الثورة السورية بعد عامين : بين استحالة الحل العسكري وصعوبة الحل السياسي
عبد الحميد صيام
كنا نعتقد أن النظام السوري لن يشهد الذكرى الثانية لانطلاق ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت شراراتها في مدينة درعا في الخامس عشر من شهر آذار (مارس) 2011. كان الجميع يعتقد أن زخم الثورة السورية السلمية سيتصاعد من مدينة لأخرى ومن بلد إلى بلد ومن ريف إلى ريف إلى أن يصل الشهباء ثم الفيحاء. وعندما تخرج هاتان المدينتان بملايينهما تطالبان بنهاية الدكتاتوية البغيضة وتصران على تحقيق أهداف الثورة بالطرق السلمية لن يجد النظام الأكثر قهرا ودموية في العصر الحديث إلا أن ينصاع لمطالب الملايين الهادرة قرب قصره طوعا أو كرها، وستدخل سوريا عصر الحرية والتعددية والديمقراطية والمواطنة المتساوية ونهاية عصر الأجهزة الأمنية والفساد غير المسبوق وحكم القائد الواحد والحزب الواحد وتبييض السجون إلا من اللصوص والجنائيين. كل التوقعات كانت غير دقيقة والبحث الآن بعد سنتين عن أسباب بقاء النظام في سدة الحكم ليس صعبا بعد سقوط نحو 80 ألف ضحية وتهجير نحو مليون سوري وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين وتدمير الأسواق والمعالم التاريخية والمساجد والدوائر الحكومية والمعابر والمعسكرات والمطارات العسكرية وغيرها. سوريا التاريخ والحضارة والشعب العظيم تستحق وقفة متأنية لمعرفة ما إذا كان هناك مخرج من مأساة تدمي القلوب وتوجع الناس جميعا حتى بتنا نخاف ألا يبقى شيء إسمه سوريا إذا ما بقي الطرفان مصرين على الحسم العسكري.
عسكرة الثورة
لقد استخدم النظام أوراقه بذكاء وخبث. فمن جهة إستخدم كل أنواع العنف والقتل والتعذيب ليس لمن يشارك في المظاهرات بل لكل أفراد عائلة المشارك وأقاربه وجيرانه وأملاكه، واستطاع أن يجر الثورة الجماهيرية السلمية إلى مربع العسكرة الذي يريده ويتمناه ويخطط له وينصب الفخ وراء الآخر لإيقاع الثورة فيه. من جهة أخرى متن النظام علاقاته مع إيران وروسيا أولا وحزب الله ونظام المالكي في العراق ثانيا لضمان وجود رئة يتنفس منها وحائط إستراتيجي يستند إليه وقوة حقيقية تمده بالسلاح والمال والعتاد والمستشارين والخبراء وإذا ما اقتضت الضرورة بالرجال أيضا. لقد عمل النظام جاهدا من تغيير وجه الثورة الجميل الذي كان يمثله غياث مطر وحمزة الخطيب وإبراهيم القاشوش وعلي فرزات والآلاف مثلهم إلى صورة أخرى مغايرة يمثلها رجال مسلحون متطرفون يمارسون القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة في الميادين العامة وكأن الذي يجري في سوريا حرب بين طرفين مسلحين لا دخل للجماهير البسيطة المسالمة فيها. أثناء هذا التحول من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة دخل على خط الثورة فرقاء خارجيون ليسوا معنيين بسوريا ولا بشعبها ولا بحريتها ولا بمستقبلها ولا بدورها التاريخي ولا بقدراتها وعملوا على تخريب سوريا الوطن والدولة والبنى التحتية والإمكانات العسكرية والاقتصادية والعمرانية لتتحول إلى عراق ثان غير قادرة على الوقوف على رجليها بمفردها. تحاول الوقوف فتفشل ويعييها الوهن فتبسط يدها طلبا للمساعدة كي ترتكز على قوة أخرى أثناء محاولة الوقوف، فتصبح رهينة لتلك اليد الممدودة للمساعدة في الظاهر، والاحتواء والتبعية في الباطن.
المشهد السوري الحالي والحسم العسكري
لقد إعتمد النظام أسلوب الحسم العسكري متيقنا أن جيشه ومخابراته وشبيحته قادرون على سحق من سماهم بالإرهابيين ظنا منه أن هؤلاء مجموعة صغيرة يمكن بالتخويف والعنف المفرط إنهاءها. لقد ارتد السحر على الساحر حيث بدأت وحدات من الجيش تنتقل بأسلحتها إلى الجانب الآخر من جهة ومن جهة أخرى بدأت القرى والضيع والأرياف والمدن تنظم دفاعات محلية لحماية السكان من بطش الشبيحة وأجهزة الأمن. لقد وصل عدد المنضوين تحت مسميات الجيش الحر وتنسيقيات الثورة والكتائب المحلية إلى ما يزيد عن مائة وخمسين ألفا. بدأ النظام بعد ذلك يستخدم الأسلحة الثقيلة وخاصة القوات الجوية والصواريخ الأرضية والبراميل المتفجرة وصولا إلى صواريخ سكود. كل محاولات النظام لسحق الثورة بالقوة المسلحة باءت بالفشل، ولم يعد أمامه إلا أن يسلم بأن الحل السياسي قد يكون الملاذ الأخير لنظام فقد السيطرة على الكثير من الأرض والسلطة والاحترام.
