الثورة السورية إلى أين؟
جمال ابو زيد
يكتنف الغموض والارتباك موقف المجتمع الدولي تجاه الثورة السورية، فعلى الرغم من المبادرات الدولية والعربية المتكررة والتي واكبت الثورة الشعبية بادئ ذي بدء وما تمخض عنها من إجراءات جماعية في محاولة لوقف المجازر التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه كتعليق عضويته في الجامعة العربية، وسحب بعض البعثات الدبلوماسية من دمشق وغيرها من العقوبات الاقتصادية، وكذلك اللجوء إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار لحماية المدنيين في سوريا إلا أننا نرى أن الأصوات قد خفتت والمطالب قد سكتت، خصوصا بعد إخفاق مجلس الأمن في تبني أيّ قرار من شأنه معاقبة النظام السوري على جرائمه والسماح بالتدخل لوقف نزيف الدم الذي يسيل على ربوع سوريا الحبيبة نتيجة الموقف الروسي والصيني المتعنت. في هذه الأثناء تحول العالم إلى مدرجات المتفرجين وأخذ يطلق صرخات التنديد والاستنكار، واكتفى بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية هزيلة لم تزد النظام إلا شراسة وتصميما على القتل والتدمير، إذ لم تؤثر تلك العقوبات على أداء آلته العسكرية التي تتدفق عليه من روسيا وإيران والدول المجاورة.
لا ريب من أن النظام السوري سقط أخلاقيا ودوليا وتنظيميا، ولم يعد في مقدوره بحال من الأحوال تسيير دفة الحكم في سوريا، ولم يبق في جعبته الكثير، وأنه آيل للسقوط لا محالة، بعدما قال الشعب السوري كلمته بلا مواربة ‘الموت ولا المذلة’ وحرقَ مراكبه، وقطع خط الرجعة، ولم يعد يرضى بأقل من إزاحة النظام المستبد الذي جثم على صدره أكثر من أربعة عقود.لقد أسقطت هذه الثورة المباركة ورقة التوت عن المجتمع الدولي وفضحت سياسة ازدواجية المعايير لديه، وأخرست المتشدقين، وتجار الكلام، فبالأمس القريب وقفت الدول الكبرى صفا واحدا لإنقاذ الشعب الليبي من القتل، غير أننا نراه اليوم يتلكأ في تحمل مسؤولياته الأخلاقية تجاه شعب يذبح ويقتل بأبشع الطرق، حتى غدت أفلام الرعب مقارنة بما نشاهده على الشاشات من جز للرؤوس وتقطيع للأطراف، وتناثر للأشلاء في مدن وقرى سوريا الحبيبة أفلاما رومانسية.
لقد اختبأ العالم بأسره وراء الفيتو الروسي والصيني وتنفس الصعداء عندما تفتق ذهنه على خطة عنان التي يعلمون مسبقا أنها غير قابلة للتطبيق ولكنها فرصة تضاف للفرص التي تقدم للنظام لينتهي من إخماد الثورة. ومن العجيب أن يساوي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بين الجلاد والضحية باتهامه جماعات إرهابية متمرسة بالقيام بتفجيرات داخل سوريا ودعوته إلى عدم تقديم السلاح للطرفين، في الوقت الذي تتدفق فيه الأسلحة على كتائب الأسد وسط صمت منظمته. ثم يبعث بمراقبيه ويمنحهم مهلة ثلاثة شهور، بقيادة كوفي عنان ليكونوا شهودا على المجازر الشنيعة التي يرتكبها النظام ضد شعبه، وتأتي مذبحة الحولة التي راح ضحيتها أكثر من مائة شخص معظمهم من النساء والأطفال لتزيد من الشبهات حول دور المراقبين، وإذ أضفنا إليها المذابح التي ارتكبت على بعد خطوات منهم والتي صار من العسير تتبعها وحصرها وكذلك تصريح أمين حلف النيتو بعدم نية الحلف التدخل في سوريا يرتفع لدينا منسوب الدهشة من اتساع رقعة المؤامرة على هذا الشعب الأعزل. لقد هزت هذه الثورة أركان النظام الطائفي في سوريا وأسقطت عنه الشرعية، وأظهرت زيفه، وكشفت مؤامراته ضد بلاده، إذ كلنا يعلم أن حافظ الأسد وصل إلى دفة الحكم عن طريق انقلاب مشبوه، وما أن استولى على السلطة في عام 1970 حتى رفع شعار المقاومة والممانعة لذر الرماد في العيون. بقي الأسد في السلطة لثلاثة عقود نشر فيها الرعب بين أفراد شعبه ونصّب لهم المشانق، وقتل وشرد، وملأ السجون بالأبرياء، ورغم هلاكه إلا أن نظام حكمه استمر على حاله. سار نجله بشار على درب أبيه بعدما ورث سوريا أرضا وشعبا، وبذلك فتح الأسد الباب أمام الأنظمة الجمهورية الأخرى التي قامت ضد الأنظمة الملكية وضد التوريث، لتوريث أبنائهم، ولولا أن رحمة الله أدركتنا لحكمنا أطفال الزعماء الثوريين والعجيب في الأمر ترحيب قادة العالم الديمقراطي وزعمائه بتولي بشار السلطة وجاؤوا يركضون من أرجاء المعمورة إلى دمشق لحضور الانتقال السلس للسلطة في الجمهوملكية الجديدة ضاربين عرض الحائط بجميع المبادئ والشعارات الديمقراطية وبين طيات السحب الكثيفة والغيوم التي كانت تخيم على العالم العربي ظلت العلاقات السورية- الإسرائيلية طي الكتمان، وظلت القيادة السورية متجاهلة الاحتلال الاسرائيلي رغم الاستفزازات المتكررة منها والتي وصلت إلى حد أن قامت طائراتها الحربية بقصف المفاعل النووي السوري عام 2007، كما أن تلك الطائرات ما فتئت تخترق المجال الجوي السوري متى يحلو لها. في غضون ذلك كانت (القيادة الحكيمة) في سوريا في المقابل تحافظ على ضبط النفس، وفي كل مرة كانت تلوذ بالتنديد والاستنكار، وتلجأ إلى التهديد بالاحتفاظ بحق الرد.
