلاً حقيقياً للشعب إلى أن تقام انتخابات رئاسية وتشريعية ودستور جديد يعبر عن الأغلبية الجديدة التي تشكلت بعد أن اكتشفت قطاعات واسعة من تجربتها الخاصة في العام المنصرم، خطأها في التصويت لمرسي. الشعب لن يعود لاستئناف حياته العادية إلا بعد تحقيق مطالبه التي لن يتراجع عنها.
مرة ثانيةً يثبت الجيش المصري وطنيته، فقد وقف إلى جانب الشعب في ثورته الأولى ضد مبارك وبذلك لعب دوراً مهما في نجاحها. موقف الجيش الحالي وتهديده للرئيس لقبول مطالب الشعب ليس مقدمة لعودة الحكم العسكري كما ادعى مؤيدو مرسي، بل رضوخ لإرادة الشعب الذي قال كلمته واضحة لا لبس فيها. الحكم العسكري مضى زمانه في مصر ولن يتكرر، وكما سلم المجلس العسكري السلطة بملء إرادته لرئيس مدني منتخب، فهو سيسلمها لرئيس آخر منتخب تتوافق على انتخابه غالبية الشعب. كبار ضباط القيادة العسكرية رضوا بالدور المقرر لهم حسب النهج الديمقراطي في الدفاع عن الوطن وتوفير أفضل حماية للشعب الذي أوجدوا من أجل خدمته، ولن يعودوا للتنطح لدور سياسي ما أصبح مستحيلاً بعد التطورات في مصر والمنطقة والعالم.
موقف آخر مشرف لجيش وطني لا كما جيش العصابة الحاكمة في سوريا الذي اثبت انه جيش الطاغية ولا علاقة له بشعبه لذلك يقوم بقتله وتدمير مدنه وقراه بشكل يومي. شتان بين الثريا والثرى. ويظن إعلام النظام السوري الغبي أنه بتهليله لثورة الشعب المصري لأنها ضد الإخوان، يعطي “مصداقية!” مفقودة لنظامه الذي يدعي أنه يواجه الإسلام السياسي المتطرف، متجاهلاً عمداً أن الحالتين متناقضتين كلياً، ففي حالته الرئيس الطاغية يعمل لاستمراره في الحكم ضد شعب ثائر وهو نفس موقع مرسي مع حفظ الفوارق بين الإثنين لصالح مرسي بالطبع، وجيشه بعكس الجيش المصري وقف مع الطاغية ويقوم بمقتلة للشعب الثائر دفاعا عن الكرسي وليس دفاعاً عن الشعب كما في مصر.
يعطي الشعب المصري درساً لكل الشعوب في البلدان المجاورة أن أي حكم يتستر بالدين ويريد فرض “شريعته” التي يفسرها كما يشاء، مصيرها الفشل. إسلاميو تركيا فهموا الدرس منذ سنوات وحكموا في ظل العلمانية وتخلوا عن تطبيق نصوص قديمة متعارضة مع الحداثة الإنسانية ومع مصالح الشعب. والشعب الإيراني وعى الدرس من خلال معاناته مع حكم الولي الفقيه المشابه لحكم “المرشد” الإخواني المصري، وما زال يناضل لاستعادة حريته التي ثار من أجلها ضد الشاه ومستعد لتكرارها ضد حكم الملالي الذي سرق الثورة وحلم الحرية واقام حكما استبداديا محمي “بالدين”. الثورة الخضراء منذ أربع سنوات ستليها ثورات إلى أن يتخلص الشعب الإيراني من النظام الديني القمعي الراهن.
نأمل ان تحقق الثورة المصرية الجديدة أهدافها بعيداً عن العنف وبالطريق السلمي الذي اختطه الشعب المصري لثوراته. ولا ننصح الإخوان بمعاندة الشعب أو باستخدام العنف الذي سيعود عليهم وبالاً، كما حدث عندما قاموا بحركة اغتيالات وتفجيرات إرهابية في الخمسينات من القرن الماضي في مصر وأوائل الثمانينات في سوريا، فالرضوخ هو لإرادة الشعب، مصدر السلطات جميعها وليس اية أيديولوجية مفروضة يظنون انهم يخدمونها فيما هم يسيئون لها. قبولهم لمطالب الشعب بتنحي رئيسهم، ضمانة لاستمرارهم كطرف في العملية السياسية الديمقراطية التالية التي حدد الشعب المصري خارطة طريقها.