أما بالنسبة للمعارضة فقد وقعت في عدد من المطبات التي أضعفت مواقفها بل وأساءت إليها. إن تشتت مواقف المعارضة وانقسامها بين الداخل والخارج وانتشار المجموعات المسلحة التي تزيد عن الثلاثين مجموعة قد أثار مخاوف الكثيرين من داعمي الثورة السورية. لقد توهمت بعض أطراف المعارضة السورية أن سقوط النظام بات وشيكا وأن الوقت قد حان لتوزيع الحقائب والمواقع والمناصب. من جهة أخرى إعتقدت المعارضة أن الدول الغربية قد حسمت موقفها من مسألة إسقاط نظام بشار وأن السلاح النوعي في طريقه إليهم والأمر لا يتعدى مسألة وقت. كما أوهمت دول الخليج كذلك المعارضة السورية أن سقوط بشار أمر مفروغ منه. لقد تبنت هذه الدول فكرة تمويل وإرسال المتطوعين من الخارج الذين بدأوا يتدفقون على سوريا من الحدود التركية والأردنية واللبنانية. بعض هذه المجموعات تنتمي إلى التيارات المتطرفة القريبة من فكر القاعدة مما أرسل إشارة تحذير للولايات المتحدة وحلفائها فتراجعوا عن مواقفهم السابقة وبدأوا يتحفظون في موضوع إرسال السلاح النوعي كي لا يقع في أيدي هؤلاء المتطرفين وخاصة جبهة النصرة. لقد تم توثيق ارتكاب هذه المجموعات لبعض الجرائم الفظيعة والتي ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وخاصة الإعدامات الميدانية. إن انتشار هذه العناصر المتطرفة أساء لمجموع الثورة السورية ودفع بالكثير من المترددين أن يعيدوا النظر في مواقفهم قائلين: إذا كان هؤلاء سيكونون بديلا لنظام بشار فلا نريد هذا البديل.
أما بالنسبة للجامعة العربية فقد إختفت وبشكل مريع عن المشهد السوري وتركت الأمور في أيدي الدول الغربية يقررون أجندة العمل السياسي بعيدا عن أي تأثير للموقف العربي. وقد كان اجتماع روما الأخير ومقاطعة بعض الفصائل السورية له بمثابة تتويج لاعتماد الحل السياسي واستبعاد الحل العسكري. في ظل هذه المعطيات لم يبق أمام المعارضة إلا أن تعترف بعدم إمكانية إسقاط النظام بالعمل العسكري وحده والقبول بفكرة الحل السياسي.
فرصة الحل السياسي
لقد أثبتت روسيا في الأزمة السورية أن كثيرا من أوراق اللعبة في أيديها وأنها لن تسمح لهذا النظام بالانهيار لأنه يشكل هزيمة لها من آخر مواقع نفوذها في العالم الخارجي. وقد بدأت الولايات المتحدة تسلم شيئا فشيئا بمركزية الدور الروسي في الأزمة. وهناك العديد من المؤشرات التي أطلقت أخيرا حول تقارب الطرفين الأمريكي والروسي من حل للأزمة على الطريقة البوسنية.
النظام أعلن عن استعداده للحديث مع المعارضة المسلحة والمعارضة أيضا أعلنت قبولها بفكرة المفاوضات المباشرة، والولايات المتحدة بدأت تقترب من وجهة النظر الروسية بعدم الإصرار على سقوط بشار سلفا خاصة وأن أمريكا تحتاج روسيا في موضوع إيران ورفع سقف العقوبات في حالة إصرار إيران على عدم التعاون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية . من جهتها جددت الأمم المتحدة ولاية الأخضر الإبراهيمي لمدة ستة شهور أخرى. النتيجة التي يمكن أن نصل إليها أن الموقفين الأمريكي والروسي يتمحوران حول فكرة عقد مؤتمر دولي للحوار حول سوريا على الطريقة البوسنية التي حسمت الصراع في مؤتمر دايتون بولاية أوهايو في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995. يدعى جميع الأطراف إلى المؤتمر وتمارس الدولتان الكبريان كل أنواع الضغط للتوصل إلى وقف إطلاق النار والتوقيع على مرحلة انتقالية قد يبقى فيها بشار في موقع رمزي لغاية الانتخابات الحرة والنزيهة وتبدأ حكومة منتخبة ديمقراطيا تقود البلاد إلى مرحلة السلم والبناء والاستقرار. لكن الذي نخشاه أن هناك مجموعات داخلية وخارجية ليس لها مصلحة في رؤية نهاية للصراع في سوريا، وستعمل على تخريب أية محاولة جادة لوقف هذا النزاع. أما بشار نفسه فلا بد أن يتذكر في مثل نجاح هذا السيناريو المصير الذي لقيه كل من سلوبودان ميلوسوفيتش ورضوان كاراجيك بعد استتباب الأمن في البوسنة وصربيا فيعمل على تقويض تلك الجهود ووأدها وهي في المهد.
‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
القدس العربي