عاش الشعب السوري حياة القهر والفقر تحت الحكم الطائفي بقيادة أسرة الأسد لأكثر من أربعة عقود ونيف، بيد أنه حين بلغ السيل الزبى، ووصل الطغيان مداه في سوريا عيل صبر الشعب السوري فخرج للشوارع ينادي بالحرية ويطالب بالكرامة. بيد أن الأسد لم يتعود سماع صوت شعبه يطالبه بالحرية، لذا سارع بإطلاق يد أجهزته الأمنية وقواته القمعية لقمع الاحتجاجات. كان السوريون يدركون ما ينتظرهم من تنكيل على يد نظام مستبد، ومع ذلك كله اختاروا طريق الحرية والكرامة ولم يحسبوا لطغيانه وجبروته حسابا أسوة بإخوانهم في الأقطار العربية الأخرى الذين ثاروا على حكوماتهم المستبدة وأفلحوا في إسقاط أنظمة حكم فاسدة جثمت على صدورهم حينا من الدهر أذاقتهم الويلات. رفع السوريون في بداية المطاف شعارا متواضعا: ‘بدنا حرية’، بيد أن ذلك لم يرق للأسد فكشر عن أنيابه، وما لبث أن بعث إليهم عصاباته المسلحة وشبيحته لردعهم، وتحول جيش المقاومة والممانعة الذي أنفق عليه الشعب السوري من قوته إلى أداة قمع ووسيلة قهر له. لم يكن ذلك غريبا على جيش الأسد، الذي يعد جل ضباطه من ‘الطائفة العلوية الكريمة’ وهذا الجيش نفسه استخدمه والده لإبادة مدينة حماة وإزهاق عشرات الآلاف من أرواح أبنائها عام 1982. وها نرى الابن يقتفي أثر الأب، ويدمر حماة مرة أخرى؛ فالابن سر أبيه.. وكيف يصفو النجل والأب غادر وعلى إيقاع أصوات القذائف، وهدير المدافع، وأزيز الطائرات، وصفير الرصاص، رفع الشعب سقف مطالبه، وارتفع صوته عاليا، وصارت أهازيج الثورة تتردد صداها في إرجاء المعمورة عبر الأثير، وأخذت الثورة تنتشر بين ربوع سوريا الحبيبة وبين قراها ومدنها وسهولها ورُباها انتشار النار في الهشيم، وأضحى شعارها ‘ياللا ارحل يا بشار’. لقد غرّ هذا الأسد علاقاته المتميزة مع جارته والقوى الكبرى في المنطقة، فلسوريا أهميتها الخاصة بسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وعمقها التاريخي لارتباطها الوثيق بفلسطين ووحدة مصيرها، فأرض الشام أرض واحدة رغم التقسيم، وتعد سوريا الجزء الأكبر منها، كما أنها تعد أرض الملاحم وبؤرة الصراعات الدولية منذ الأزل، وتحظى باهتمام بالغ لأتباع الديانات السماوية، وهي تعني الكثير للمسلمين. غير أنه لم يدر بخلد النظام الطائفي أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن الشعب السوري اتخذ قراره بعدما استنشق عبير الحرية التي هبت نسائمها على الوطن العربي، فاقتلعت زعماء ونزعت ملكهم وبدلت حكومات، وأعادت للأمة كرامتها وعزتها. لم يفتّ في عضد الثورة السورية تكالب الأعداء عليها، ولم يؤثر في سيرها خذلان الأمة لها، فقد أخذ ثوار سوريا الأبطال على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن كرامة الأمة والذود عن كيانها رغم كثرة الأعداء وقلة الحيلة وشح العدد والعتاد، فقد أوقفت هذه الثورة المباركة المدّ الفارسي، وأفشلت المشروع الفارسي على أرض الرباط. لقد دخلت الثورة السورية مرحلة عض الأصابع، إذ لم يتبق للنظام السوري على ما يبدو شيئا يخسره بعدما خسر الشعب بأسره، وصارت الأرض تزوي تحت أقدامه، إلا أن نزعة الانتقام من هذا الشعب الأبي هي المهيمنة على النظام الساقط، الذي سقط في يوم كتب بطل درعا الصغير على جدار مدرسته ‘الشعب يريد إسقاط النظام’ إذ لم يعد له هدفا إلا القتل والتخريب والإفساد في الأرض. وفي هذا الخضم، وفي هذا الجو المكفهر لم يعبأ الشعب السوري باتفاق اوباما وبوتين وأدار ظهره للعالم بعدما عرف طريقه وعزم على تقرير مصيره بنفسه، ورفع أكف الضراعة إلى السماء وأخذ يردد: ‘ما لنا غيرك يا الله’.
‘ كاتب ليبي مقيم في بريطانيا